قصة فرانكو-آراب1
أرجو ممن يقرأ هذه السلسلة السماح إثر انقطاعي عن الكتابة لفترة طالت قليلاً. ولكن هأنا أعود لأخبركم قصة من مذكراتي ومذكرات الجيل... حاشاكم...
بعض منكم يذكر تحسين، فقد مر ذكره سريعاًً في قصيدة إبان حرب لبنان في تموز الماضي، وهأنا الآن أسرد لكم قصته من طق طق إلى السلام عليكم....
لست هنا لأحاسبه على ما فعل في شبابه أو بالأحرى صباه... فمع كونه عربياً، فقد خدم الجيش الفرنسي لسنوات بعيد الحرب العالمية الثانية. ولهذا السبب منع من العودة إلى بلده، واعتبره الكثيرون خائناً !
لا أريد أن أحكم عليه لعدة أسباب، كوني جاراً منذ سنين لابنه الوحيد الأعزب ذي الأربعين عاماً، ولأن قلبي تقطع عندما زرته مؤخراً في مأوى العجزة، والسبب الأكبر هو عدم رغبتي في الدخول بنقاش طويل غير مجدٍ حول كون تحسين ذي الثمانين عاماً خائناً أم لا...
فرنسوا، ذاك الجار الفرانكو-أراب، لم يتمالك نفسه عندما علم بعد طول جيرة بأنني سوري. دعاني إلى العشاء، وقص علي قصة أبيه منذ حط الرحال في طولون ثم مرسيليا. كيف خدم الجيش في المارتينيك، كيف التقى بوالدته، وكيف أمضى عمره ينفق على والديه وإخوته الذين لم تنقطع رسائلهم إلا عند مشيخه.
كان فرنسوا مؤمناً بعظمة بلادنا وأهلها، خصوصاً وأنه رأى ما رأى من تضحية أبيه من أجل أهله في بلده ومن أجل عائلته. وهذا ما جعله يتشبث بي، ويمضي معي سهرة مطولة حول البلد التي لم يطأها ولم يرها !
لم تمض بضعة أيام إلا كنت متوجهاً برفقته لزيارة والده تحسين في مأوى العجزة. كانت فرحة تحسين لا توصف عندما رآني وتكلم معي بالعربية التي اشتاق إليها منذ سنين. بقي ساعات طوال يحدثني عن قريته التي تطل على نهر العاصي، جمالها، طيبة أهلها، عائلته هناك. كل ذلك مصطحب بتشنجات في صوته محاولاً كتم دموع تغلبت عليه في النهاية.
كان عهده بإخوته وأولادهم انقطع منذ ساءت حالته الصحية والمادية. ولكنه كان مؤمناً بحبهم له ورغبتهم في العودة إلى مراسلته. لذلك، فقد أملى علي رسالة مليئة بالمشاعر والحنين، كتب عليها أسماء إخوته وأولادهم، عساني أوصلها إليهم عند زيارتي القريبة إلى الوطن.
لن أستطيع أن أصف شعوري بعد هذا اللقاء ببضع كلمات أكتبها هنا. حملت الرسالة، ووعدته بإيصالها قبل أن أودعه، وبقيت أمشي كالتائه في طرقات المدينة وألتجئ إلى مقاهيها حتى منتصف الليل.
كانت الأسئلة تدور في خاطري دون جواب، أو دون الرغبة في الجواب.
هل فقدنا شيئاً في هذه الغربة ؟ وماذا كسبنا ؟
ألم نكن غرباء في بلادنا أيضاً ؟
ماذا تبقى منا هنا، من ماضينا وطفولتنا وأهلنا ؟
كان المشي والبرد والنظر في وجوه الآخرين وأخيلتهم وسيلة لأخفف قليلاً عن هم تلك الليلة وأثرها...
سأوصل الرسالة، وسأكمل لكم ما حصل عندها قريباً جداً.
(f)