الزميل بهجت، الزميل وليد، الأخوة والأخوات
تحيات طيبة (f)
أتمنى أولا إحسان الظن ببعضنا البعض كي نستطيع الحوار بدون حساسية من النقد الذي لا يقدر أن يفلت تماما من مدار "إطلاق الأحكام سلبية على مداخلات الآخرين" في طبيعته. ذلك لأنه إذا لم يكن بمقدورنا أن نتبادل أطراف الحديث بودية وبدون حساسية فلسنا بصدد الحوار، بل بصدد القاء محاضرات من الأفض لأي منا أن ينشدها في مصادر أكثر توثيقا وبحثا واعتدالا على النت وفي الكتب .. وبلغاتها الأصلية. وأتمنى، لو استطعت التمني، الإنتباه أن للأمور أكثر من ظواهرها. فصداقتي مع الزميل "عرفان تيناوي" صاحب الموضوع تتجاوز المعرفة السطحية على النت. ولهذا السبب أتعشم أن أمازحه دون غيره كما أفعل. وأتمنى في النهاية قراءة كل مداخلات المشاركين وبهدوء كي نتحاشى إساءة الفهم أو تكرار ما تم شرحه أو تفصيله سابقا على الأقل في الشريط ذاته.
إن إعتراضي الأساسي هو على الفكرة المركزية للطرح والتي، أنا واثق، هي واضحة للجميع بدون أي التباس: القطيعة التامة مع الإسلام. هذه القطيعة التي تناولها طرح الموضوع الأصلي، والمداخلات التي تلته لا تتعلق فقط بالتطرّف لدى بعض الإسلاميين، بل بالإسلام ككل جملة وتفصيلا وهذا ما عبّر عنه الفاضل "وليد" في رفضه الفكر الديني ككل قائلا "إذا كان لابد من الصدام فليكن إذا مرة واحدة و للأبد".
في مداخلتي السابقة ضحدت، برأيي، محاولة المقال الرئيسي السخيفة نفي مآثر الحضارة الإسلامية في محاولته لنفي أي علاقة بين الإسلام والتقدم. فلو ثبت مثلا أن الحضارة الإسلامية كانت متقدمة -حسب التعريف الكلاسيكي للتقدم والتخلف- على ما جاورها من حضارات لسقطت بذلك نظرية الطرح. مداخلتي السابقة لم تكن عودة الى الأصولية كما استنتج الفاضل "بهجت" بل هي مجرد مداولة لخيط مطروح في أصل الموضوع عقبه مداخلة للزميل "العلماني" (على الهامش). ومن الواضح والبديهي، برأيي، أن من يحاول نفي صفة التقدم عن تلك الحضارة إنما هو يحاول أن يحجب الشمس بإصبع يده .. ولا أفترض مداخلة الزميل العلماني تدخل في هذا الإطار.
إذا، فإن النظرية التي يفترضها الطرح هي خاطئة بكل تأكيد .. والحضارة الإسلامية الغابرة تثبت خطأ هذه النظرية بمنهاج رياضي-منطقي.
هل يعني ذلك أنني أعتقد أن الإسلام هو الحل وأنه سبيلنا للعودة الى ذلك التاريخ؟ كلا، هذا ما لم أقله أبدا. ما ذكرته في مداخلتي السابقة أن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. علاقتنا بها لا تزيد عن علاقة زائر لمتحف من متاحف التاريخ .. إن العوامل التي أدت الى ظهور تلك الحضارة معقدة جدا، كما هو الحال مع العوامل المؤدية الى ظهور أي حضارة، وهي في كنهها توفر الظروف الخارجية (تراكم العوامل البيئيةالتاريخية)، والخصوصيات الثقافية (تراكم العوامل الداخلية)، والفرصة (الحظ).
إن حاضر المجتمعات الإسلامية يختلف كثيرا اليوم، وهذا أمر يديهي. زد على ذلك التراكم الغير مناسب للظروف الخارجية والداخلية التي تواجه هذه المجتمعات. لكن الحل، برأيي، ليس في محاولة الهروب الى الأمام عبر مقاطعة تامة مع طبيعة راسخة من الطبائع الإنسانية كالتديّن. هذه، برأيي، نظرة سوريالية مطلــّـقة ليس فقط من العقل، بل أيضا من الواقع والتجربة التاريخية.
بغض النظر عن كل الإعتبارات الأخرى الى تجعل من هذا الطرح طرحا متخلفا في مقياس النظريات والقيم العالمية السائدة اليوم (في المجتمعات المتقدمة طبعا) .. بغض النظر عن ذلك كله، ما يتم طرحه هو، أيها السادة، لا يتعدى كونه اجترار لتجارب تاريخية فاشلة. فلا الشيوعية أفلحت في هذا الطرح، ولا أفلحت تركيا مصطفى كمال التي تحكمها اليوم - بعد ما يقارب المائة عام – حكومة أسلامية. ناهيك أن الأنظمة القومية العربية التي حاولت قمع التدين لم تفلح سوى في تأليب الجماهير الشعبية عليها.
أود أن أكرر ما ذكرته في مداخلتي السابقة كي لا يكون هناك التباس حول القيم والأسس التي أعتنقها والتي – أعتقد - ترتكز عليها القيم العالمية السائدة والتي هي خلاصة التجربة الإنسانية لليوم:
1. ضرورة إعتماد العلمانية لا تعني ضرورة معاداة الأديان أو التدين. معاداة الأديان هو توجه فردي يعكس ميول صاحبه الشخصية. عندما يكون معاداة التدين موجها الى دين بعينه دون غيره، فهذا لا يمكن فهمه وتبريره، برايي سوى من باب التحامل الناتج عن التجربة الشخصية والتشكيل الثقافي الفردي.
2. القيم والقوانين العالمية للحريات وحقوق الإنسان تكفل لكل شخص حرية الإعتقاد والممارسة بما في ذلك حرية الإعتقاد والممارسة الدينية. فرض مقاطعة الممارسة الدينية، مهما كانت، بالقوة يتعارض مع روح الإعلان العالمي للحريات وحقوق الإنسان.
3. الخلق الديمقراطي، تعريفا، هو خلق تعدّدي يتقبل الآخر، آراءه، وحقوقه. والديمقراطية في روحها، ولو تعددت أشكالها، تعني في النهاية حكم الشعب. لا يمكن تعريفا إذا إقصاء شرائح إجتماعية عن الممارسة السياسية دون الإخلال بالنظام الديمقراطي، خصوصا عندما يكون هذه التوجه المراد إقصاءه متفشيا لدى الشعب.
4. أخيرا، وهذا أعتبار شخصي لدي يعكس توجهى الوجودي، لا أعتقد شخصيا بوجود نظام أخلاقي ثابت أو نظام أخلاقي معين يتفوق على غيره في الصلاحية. كل النظم الأخلاقية متكاملة إذا ما تمت معاينتها من معاييرها الداخلية. إن صلاحية أو عدم صلاحية أي نظام أخلاقي هو في حقيقته أنعكاس لتحيزات المراقب الخارجي الشخصية. هذه نظرة مقتضبة جدا وتحتاج الى الكثير من التوسيع لكن، إذا تقبلنا هذه المعطيات كبديهيات قابلة للتأكيد، سينتج عن ذلك الإنهيار الكامل لمفهوم "الأخلاق العالمية الثابتة" بما في ذلك القيم الأخلاقية المرتكزة على الدين. ما يلي طبعا هو أخلاقي فوضى تتصادم فيها القيم الفردية. بالتالي تأتي ضرورة إيجاد عوامل التعايش المشتركة التي تسمح لكل هذه الأطر المرجعية الفردية أن تتعايش دون أن يطغى أحدها على الآخر. بمعنى آخر أيها السادة، تأتي ضرورة اعتماد الليبرالية ليس فقط لضمان حريات الأفراد بل أيضا كوسيلة لحماية الفرد من ديكتاتورية الأغلبية (الديمقراطية).
إذا، من جديد، لا نريد قطيعة بين العلمانية وتياراتها النهضوية وعقائد الناس وتاريخهم وتراثهم والغابر من حضارتهم. نحن لا نعادي أديان الناس، ولا نحتقرها، ولا نريد القضاء عليها. نحن نريد فقط إيجاد القواسم المشتركة لتعايش يحترم حقوق الجميع، وحريات الجميع، ومعتقدات الجميع. هكذا بكل بساطة. وبرأيي، من جديد، اي صيغة أو صيغ لا تحترم هذا الإطار هي صيغ فاشلة بدلالة التجارب المتعددة لهذه الأنماط كما أسلفنا في هذا الشريط.
آتي في نهاية عرضي على بعض النقاط الهامشية التي أثارت بعض التساؤلات:
*1* الثورة اللوثرية، وإن أدّت في بعض تمظهراتها (instances) الى عودة الى العهد القديم كما هو حال بعض التجمعات الأصولية في الولايات الأمريكية الجنوبية، غير أن الهدف الأساسي من الثورة اللوثرية كان اللإنفلات من مركزية المرجعية الدينية ؛ أي في الحقيقة العلمنة وفصل الدين عن الدولة. وفي الحين الذي حررت فيه الثورة الفرنسية فرنسا من هيمنة الكنيسة عبر اسقاط النظام الملكي، حققت الثورة اللوثرية ذات النتيجة في بريطانيا ولكن مع الحفاظ على النظام الملكي: الثورتين كانتا تمظهرين لهدف واحد.
**2** في الحين الذي استند فيه الأفغاني ومجمد عبده والكواكبي الى التطورات السائدة في الفكر الغربي في فكرهم النهضوي، غير أنهم أستطاعوا التوفيق بين ذلك وبين إسلامهم. وهذه هي النقطة التي إردت إظهارها وذلك أن الفكر – بما في ذلك الدين - يأخذ شكل وعائه. فإذا كان الوعاء نهضويا، أخذ الفكر طابعا نهضويا، وإذا كان رجعيا أخذ الفكر طابعا رجعيا، وإذا كان متطرفا أخذ الفكر طابعا متطرفا. هذا الإطار التفكيري ينطبق على كل النظم الفكرية وليس فقط الدين. بإمكاننا، مثلا، معاينة وتقييم العلمانية في الإطار ذاته واستنتاج النتيجة ذاتها. ستالين، مثلا، كان علمانيا. ومجتمعاتنا مليئة بنماذج علمانية متخلفة ومتطرفة أيضا.
***3*** إن تراجع النهضة العربية، برأيي، لم يكن بسبب عدم مقاطعة مفكريها لتراثهم الإسلامي (ولم يكن كل مفكري النهضة مسلمين). العوامل التي تسببت في تراجع النهضة هي أكثر تعقيدا من أن تسمح بمثل هذا التسطيح والتبسيط. هناك تراكم لعوامل خارجية كالمشروع الصهيوني (استنزاف القدرات وتبرير غياب المسائلة) والحرب الباردة (عودة الإستبدادالديكتاتورية) واكتشاف النفط (فائض البترودولار لدى الوهابية). وهناك ايضا تراكم لعوامل داخلية متعددة وسعتها سابقا في سلسلة مقالات
عن الديمقراطية وعوائقها في العالم العربي.
أعتذر للإطالة ولأي تأخير مستقبلي في الرد. سأحاول المتابعة قدر المستطاع.
تحياتي للجميع