2
بَحَثَ الحلاج عن الحقيقة، ووجدها مبكرًا، إذ قال:
- "دلَّلني [الله] دلال المعرفة والمحبة والعشق الأبدي دلالاً لا أطيقه. [...] خلِّصوني من الله [...]." فقالوا له:
- "ما هي الحقيقة التي وجدتَها؟!" فقال لهم:
- "أنا الحق!"
فعرفوا أن جبال أوهامهم ستذوب، فقالوا: "كفر الحلاج... إنه زنديق، صوفي، باطني، إلخ." عرفوا الحق أنه "الله"، ولم يعلموا أن الله بين الأضداد حقٌّ يُرى، وأنه كلُّ شي في كلِّ شيء، وأنْ "ليس كمثله شيءٌ" (الشورى 11).
هكذا نطق بالحقيقة أبو المغيث الحسين حين قال: "مَن أنا في البَيْن حتى أجعل الواحدَ اثنين؟!" – مستنبطًا أن "الحق" هو "الإنسان المتحقق"، إذ قال: "أنا الإنسان!"
وحينما قال بوحدة شهود الله في العالمين، علموا أن مُلكَهم زائلٌ لا محالة! أجل، قال بوحدة الشهود التي يشهد بها الإنسانُ ذاته من أجل أن يسنَّ قانونَه، ويُظهِرَ إبداعَه، ويحقق عدالةَ السماء في ذاته، ويتكامل مع مخلوقات الله في وحدة العشق ونَفَس المحبة والسلام.
رسم الحلاج طريقَه بقوة التأمل، وإبداع التفكير، وتدوين الحق كسلوك نقيٍّ خالص، لا ينفك أبدًا يفضح عري المنافقين والمنتفعين، أربابِ الحرب وتجَّار الوهم.
ترك الحلاج توسلاتِ العقول للنصوص المقدسة في استظهار المعنى الكوني والإنساني، وهجر أحاديثَ التاريخ التي شنقت الأحرار على أعمدة معابد الخوف والتردد والصمت المرعوب التي نَخَرَها الزمنُ وتلاعَب بها أزلامُ الحاكم والفقيهُ المتعهِّر بأموال السلاطين والسلطانُ المتفقِّه بعهر الفقهاء.
فكيف نرى "لحظة" حرية الحلاج؟ – تلك اللحظة الإنسانية الرائعة في تدوين المعرفة الإبداعية في الكون بأسره، تلك اللحظة التي هي "زمن الله" في قلب الإنسان الحر.
يحب الحياة والإبداع، ويشاهد حقيقة التنزُّلات الإلهية التي لا تكرار لها، لأن الله "لا يكرِّر فعلَه مرتين": فهو العطاء، والإبداع اللامتناهي، المتواصل في قلوب الأحرار وعقولهم، الذين لا يصمتون أمام الحق، إذ إن وجودهم فضيحة المتعسكرين باسم الرب، الذين حوَّلوا الدين ثكنةً عسكرية، والعبادَ مشاريعَ موتٍ مجانيٍّ على مذبح أمانيهم المريضة.
لهذا جسَّد الحلاج أجمل قيمة إنسانية أرادت للمعرفة والفكر الاعتراضَ والنقدَ لسلطة الدين والدنيا، التي تفنَّنت في ابتكار صنوف العبث والاستحواذ والهيمنة على كلِّ شي، – وذلك كله يحصل باسم الرب، – ومارست أبشع أنواع التنكيل في حقِّ أهل التأمل الحق والروحانية النقية والمفكرين والمثقفين والمبدعين لأنهم سيكشفون عريها الحقيقي.
لهذا كان الحلاج – ومازال، هو ومَن ساروا على دربه – علامةً واضحةً من علامات الإنسان المبدع في كشف المستور، وفضح المضموم، وإعلان اللامفكَّر فيه والمسكوت عنه، وقتل الرب المكنون في عبث السلاطين.
كان الحلاج فردًا بقوة أمَّة بكاملها، لأنه "أمَّة" من المعرفة والفكر النقي والتأمل الخالص والسلوك الروحي الذي يعشق الحياة بقوة الرحيل، كي يترك لأخيه الإنسان مكانًا عامرًا بالوعي والفكر الناضج، ويمنح الآخرين مفاتيح حريتهم وسلوكهم كبشر أحرار يمتلكون حريتهم الذاتية – تلك الحرية التي لا تُمنَح أبدًا، بل تؤخذ بقوة المعرفة والنضج الإنساني الحق.
عندما نتكلم على الحرية، علينا أن ننظر حقًّا إلى صورة عيسى المسيح بالحب، والحسين الشهيد، والحلاج الإنسان، وغاندي الرحيم، وسائر المذبوحين على طريق المحبة والنقاء، ونتأملهم: هل لنا أن نواصل الطريق بلا قرابين، بلا مشاريع للموت المتواصل، بل بقوة الحياة، بكلِّ جوانبها المعرفية والروحية والإنسانية؟!
سلامٌ، "حلاجَ المحبة"، على الروح التي سكنت جسدك الطاهر والتي طالبته بالرحيل مباركًا، فأبتْ أن تدخله مرة أخرى، لأنه أمسى مملكةً عبث بها الصبيانُ وتربَّع على مُلكها بالقوة والسلطة المفرطة فقهاءُ الموت والتحزب.