( الحاضر صورة المستقبل ) .جون كينيث جاليبرث- مفكر إقتصادي .
الجزء الأول : مقدمة
مع نهاية القرن 19 وفي الأعوام التالية شهد العالم تبدلات لم يكن ممكنا توقعها .. الشركات العملاقة ، نقابات العمال ، الثورة البلشفية ، تأسيس مجتمعات شيوعية و تحللها ، الكساد الإقتصادي ثم عودة إزدهار الرأسمالية الغربية ، حربين عالميتين و حرب باردة ، الوفرة المتزايدة ثم ندرة الموارد الطبيعية و أزمة الطاقة ، الطبيعة المتغيرة للنقود ، الدور الجديد للبنوك المركزية ، تضاؤل دور الزراعة و التوسع العمراني ، تفاقم الفقر في المدن ، صعود و أفول دولة الرفاه ، و الإستبعاد الإجتماعي ، الإمبراطورية الأمريكية ، يقظة المارد الصيني و النمور الأسيوية ، تفجر الأصولية الإسلامية .. كل هذه التغيرات غيرت العالم و بشكل لا يمكن النكوص عنه .
عندما نتابع الحوارات التي تتناول أحوال العالم نشعر أن المتحاورين يتحدثون عن عوالم مختلفة و ليس عن عالم واحد نعيش فيه جميعا ، وهذا يعني أنه لا يتوفر لنا نموذج متفق عليه عن العالم الذي نتحدث عنه . في هذا الشريط سأجتهد في وضع تصور موجز عن العالم المعاصر كيف ظهر و من صنعه و كيف أراه ؟، لن أزعم أني سآتي بشيء طريف أو جديد كلية ، أو أن هذا النموذج يجب أن يكون موضوعا لإتفاق بالنسية العربية الشهيرة 99.9 % ، حتى النصف + 1 سيكون ما فوق الكفاية ، فمثل هذا الإجماع لن تجده على الشبكة أو أي مكان آخر .. هناك قصة قصيرة لكاتب ياباني شهير تتحدث عن صديقين دخلا الغابة فقابلهما لص ،و بعد صراع طويل بين الثلاثة خرجوا من الغابة ليروي كل منهم -بكل الصدق- قصة مختلفة ، أما حقيقة ما حدث فلن يعرفها أحد ، و حتى اللص سيدعي أنه الذي سرق متاعه ، و عندما تكتشف الحقيقة بعد فترة فلن يهتم بها أحد ، ففي الغابات كما في الحياة لا شيء يُدعى الحقيقة الكاملة ، هناك فقط أنصاف الحقائق و أرباعها ،و بتلك الأجزاء يعيش الإنسان مخلصا لتحيزاته و أوهامه .
فقط أزعم أني أقدم رواية متماسكة ، ستكون متاحة للجميع كي يرفضها من يشاء ،و أن يعدلها أو يقبلها من يريد ، بعد مداخلات قليلة سيكون الشريط متاحا للجميع للحوار ،و لن يسعدني شيئا مثل أكثر المداخلات مفارقة و أبعد الرؤى عما آراه ، مذكرا الجميع أن الأفكار ليست منعزلة عن الواقع الذي تفسره ، و كما أن الواقع في صيرورة دائمة فكذلك الأفكار .
البداية .
منذ نهاية القرن 19 أصبح هناك نقد واسع ضد خشونة النظام الرأسمالي و الآلام التي سببها للمجتمعات الصناعية و المستعمرات على السواء ،و بدأت الحكومات الغربية تسلم بأن واجباتها تتخطى النظام الداخلي و الأمن الخارجي و أنها أمينة على حياة المواطنين و سعادتهم ، هكذا تولد الوعي بضرورة تطوير الوظيفة الإجتماعية للدولة لتلافي الآثار السلبية للرأسمالية و التخفيف منها . في ظل التوترات الإجتماعية العنيفة و نشاط الأحزاب الثورية و بإلهام أفكار كارل ماركس ، شهد العام 1917 نجاح الثورة البلشفية في روسيا و تأسيس الإتحاد السوفيتي في ديسمبر 1922 تحت قيادة فلاديمير إيليتش لينين كأول دولة شيوعية في العالم ، ومنذ البداية خضعت الدولة لحكم الحزب الواحد الشيوعي ( البلشفي ) ، بينما ادعى البلاشفة أن الديمقراطية المركزية تعكس إرادة الشعب ، بهذه الخطوة التاريخية ظهرت دولة ديكتاتورية البروليتاريا التي تنبأ كارل ماركس أنها ستقود البشرية إلى مرحلة الشيوعية و إنهاء دور الدولة كأداة للقهر و الظلم ، أما في الغرب فإن النمو الكبير في الدور الإجتماعي و الإقتصادي للدولة لم يصبح ملحا سوى مع الكساد العظيم (Great Depression) الذي ضرب الإقتصاد العالمي ، و تقليديا تؤرخ البداية الرسمية لهذا الكساد بالإنهيار المأساوي في سوق الأوراق المالية في وول ستريت (نيويورك) يوم الثلاثاء الأسود 29 أكتوبر 1929 . أدى الكساد إلى نتائج مدمرة على الدول الصناعية الكبرى و الدول المصدرة للمواد الخام على السواء ، فانهارت التجارة الدولية و أصبحت الدخول الفردية غير قادرة على الوفاء بالحد الأدنى لإحتياجات المواطن حتى في الدول الكبرى ،و توقفت حركة العمران في كثير من أنحاء العالم ، كما انهارت أسعار المحاصيل الزراعية و هبطت بنسبة فاقت 60% في بعض الحالات ، نتيجة هذا الكساد تحولت الديمقراطية الليبرالية إلى الدفاع ، بينما استغلت الحركات الشمولية المصاعب التي يمر بها الإقتصاد في تعبئة الجماهير وتأسيس نظم جماعية شملت العديد من الأقطار الأوروبية مثل إيطاليا و ألمانيا و الإتحاد السوفيتي الذي شهد مرحلة الستالينية .
لم يكد الإقتصاد العالمي يتعافى ببطء حتى نشبت الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا بالكامل و استنزفت ثرواتها ، مع هذا كله أصبح تدخل الدولة مطلوبا بشدة ،و منذ منتصف القرن الماضي بدأت معظم الدول المتقدمة تقيم نظما شاملة للضمان الإجتماعي و تأسيس دولة الرفاه Welfare State، في تلك الأثناء كان الإتحاد السوفيتي يقدم لمواطنيه أعلى حزم من الرفاه في مقابل الحرمان الكامل من الحريات ، أما في خارج الإتحاد السوفيتي فقد اختلفت عناصر الحزمة من مجتمع لآخر .
لم تكن الدولة في الغرب هي الممول الأساسي للرفاه فحسب ، و لكنها أيضا أصبحت اللاعب الاقتصادي الرئيس عن طريق تملك مصادر هامة للخدمات و الإنتاج خلال عمليات التأميم الواسعة التي تمت ، أما على المستوى الشعبي فقد ساند الناخبون تلك السياسات متأثرين بما لمسوه من نتائج ايجابية لسيطرة الدولة على الإقتصاد خلال فترة الحرب . لم يكن تملك الصناعة وحده كافيا ، فقد شعرت حكومات ما بعد الحرب العالمية الثانية بضرورة السيطرة الكلية على الاقتصاد و ضبط آليات السوق ، و في عام 1944 حضرت 44 من الدول الصناعية المؤتمر الدولي للنقد في ( برتون وودز ) ،حيث تقرر إنشاء البنك الدولي (World Bank) و صندوق النقد الدولي (IMF) ، كان الهدف من البنك الدولي الذي تكون في البداية من البنك الدولي للإنشاء و التعمير IBRD)) ،و الإتحاد الدولي للتعمير (IDA) هو المساعدة في إعادة بناء أوروبا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية ، و بعد تعمير ما خربته الحرب ركز البنك نشاطه على مساعدة الدول النامية خاصة في بناء البنية الأساسية ، و يركز البنك نشاطه حاليا على تحقيق أهداف التقدم في الألفية الجديدة (MDGs), من أجل التنمية المستدامة و التخلص من الفقر ، و يقوم البنك بدوره عن طريق تقديم القروض منخفضة أو معدومة الفائدة و أيضا تقديم الهبات للدول الأشد فقرا ، و يحصل البنك على الأموال اللازمة لنشاطه من 40 دولة مانحة تستعوض أموال البنك كل 3 سنوات ، و البنك لا يقدم القروض للدول النامية فقط بل يقدم أيضا المشورة الفنية و التحليلات الإقتصادية ، أما صندوق النقد الدولي فهو مؤسسة دولية واجبها الإشراف على نظام التمويل العالمي ، و يقوم بذلك عن طريق مراقبة أسعار الصرف و ميزان المدفوعات ، بالإضافة لتقديم مساعدات مالية و فنية ، و لكن يؤخذ عليهما فرض شروط على المساعدات غالبا ما تشمل على برامج مرهقة للهيكلة البنيوية ، يكون ضحاياها عادة من الشرائح الإجتماعية الأشد فقرا .
خلال مؤتمر ( برتون وودز ) تم أيضا إعتماد الدولار الأمريكي ليكون العمود الفقري للتبادل التجاري الدولي ، وفي النهاية تم توقيع الوثائق الرسمية للمؤتمر في القاعة الذهبية ،و التي جائت بتنظيمات دقيقة لسوق الأوراق المالية ، أما على مستوى النظرية الإقتصادية فقد حلت أفكار كينز Keynes ( جون مينراد كينز ) محل الليبرالية الكلاسيكية و التي كانت تترك لآليات السوق حرية تنظيم الحياة الإقتصادية . يعتبر كينز هو مؤسس علم الإقتصاد الشامل "Macroeconomics" كما هو معروف الآن ، بينما كان كينز يطالب بضرورة تدخل الحكومات في الإقتصاد ، و توفير الوظائف التي لا يمكن توفيرها بشكل طبيعي وفقا لآليات السوق ، و هكذا ظهر نموذج إقتصادي جديد تماما في بريطانيا العظمى و انتشر منها إلى أوروبا و يقوم على دولة رفاه كبيرة تملك فيها الدولة للصناعات الرئيسية ، و تدير حكومة التدخل استراتيجيات تنمية قومية تسيطر عليها الدولة ، بالرغم من وجود ثغرات في ( النظرية العامة) لكينز منذ البداية إلا أنها لاقت قبولا على نطاق كبير ، كان من تلك الثغرات إفتراض كينز أن التضخم يحدث فقط عند إقتراب المجتمع من التشغيل الكامل للعمالة و لكنه تلاحظ حدوث تضخم في مجتمعات تعاني من البطالة الشديدة (Stagflation) ، رغم ذلك فنفس النظرية العامة مازال لها قبولها في الإقتصاد الشامل الحديث ،و يعزو كينز البطالة إلى معدلات إدخارية عالية أو نقص في الإنفاق الإستثماري .
يكشف تقرير ويليام بيفريدج عام 1942 عن ملامح دولة الرفاه كما ظهرت في بريطانيا ، و التي كان عليها وفقا للتقرير أن تكافح الشرور الخمس في المجتمع وهي التشرد و الجهل و الحاجة و التعطل و المرض ، و عقب الحرب العالمية الثانية اتخذت الدولة إجراءات متعددة لمكافحة تلك المثالب ، و كانت دولة الرفاه تعني في عبارة مختصرة رعاية الدولة للأفراد من المهد إلى اللحد ، و أدى هذا المفهوم إلى زيادة هائلة في الإنفاق العام و توسع كبير فيما يعتقد أنه واجبات الدولة ، و بالتالي فقد امتد تدخل الدولة ليشمل إعادة توزيع الأعباء ليقع الحمل الأكبر على الأغنياء ، و شمل أيضا التدخل لحماية المستهلك و التوسع في مفهوم الفقر الذي يجب مكافحته ليشمل العديد من المعايير النسبية ، أما الأسباب الأعمق لإنشاء دولة الرفاه فهي أكثر تعقيدا ، أهمها وجود تهديدات من الأفكار الراديكالية اليسارية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى كذلك الحاجة إلى تعليم أفضل و مستويات صحية أعلى للتعامل مع الموجة الصناعية الجديدة ، و لكن هناك من يعتقد أن السبب الرئيسي هو إحجام البيروقراطية على تسليم سلطاتها التي حصلت عليها أثناء إدارة الدولة في زمن الحرب ، و في بريطانيا مثلا تضاعفت نسبة ما ينفق على خدمات الرفاه من إجمالي الناتج المحلي أربع مرات فزاد من 5% فقط عام 1945 إلى 20% عام 1975 ، و ارتفع الإنفاق على الخدمات الصحية الوطنية من 200 مليون جنيه عام 1951 إلى 5596 مليون عام 1975 أي 28 ضعفا تقريبا ، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فجاء التوسع في الإنفاق الإجتماعي متأخرا ، ولم تظهر الدولة اهتماما ملموسا في توسيع ميزانية الرفاه سوى في إدارة كينيدي-جونسون ( 1961-1968) ، وفي عام 1964 فقط أعلن جونسون "حربا وطنية على الفقر" .
في المقابل و بسبب الإنتصارات السوفيتية على النازية في الحرب العالمية الثانية ، احتل الجيش السوفيتي أراضي العديد من الدول في شرق أوروبا و شرق آسيا ، نتيجة لذلك أسست دولا شيوعية بمساعدة الإتحاد السوفيتي في بلغاريا و تشيكوسلوفاكيا و شرق ألمانيا وبولندا و المجر ورومانيا ، كما أسست دولة شيوعية تحت قيادة المارشال تيتيو في يوغسلافيا و تحولت ألبانيا إلى الشيوعية ، وفي عام 1949 استولى الشيوعيون على الصين و أسسوا دولة شيوعية فيها على النهج الماوي ( ماو تسي تونج ) ،و قد نشطت الشيوعية في أجزاء عديدة من العالم و قادت بالفعل حركات تمرد قوية في أقاليم أخرى مثل فيتنام و كوريا ولاوس ، و أجزاء من افريقيا و الشرق الأوسط ، و مع بداية السبعينات ظهر إلى الوجود تعبير الشيوعية الأوروبية Euro-communism ،و الذي استخدم للإشارة إلى الأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا ،وهي أحزاب شيوعية أدخلت تعديلات هامة على الأفكار الشيوعية التقليدية ،و اختلفت في نهجها عن تجربة الإتحاد السوفيتي كما رفضت تقديم الدعم غير المشروط لسياسات موسكو ، كانت تلك الأحزاب نشطة سياسيا ، كما أنها كانت تحوز على نسبة عالية من الأصوات خاصة في إيطاليا (PCI), و فرنسا (PCF), و إسبانيا (PCE) ، بل كاد الحزب الشيوعي الإيطالي أن يحصل على الأغلبية و بالتالي يكون مهيئا لتشكيل الحكومة في إيطاليا في منتصف السبعينات .
للموضوع تكملة و لكني سأرحب بأي تعليقات فورا .

العزيز بهجت
تعبير " كيف يصنعون الازمنة الحديثة" يعطي انطباع الارادية والمؤامرة، كما ان تعابير السرد لاتساعد على كشف الميكانيزم الرئيسي للمسار التاريخي للاحداث.
برأيي، وفي ظل الانتشار الكبير لنظرية المؤامرة في العقل العربي، ومن واقع ان فهمنا للاحداث يجري من رصيف اخر (على قاعدة ان الضفدعة لاترى الا رقعة السماء التي تظهر لها من البئر فتعتقد انها السماء كلها) لابد من الاشارة الى ان اي تطور للاحداث هو حصيلة محصلة القوى من خلال رؤية لحظية تحكمها موارد محدودة وسقف معرفة محدود متتداخل وقائم على التجربة.
هذا الطرح ليس من اجل اصدار حكم على اسباب سير الاحداث ولكن من اجل اختيار تعابير لاتغلق هذه الرؤية فالتاريخ غالبا يسير على قاعدة ليس بالامكان افضل مما كان، والصياغة التي تعطي الانطباع بوجود الارادة في صنع التاريخ تساعد من يطرح من خلال زاوية " الضحية والمؤامرة".

ان حركة تطور النظام الرأسمالي تشير بوضوح الى ان القول الفصل لم يكن للرأسمال او الرأسمالي كفئة اجتماعية وانما لمجموع القوى من خلال تنازلات مشتركة في سبيل الوصول الى حلول تراعي مصالح الجميع من خلال الوعي بان تنظيم المجتمع على اساس الانتاج الرأسمالي هو خطوة تقدمية تاريخية يكسب الجميع منها. إن انتصار الخيار الرأسمالي هو اعتراف من قبل كافة القوى الاجتماعية بالافضليات التي يقدمها، ويبقى الصراع من اجل إعادة تحديد حصص الجميع من الكعكعة التي يقدمها التنظيم الجديد للمجتمع. المجتمع الرأسمالي الاول كان مختبرا كشف ان افضل الارباح يحصل عليها من يكون في المقدمة، مما اشعل فتيل السباق.

ومع التطور اصبح واضحا ان " التنظيم" يمكن ان يشمل الارض بأكملها ويقدم افضليات للجميع احسن من التي كانت قبل التنظيم، وروح السباق جعلت الارض بأكملها ساحة التسابق مما دعى الى ضرورة خلق مؤسسات البنية التحتية للعولمة بما فيها فرض المنظومة السياسية كوحدة للمسؤولية الجماعية. بإختصار فأن ماجرى هو " إكتشاف" ان التنظيم الجديد يقدم افضليات اكبر للجميع، وإن تخلف الوحدات الاجتماعية في زوايا الارض ليس مبررا للانتظار بل دافعا للتسريع في ساحة المنافسة.

ان مهمة المجتمعات العربية ان تستوعب ميكانيزم النظام الجديد وان تبدأ بالمشاركة في اللعبة كالاعب محترف وتنتهي من اسلوب التباكي وتمثيل دور الضحية. ان كون اكتشاف " النظام" هو من خارج منظومة الثقافة المحلية لايبرر الاستمرار في هذه العبثية، فقد اصبحت المجتمعات الاسلامية بأكملها مبنية على اساس هذا النظام وجزء منه وحان الاوان لتتعلم كيفية الوصول الى مكان في مقدمة السباق بدون ابتزاز او استجداء

( عندما تتطلع الشعوب إلى المستقبل ستنسي ماضيها ، و سيغلف النسيان حتى الذين ضحوا من أجل صناعة المستقبل) الأخ طريف سردست .
يسرني مداخلتك و لا أكاد أجد ما أختلف معك فيها ،فقط أحب التعليق على جزئيتين .
Arrayالعزيز بهجت
تعبير " كيف يصنعون الازمنة الحديثة" يعطي انطباع الارادية والمؤامرة، كما ان تعابير السرد لاتساعد على كشف الميكانيزم الرئيسي للمسار التاريخي للاحداث.
...........................
[/quote]

هدفي من هذا الشريط هو تقديم رواية .. مجرد رواية لما أراه المسار الرئيس للأحداث التي قادتنا إلى العالم المعاصر .. وهذا شيء مختلف عن التسجيل التاريخي فالمسارات التي توقفت و لم تعد مؤثرة مثل الشيوعية و التيارات القومية الشوفينية لن تلقى عناية ، في هذا الشريط أتبنى مقترب أن الإقتصاد كان هو القوة الدافعة للتاريخ المعاصر ، ولهذا فكل تركيزي عليه .
ربما سيرى بعض الزملاء أن الأرقام غمرت الموضوع كله ،و لكن هل هناك إقتصاد بلا أرقام ؟، لم يعد ممكنا لأحد أن يعيش هذا العصر و أن يهتم بالشان العام دون أن يحسب كثيرا ،و الأهم أن يقرأ السياسة و الإجتماع بل و حتى العقائد في البيانات الرقمية . عندما نقول أن متوسط دخل الفرد في إسرائيل مثلا أكثر من جيرانه شيء و أن نقول أن متوسط دخله يعادل 15 او 20 ضعف دخل المصري أو السوري فهذا شيء آخر ، و عندما نقول أن أسعار البترول تضاعفت خمس مرات ، فهناك من سيقرأ في ذلك أن عدد الجثث في الشوارع العربية وربما العالمية ستتضاعف بنفس النسبة أيضا .
أما التحليل و محاولة استنطاق الظاهرة و كشف قوانينها، فهي مرحلة تالية لتبني نموذج بعينه للعالم المعاصر يكون له قدرة تفسيرية مقنعة و هذا ما أحاوله .

Arrayوالصياغة التي تعطي الانطباع بوجود الارادة في صنع التاريخ تساعد من يطرح من خلال زاوية " الضحية والمؤامرة"...........................[/quote]

عزيزي .. الإرادة لا تعني المؤامرة أو لا يجب أن تعني ذلك ، و عمليا فإني بالفعل أتبنى الموقف التاريخي الذي يرى للإرادة الإنسانية دورا محوريا في صنع التاريخ ، فالأحداث لا تعمل بدوننا ، و هكذا أيضا فإني أرفض الموقف التاريخاني الذي يرى التاريخ محكوما بحتميات و مسارات و خطة مسبقة من أي نوع .
و اسلم لكل خير .

( إن أبي لم يشاغب بل ركب دراجته باحثا عن عمل ) نورمان تيبت - وزير في حكومة تاتشر.
( ما يفيد بوينج يفيد أمريكا) .بيل كلينتون .
الجزء الثاني
الليبرالية الجديدة.
جاء انهيار الكينزية بشكل فجائي نتيجة القفزة الهائلة في أسعار النفط عام 1973 ، فقد أدى الإرتفاع المفاجئ لسعر البرميل من 1.76 إلى 20 دولار خلال أشهر قليلة إلى إنكماش اقتصادي عالمي و تضخما في الأسعار وصل إلى 20 % في بعض الأقطار ، كما عجزت دول العالم الثالث عن خدمة ديونها ، أدى ذلك كله إلى أن الحكومات صارت تؤمن بأن المشكلة ليست في الإدارة بل في النظام السائد نفسه ، تطلبت الأزمة وقتها أسلوبا جديدا مختلفا في إدارة الإقتصاد يقوم على الكبح المالي و ضغط الإنفاق و محاربة التضخم و تحجيم القطاع العام ،و هذه السياسات الجديدة تبناها كارتر في الولايات المتحدة الأمريكية و جيمس كالاهان في بريطانيا ،و تبعتهما معظم الدول الأوروبية ، كما هو متوقع و رغم سقوط الكينزية فقد استغرق الأمر بضع سنوات لظهور شكل جديد للراسمالية بأيديولوجية جديدة .
في 3 مايو 1979 تسلمت مارجرت تاتشر السلطة في بريطانيا العظمى ، و تبعها رونالد ريجان إلى البيت الأبيض عام 1980 ، و كان كلاهما ينتميان إلى اليمين المتشدد ،و ظهر تعبير الليبرالية الجديدة ،وهي السياسة التي جائت في صورة انقلاب على الكينزية التي سادت في الغرب عقب الحرب العالمية الثانية ، و تعرف الليبرالية الجديدة أحيانا باسم التاتشرية – الريجانية ، و الليبرالية الجديدة تطبيق لتعاليم فريدريك فون هاييك و تلميذه ميلتون فريدمان ، و جدير بالذكر أن تاتشر من تلاميذ هاييك أيضا ، و قد تبنى العالمان السوق الحرة بحماس ، مع العداء بإصرار لمفهوم الدولة المتدخلة ، و هما يؤكدان على أن السوق الحرة قادرة على الإنتاج و توزيع السلع و الخدمات بشكل أفضل من الدولة ، و أن تدخل الدولة لإصلاح إخفاقات السوق تضر أكثر مما تفيد ، و لا توجد أيديولوجية واحدة تربط التاتشرية بالريجانية ، و لكن جمعهما ما يمكن أن يكون صفة النفي ، إنها الرفض لجميع أركان الإجماع الكينزي مثل الإقتصاد المختلط و غايات التوظيف الشامل و دولة الرفاه ، لقد تبني اليمين الجديد سياسات مثل التخفيض الجذري للضرائب ،و خصخصة وظائف و خدمات الدولة و تكليف مؤسسات أخرى القيام بها ، فاليمين الجديد يرى أن عقلية الرفاه قد نشرت البلادة و روح التواكل ،و الليبرالية الجديدة تؤمن بحرية تجارة السلع و الخدمات – حرية تداول رأس المال – حرية الاستثمار – الغاء القطاع العام و زيادة الخصخصة – اللامساواة الإجتماعية ظاهرة طبيعية .
جاء التحول إلى اليمين خشنا و متطرفا ، و كان شعار التاتشرية ( اركب دراجتك ) مقتبسا من قول نورمان تيبت وهو وزير من أتباعها :" إن أبي لم يشاغب بل ركب دراجته باحثا عن عمل " ، لقد حل الإستقلال مكان التكافل الإجتماعي ، كما رفضت أيديولوجية المساواة من جذورها ، و لم تعد عدالة توزيع الثروة من مهام الدولة ، و لم يعد معايير الفقر نسبية بل بالحاجة المطلقة ، و اعتبر الجشع و الأنانية و النفعية أشياء حسنة ، و النظر للإنسان كمجرد كائن اقتصادي .Homo Economicus ، كما جرى خفض أعباء الإنفاق الإجتماعي ، وصاحب ذلك كله عملية بيع واسعة للأصول من القطاع العام إلى القطاع الخاص وصلت في بريطانيا وحدها إلى 67 بليون جنيه استرليني ما بين عامي 1979 إلى عام 1997 ،و لم يعد هناك صناعة تحت ملكية الدولة مالم تكن هناك أسباب ملحة و شاملة تدعوا إلى ذلك ، في المقابل تضاعف عدد أصحاب الأسهم و صارت الرأسمالية شعبية ، أما في الولايات المتحدة فعلى العكس من أوروبا لم تنجح الملكية العامة قط ، لهذا لم تلق الريجانية مقاومة تذكر ، و سعى ريجان لخفض سقف ضريبة الدخل من 70 إلى 28 % .

تصدير الرأسمالية:
مع بداية التسعينات تغير شكل الحكومة في بريطانيا و الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة لا رجعة فيها ، و سرعان ما انتشر مذهب رأسمالية السوق الحرة المبنية على النموذج الأنجلو أمريكي في العالم ، بل أن اليسار التقليدي أصبح يتبنى الكثير من قواعدها ، التي سرعان ما انتشرت في العالم كله ، هذا الإنتشار شمل بلادا متنوعة بتنوع بريطانيا ذات الإقتصاد الكينزي إلى ألمانيا ذات التراث القائم على التنظيم المحكم ، مرورا بالمجتمعات الشيوعية في روسيا و شرق أوروبا و بالهند الإشتراكية و الصين الماركسية الأصولية ، ظفر النظام الأنجلو أمريكي بالصدارة في المجتمعات الصناعية و الأسواق النامية على السواء ، و حتى في المجتمعات الشيوعية ، فقد نظروا إلى رأسمالية السوق كضرورة للإزدهار .
كانت استراليا و نيوزلنده و كندا من أول الأقطار التي تبنت النموذج الرأسمالي الجديد ، و في الولايات المتحدة الأمريكية اللاتينية أظهر الديكتاتوريون العسكريون أنهم مريدون نجباء لليمين الجديد ، كان بينوشيه أول من طبق السياسات الجديدة في شيلي في الثمانينات ،و في التسعينات تبعه جميع قادة دول الولايات المتحدة الأمريكية الجنوبية الكبار مثل المكسيك و الأرجنين و البرازيل ،و كان حافزهم الرئيسي الحصول على القروض من البنك الدولي ، في أوروبا اضطر هيلموت كول و جاك شيراك إلى تبني سياسات اليمين الجديد و التي كانوا سابقا يرفضونها كلية كنوع من الرأسمالية المتطرفة ، و بحلول عام 1995 كانت فرنسا و ايطاليا قد خصصت شركات تصل قيمتها إلى 50 بليون يورو .
نهاية الحرب الباردة:
في بداية الثمانينات امتلك الإتحاد السوفيتي أكبر قوة عسكرية في العالم ، سواء من حيث القوة البشرية أو التسليح و التفوق في الفتح الإستراتيجي ، و نجح هذا الحجم الهائل للقوة السوفيتية في حجب نواحي الضعف التي تعانيها الكتلة الشرقية ، بينما كانت ثلث البشرية تعيش تحت انظمة شيوعية ، و قد التهمت النفقات الدفاعية حوالي 25 % من العائد القومي الإجمالي على حساب ميزانيات التنمية و توفير الخدمات الأساسية ، وقد تضافرت أسباب عديدة في توقف النمو السوفيتي كلية خلال العقد الأخير من حكم بريجنيف ، و عندما وصل ميخائيل جورباتشوف إلى السلطة عام 1985 ، تدنى النمو السوفيتي إلى صفر % ، كما عانت روسيا من حصيلة العملة الحرة بسبب الإنخفاض المستمر في أسعار البترول في الثمانينات ، بينما يشكل صادرات البترول 60% من حصيلة الصادرات للإتحاد السوفيتيي ، و كي يستطيع إنقاذ الإقتصاد السوفيتي إتجه جورباتشوف إلى تحوبل النفقات الدفاعية إلى قطاعات تنموية ، عارضا تنازلات عسكرية ضخمة على الولايات المتحدة ، و نتيجة سياسات التهدئة التي قادها جورباتشوف و ريجان وفي 1988 أعلن جورباتشوف نهاية 71 عاما من الحرب الباردة ، وفي العام التالي انسحبت القوات السوفيتية من أفغانستان ، وفي ديسمبر 1989 أعلن جورباتشوف و جورج بوش إنتهاء الحرب الباردة رسميا في قمة مالطة ، وفي فبراير 1990 تخلى الحزب الشيوعي السوفيتي عن 73 عاما من السلطة المطلقة ، و في نفس العام سقط حائط برلين ، و في ديسمبر عام 1991 تفكك الإتحاد السوفيتي نفسه إلى 15 دولة مستقلة ، و ساهمت ثورة الإتصالات و الإعلام في انتشار أفكار اليمين الجديد ، و يمكننا أن نقول بدرجة عالية من الصحة أن البث الهوائي لروبرت ميردوخ و تد تيرنر بالإضافة لزجاجة الكوكاكولا، هي التي هدمت الشيوعية !، لقد جعلت من المستحيل للسلطات الغير رأسمالية أن تحجب عن شعوبها نجاح النموذج الرأسمالي و إغراء أسلوب الحياة الغربية الإستهلاكية ، كانت أشياء مثل مطاعم ماكدونالد و سيارات المرسيدس و موسيقى الروك و نظارات ريبان و ساعات الروليكس و بنطالات الجينز ماركة ليفي ، لها أهمية تفوق الحريات الليبرالية في أعين مواطني شرق أوروبا الذين أمضوا حياتهم في عداء للغرب ، و تكررنفس الموقف في الدول التي سارت على النهج السوفيتي في الإقتصاد الموجه كالهند وزامبيا و تنزانيا و الجزائر و مصر ، و حتى الآن يعيش حوالي 25% من البشر في ظل حكومات شيوعية معظمهم في الصين ،و لكن حتى الدول التي تخضع لحكم الحزب الشيوعي كالصين و فيتنام تحولت إلى اقتصاد السوق ، ففي الصين اعترف قادتها بأن البلاد تخلفت بسبب الإقتصاد المركزي الإشتراكي ، بمثابة صدمة للإشتراكية لا تقل تأثيرا عن انهيار الإتحاد السوفيتي . أما الدول الشيوعية حاليا فهي الصين و كوبا ولاوس و فيتنام و كوريا الشمالية ، و بالرغم ان هذه الدول تحكم بحكومات لها نفس الطبيعة إلا أنها تنتهج سياسات مختلفة كلية .
هناك اعتراف بالمنافع التي تجلبها السوق الحرة حتى في المجتمعات النامية حيث ينظر بشك دائما للإستثمرات الأجنبية ، باعتبارها استغلالا و ضد مصالح الأمة ،و الآن تعلن معظم الدول النامية عن ترحيبها بتلقي الفوائض النقدية الغربية لإستثمارها و تخليها عن الإقتصاد الموجه ، وجاء نجاح النمور الأسيوية ( سنغافورة- تايوان- كوريا الجنوبية- هونج كونج ) حاسما في تخلي الباقي عن الإقتصاد الموجه .
وداعا للمساعدات !.
اليوم لا يقدم أحد المساعدات سواء داخليا أو على المستوى الدولي سوى لإجراء إصلاحات على النمط الأمريكي ، و نادرا ما يثير أحدة أن هذه الأقطار لا تشبه أبدا الولايات المتحدة الأمريكية سواء في التاريخ و الثقافة ولا في المؤسسات و مستويات التنمية و الإمكانيات ، حتى من لا يوافق على قسوة النموذج الأنجلو أمريكي اضطروا إلى قبول الروح السائدة ولو على مضض، و تكفلت مؤسسات الإقراض الليبرالية الجديدة ، و صندوق النقد الدولي و البنك الدولي ، بفرض النموذج الإقتصادي الجديد على الأرض ، و هكذا أصبحت كلمة السوق هي قدس الأقداس في الثمانينات و التسعينات ، كانت مساعدات الأقطار الصديقة تعني شراء الولاء و الطاعة من الأقطار النامية لضرورات انتهازية بحتة من الطرفين ، و مع انتهاء الحرب الباردة سحبت دول العالم الأول المساعدات التي كانت تقدمها للدول النامية واستبدلتها بالإستثمار الأجنبي المباشر (FDI) ، ففي عام 1990 كانت المساعدات التي تقدم للدول النتمية تزيد عن 60 بليون مقارنة ب20 بليون للإستثمارات الأجنبية المباشرة وفي 1992 تعادلت الإستثمار الأجنبي المباشر FDIالمساعدات ، و لكن في عام 1997 بلغت المساعدات 40 بليون فقط مقارنة ب160 بليون للإستثمار الأجنبي في الدول النامية ، و كثيرا ما ربطت المساعدات بتنمية القطاع الخاص . و حاليا تحظى الولايات المتحدة باعلى نسبة من الإستثمارات الأجنبية المباشرة حيث تبلغ في يناير 2008 حوالي 1.8 تريليون دولار ، تليها بريطانيا 1.135 تريليون دولار ، ثم هونج كونج 769 مليار دولار ، ثم المانيا و الصين و فرنسا و بلجيكا و هولندا و إسبانيا ، و تحتل الإمارات المرتبة 42 ( 42.6 مليار دولار ) و مصر المرتبة 45 (37.7 مليار دولار )

الجزء الثالث .

Array" مازال القلب غير مطروح للبيع في سوق الأسهم " .أوسكار لافونتين _ وزير اقتصاد أسبق , ألمانيا .
"الذين يعيشون في مجتمعات أكثر عدلا سيكونون أكثر سعادة من أوائك الذين يعيشون في مجتمعات أكثر ثراء . " [/quote]



أيديولوجية واحدة.
مع بداية التسعينات أصبحت رأسمالية السوق الحرة ،و حرية العمل و التجارة الليبرالية الجديدة التي نادى بها ريجان و تاتشر هي الأيديولوجية المهيمنة على العالم ، حتى أن اليسار التقليدي يتبنى الآن الكثير من قواعدها الأساسية ، إن التغيرات التي أحدثتها تاتشر في بريطانيا ليست عميقة فقط بل لا يمكن تغيرها ، فهذه التغيرات خلقت شريحة واسعة من حملة الأسهم و هؤلاء يمثلون رأسمالية شعبية لا يمكن لحكومة تريد البقاء تأميم مصالحهم ، أما حزب العمال فقد ألغى المادة الرابعة من دستوره التي تتحدث عن الملكية العامة لوسائل الإنتاج و هجر سياسته التقليدية في فرض الضرائب العالية و الإنفاق الحكومي الكبير. لا يختلف الموقف كثيرا في الولايات المتحدة الأمريكية فقد تحول الديمقراطيون عن سياسات يسار الوسط التي تبناها مايكل دوكاكيس في حملته الإنتخابية الخاسرة ، و ظهر الديمقراطيون الجدد ممثلين في بيل كلينتون الذين يؤكدون على التجارة الحرة و الإستثمار و التنافس بديلا عن العدالة الإجتماعية ، أما في استراليا و نيوزلندا فكانت الأحزاب العمالية و ليست اليمينية هي التي تولت حل النظام الديمقراطي الاشتراكي و استبدلته بالليبرالية الجديدة .
أصبح الجميع تقريبا مقتنعون أن الرأسمالية وحدها هي القادرة على تكوين الثروات للأفراد و الشعوب ، ولم يعد الفضاء السياسي الذي صنعه مؤيدو الرأسمالية و معارضوها في الماضي قائما ، ففي الولايات المتحدة الأمريكية شجب بيل كلينتون في بيانه عام 1992 " أحزاب اليسار و اليمين التي شاخت و تيبست أدمغتها " ،و في بريطانيا كثيرا ما تحدث توني بلير السياسي و أنتوني هيدجنز المفكر عن ضرورة نقل الحوار السياسي برمته إلى ما بعد اليسار و اليمين ، أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن الديموقراطيين و الجمهوريين على السواء يتفقون على مجمل السياسات الإقتصادية و يؤيدون النافتا و منظمة التجارة العالمية WTO .
ظفر النسق الاقتصادي الأنجلوأمريكي بالصدارة في كل مكان في العالم حتى خارج الدول الغربية بما في ذلك الأسواق الفتية في أوروبا الشرقية و جنوب إفريقيا ، و أصبح لا يوجد هناك أحد خارج الأحزاب المؤدلجة و المتطرفة يشكك في ضرورة الأسواق الحرة للإزدهار و التنمية ، و حتى حزب ذو خطاب ماركسي مثل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ، أصبح يتبنى المنهج القياسي الأنجلو أمريكي في المحافظة الضريبية و في الخصحصة و تحرير التجارة ، أما في أوروبا فقد اضطر الإشتراكيون الديمقراطيون مثل شرويدر و ميتران إلى قبول روح العصر ، و دفعت السياسات المالية التي فرضت على الدول الراغبة في توحيد العملة طبقا لاتفاقية ماسترخت حكومات يسار الوسط لتكون متشددة ماليا على نفس القدر كحكومات اليمين ، كما جفعتها إلى تبني سياسات كان ينظر إليها اليساريون الأوربيون كهرطقة صريحة ، و كان نموذجهم في ذلك سياسات وزير المالية البريطاني العمالي ( جوردون براون ) ، و تعترف معظم الدول الأوروبية الآن بضرورة إصلاح النموذج الإقتصادي ليكون مناسبا لمصلحة التنافس الإقتصادي ، و لكي تصبح منافسة في عيون الشركات العالمية الكبرى المتنقلة ( متعددة القوميات ) ،و النتيجة أن خصص الإشتراكيون الفرنسيون من الشركات فوق ما خصص أسلافهم اليمينيون مباشرة ، الشيء الذي لم يكن واضحا منذ البداية هو أن انتصار رأسمالية السوق التي بدأت كحركة ضد الإجماع أو شمولية النظام الكينزي أصبحت هي نفسها الأداة الرئيسية في صنع شمولية جديدة و أيديولوجية واحدة تهيمن على العالم كله ، كما أصبحت معارضة هذا النسق الإقتصادي العالمي تطرفا محفوفا بالمخاطر !.

عالم من الأموال .
لم يعرف العالم من قبل نظاما شموليا نمطيا ذو أيديولوجية واحدة و لا يشكو منه أحد ، و باستثناء بعض الحركات الشعبية المحدودة المضادة للعولمة ، و التي تتصل خلال الإنترنت و تتظاهر في العواصم التي يعقد فيها مؤتمرات التجارة العالمية ، فلا توجد أحزاب أو حركات سياسية كبيرة تعارض الليبرالية الجديدة ، فمن الصعب أن يشكو الناس من الرفاهية و الإزدهار الإقتصادي ، و هذه هي البيانات التي توضح بعض ملامح التقدم الذي أحرزه العالم تحت مظلة الليبرالية الجديدة ، مع التحذير بداية أنها ليست الصورة كاملة فهناك أيضا الجانب الآخر من التل .
• في الغرب أصبح هناك تقريبا تلفزيون لكل فرد في الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا ، و يوجد كمبيوتر في أكثر من 70 % من البيوت ، و يمتلك معظم الناس سيارات ، كما ارتفع عدد من يملكون بيوتا في بريطانيا من نصف المواطنين قبل عهد تاتشر إلى ثلثي المواطنين في نهاية عهدها و حوالي 75 % الآن ، ومن بين 5 بيوت يوجد في أربع منها مسجل فيديو .و يصف 60 % من سكان بريطانيا أنفسهم بأنهم من الطبقة الوسطى .
• ينفق الأوربيون الآن على الأنشطة الترفيهية أكثر مما ينفقون على الطعام و السكن و الملبس ، و في نيوزلنده مثلا يصل معدل النمو السنوي إلى 4% ، كما هبطت نسبة البطالة إلى 6 % أي إلى أكثر من النصف خلال 10 سنوات ، أما شيلي فقد شهدت نموا مستداما لمدة 10 سنوات يقدر ب 7 % سنويا .
• بدأ القرن الحالي بينما تشهد الولايات المتحدة أدنى معدلات البطالة و أطول فترة نمو متصلة لمدة 30 عام ، و أول فائض متتابع في الميزانية خلال 42 سنة ، و شهدت الشركات الأمريكية نموا بارزا ، حتى أن مايكل ايزنر رئيس ديزني حصل على مكافأة تقدر ب 576 مليون دولار وهو ما يزيد على عن إجمالي الناتج المحلي لسيشل ، ويشمل نادي أصحاب الملايين الآن أكثر من 3.5 مليون أمريكي .
• أما لو ذهبنا إلى آسيا سنجد أن متوسط دخل الفرد في تايلاند تضاعف 3 مرات منذ عام 1975 ، و بينما كان واحدا من كل ست من سكان الريف يشرب مياه نقيه عام 1975 ، أصبحت النسبة أربعة من كل خمس أفراد ، كما تضاعف إنتاج القمح في الصين خلال 5 سنوات فقط .
• لقد تفجر الإستثمار الأجنبي المباشر من 60 بليون دولار عام 1980 إلى 400 بليون تقريبا عام 1997 ،وزاد نصيب العالم الثالث من 2.5 بليون في أوائل السبعينات إلى 80 بليون عام 1997 . و بهذا تضاعف تدفق رأس المال الخاص المتجه إلى الأقطار النامية حوالي 7 مرات منذ عام 1990 ، وقد رفع الإستثمار الأجنبي المباشر مستوى الخدمات في كثير من دول العالم الثالث نتيجة الضرائب التي تدفعها الشركات و زيادة معدلات التشغيل بمرتبات عالية ، فدفعت شركة شل الهولندية على سبيل المثال 46 بليون دولار ضرائبا عام 1998 في 75 قطرا ناميا تعمل فيها .

عاش الملك في وول ستريت .
يدعي المدافعون عن الرأسمالية العالمية أن مثالبها مؤقتة ،و أنها تتجه دائما إلى تصيح أخطائها ،و أن الثروات سوف تنهمر على الجميع ،و أن البشرية ستودع الفقر في لحظة تاريخية ليست بعيدة ،و حتى من يعترفون أن النظام لا يرحم ينتهون إلى القول أن النتائج تستحق ما يدفع فيها . و لكن هل تصمد تلك المقولات للنقد طويلا ؟، ألم يتحرك بندول الساعة يمينا أبعد مما يجب ؟ .
إن نجاح السوق الحرة يحجب الكثير من الفشل و الضياع ، فالنجاح لم يكن حليف الجميع ،و المكاسب لم توزع بالعدل ولا شيئا شبيها به ، إن البشرية تدفع بالفعل ثمنا مؤلما للنجاح الإقتصادي ، و الدولة لم تعد تقوم بواجبها تجاه الشعب ، و لكنها تسلم مقدرات الشعب في يد قوى السوق الغير مرئية ، و الشركات متعددة الجنسيات ، و هكذا أصبحت المجتمعات البشرية أكثر ظلما من أي فترة سابقة ، إن مكاسب السوق لم تكن على حساب السياسة فقط و لكنها كانت أساسا على حساب الديمقراطية . لقد أصبحت السياسة بعد الحرب الباردة متجانسة و نمطية في كل مكان من العالم ، نحن نعيش الآن بالفعل في ظل شمولية كونية جديدة ، أو ما يمكن أن نسميه ( السيطرة الصامتة ) ، ربما مازالت السياسة تقدم خيارات متنوعة و لكنها كلها حلول زائفة ، ففي العالم الواقعي لم يعد الساسة يقدمون سوى حل واحد ،وهو نظام قائم على الإقتصاد الحر ، نظام شمولي يقوم على ثقافة الإستهلاك و عبادة الأشياء وقوة المال و التجارة الحرة و الأسواق المفتوحة ، إن الساسة يقدمون البضائع نفسها و لكن بألوان مختلفة ، هم في النهاية يقدمون نظاما تكون الشركات هي الملك و المستهلكون رعاياها المخلصون ، أما العقد الإجتماعي فيدرس فقط في المعاهد التعليمية ضمن مناهج التاريخ كشيء من الماضي .
لقد أصبحت الشركات هي الملك الجديد للعالم الذي يملك و يحكم أيضا ، و تنتج الشركات أكثر من ثلث إنتاج العالم ،و تبلغ تجارتها ثلثي تجارة العالم ، و نحو 40 % من تجارة العالم تديرها شركات متعددة الجنسيات و الباقي شركات وطنية . هناك الآن 300 شركة متعددة الجنسيات تتحكم في نحو25% من الأصول المالية العالمية ، منها 100 شركة فقط تتحكم في 20 % من تلك الأصول ، و من أكبر 100 مؤسسة عالمية الآن منها 51 مؤسسة هي شركات متعددة الجنسيات و 49 تمتلكها دول ، و تزيد الأصول المالية لشركات GE& IBM & BP مثلا على القدرات الإقتصادية لمعظم الدول النامية مجتمعة ، أما قيمة مبيعات كل واحدة من الشركات الست الكبرى في العالم تتجاوز 120 إلى 130 بليون دولار سنويا ،ولا يزيد عليها سوى قيمة الناتج القومي الإجمالي ل21 دولة قومية فقط ،و تزيد مبيعات شركتي General Motors & Ford مثلا عن إجمالي الناتج المحلي للدول جنوب الصحراء الإفريقية ،و تزيد عائدات مبيعات أسواق Wal-Mart الأمريكية على عائدات معظم دول وسط و شرق أوروبا ( بولندا-تشيكيا-سلوفاكيا- رومانيا- هنغاريا) ،.
إن الشركات متعددة الجنسية تسعى إلى الحصول على أفضل الشروط عن طريق الوعود من جانب و التهديد بالإنسحاب من جانب آخر ، و تحدد الشركات أين تستثمر و تنتج و أين تدفع الضرائب ، و تقوم الشركات بالضغط لإعتصار حق الحكومات في ضرائب الشركات و الأفراد على السواء ، و معدلات ضرائب الشركات خفضت في العالم كله قياسا على ما حدث في الولايات المتحدة التي خفضت الحد الأعلى من 54 إلى 28 % ما بين عامي 1983 إلى 1996 ، و جمع الضرائب كما نعلم هو من أكثر حقوق الدولة القومية مبدئية ،و هو أيضا الأداة الأسلسية في تصحيح عدم المساواة الإجتماعية و الإقتصادية . و في ألمانيا هبطت ضرائب الشركات 50% عبر 20 سنة الماضية ، بالرغم من ارتفاع أرباح الشركات بنسبة 90% ، و كمثال لسيطرة الشركات الكبرى نجاح الشركات الألمانية في احباط محاولة وزير المالية الألماني أوسكار لافونتين رفع العبء الضريبي على الشركات عام 1999 ،و مثل هذا التخريب لنظام الضرائب يجعل الحكومات غير قادرة على تلبية مطالب مواطنيها من الخدمات العامة ، ومن الجدير بالتأمل أن أرباح شركة روبرت ميردوخ للأخبار بلغت في بريطانيا وحدها 2.3 بليون دولار في الفترة من 1987 إلى 1999 ، رغم ذلك لم تدفع عنها أي ضرائب . و بالرغم من الصعوبات في تحصيل الضرائب ، تجد الحكومات نفسها ملزمة في أحيان كثيرة إلى توفير الرعاية للقطاع الخاص ، سواء في صورة إعفاءات ضريبية أو خدمات البنية الأساسية .
يعطي النظام العالمي القائم الشرعية لنظم تكسب فيها الأقلية و تخسر الأغلبية ، و لم نعد نستطيع أن نعهد إلى أفضل الحكومات المنتخبة برعاية مصالحنا ، ، فالأسلوب التقليدي في التفكير يضع سوق الأسهم فوق كل شيء ،وواجب الحكومات هو تهيئة البيئة المحلية لإغراء الشركات متعددة الشركات ،و الشركات الكبرى تتولى مسؤوليات الحكومات و سلطتها أيضا ، و منزلة رجال السياسة المنتخبين هي أدنى من منزلة القوة الإقتصادية الضخمة للأنشطة التجارية الكبرى ، و تحدد الشركات شكل الميدان العام ،و تحولت دولة السياسة إلى دولة الشركات ، و هناك مجازفة بالفعل في تحطيم فكرة العقد الإجتماعي بين الدولة و الأفراد ، و بات العميل يحل محل المواطن .
إن تآكل دور الدولة و تهميش السياسة مهما كانت المعتقدات السياسية نفسها هو خطر على الجميع ، فحتى في أعرق الديمقراطيات كبريطانيا يمتلك روبرت مودوخ يفوق نفوذ توني بلير و جوردون براون ، لهذا لم يكن مفاجئا أن يفقد الناس الثقة في النظام السياسي ، ففي انتخابات عام 2005 في بريطانيا لم تزد نسبة المقترعين عن 48% وهي أقل نسبة منذ الحرب العالمية الثانية .
بوسع البنك الدولي و صندوق النقد الدولي أن يمليا إرادتهما على الدول النامية التي تسعى إلى الحصول على القروض من المجتمع الدولي ، و ذلك بجعل القروض التي يقدمانها مشروطة بقبول آرائهما الإقتصادية ،و تجبر الدول المارقة على الطاعة خلال التهديد بالعقوبات ، و كثيرا ما تكون التكلفة الإجتماعية فوق قدرة تحمل المجتمعات الفقيرة بما يفوق حتى المكاسب المرتقبة . و من أجل جذب الإستثمارات الأجنبية تعمل حكومات العالم الثالث على تعديل قوانين و تخفيض الأجور و حقوق التقاعد و الإقتطاع من الرعاية الصحية و الإجتماعية ، و السماح للشركات الكبرى بإحداث تغيرات إجتماعية جذرية ، وهناك حالات عديدة لإمتهان كرامة الإنسان و التغاضي عن الأفعال الغير قانونية و تلويث البيئة غالبا بشكل لا يمكن إصلاحه ، و بالرغم من أن الظلم أصبح طبيعيا في العالم الثالث ، إلا أنه سيكون هناك دائما من يقف أمامه ولو كشاهد عليه ، نعم لقد أظهرت معظم حكومات العالم الثالث استعدادا فعليا للتضحية بمواطنيها ، رغم ذلك فهذا الظلم ليس فقط نتيجة الجهل و غياب الديمقراطية ،و لكنه يعود أساسا إلى سياسات الأسواق الحرة ، فهي تقسم المواطنين إلى قطبين يصل التنافر بينهما و تضارب المصالح إلى حد غير مسبوق .
حتى أولئك الناجحون في مثل هذا السوق التنافسي القاتل يدفعون ثمنا باهظا ، فقد زادت مبيعات حبوب بروزاك المضادة للإكتئاب على إجمال الناتج 

الجزء الرابع .

" إن المجاعات يمكن أن تحدث مع أن الصوامع مليئة بالقمح " .آمارتيا صن – نوبل .
" إن صنع الثروة الآن أهم من توزيع الثروة " ستيفن بايرز – وزير الصناعة و التجارة- حكومة العمال في بريطانيا .
الخاسرون
لقد انتصرت الرأسمالية و لكن أرباحها لم تصل للجميع ، وقد عبر إقتصادي في فنزويلا عن الموقف بعبارة بسيطة و دقيقة هي :" إنها ( الرأسمالية ) مفيدة لكل من يستطيع أن يستغل الوضع وهم القلة ،و لكن الأغلبية لا تستفيد " .
• يشير تقرير البنك الدولي لعام 2003 أنه باستثناء النمور الأسيوية فقد ازداد عدد الناس الذين يعيشون في فقر مدقع في جميع الدول النامية -وهم الذين يقل دخلهم عن دولار يوميا -بشكل واضح ،و قد بلغ عددهم 1.3 مليار نسمة بنسبة 20 % من إجمالي سكان العالم ، أما نسبة الفقراء ( أقل من دولارين في اليوم ) فقد ارتفعت أيضا لتصبح نسبتهم 50 % من إجمالي سكان العالم أي حوالي 3 مليار نسمة ، و حتى دول العالم الثالث التي حققت أعلى معدلات التنمية كشيلي مثلا فإن المال الذي تم كسبه لم تستفد منه سوى فئة قليلة للغاية ، و لم يوزع منه على أغلبية الشعب سوى الفتات ، و بالرغم من النمو الإقتصادي الهائل للصين خلال 20 عاما متصلة و استحواذها على أكبر كمية من الإستثمار الأجنبي المباشر ، فإن 20 % من السكان يعيش على 1 دولار للفرد يوميا ، و نصف سكان الهند يعيش الفرد منهم على أقل من 1.5 دولار يوميا ، و 80% من عائد البترول في نيجيريا يستأثر به النخبة الحاكمة ولا يعرف طريقه للجماهير الكادحة .
• و يشير نفس التقرير السابق أيضا إلى اتساع ظاهرة عدم المساواة في توزيع الدخول على مستوى العالم ، ، كي ندرك مقدار التفاوت في توزيع الثروات يمكننا مقارنة متوسط الدخل السنوي في الدول المختلفة ، و سنجد أن متوسط الدخل في أغنى 20 دولة يزيد عن 37 ضعف مستوى الدخل في أفقر 20 دولة ،و هذه الظاهرة في تزايد مستمر ، و أكثر من 80 % من العائد الإجمالي على مستوى العالم تستحوذ عليه الدول الغنية ( متوسط دخل الفرد يزيد عن 9385 دولار سنويا ) بينما لا يزيد عدد سكانها عن 15.5% من جملة سكان العالم ، إلى جانب أنهم يحتكرون 75 % من تجارة العالم ، و يزيد متوسط دخل الفرد في تلك البلاد بحوالي 63 مرة عن الدول ذات الدخل المنخفض ( 765 دولار في السنة ) ، و يزيد بمقدار 56 مرة عن متوسط الدخل في دول جنوب آسيا ،و تضم الدول الغنية مجموعة السبع ( G 7 ) وهي أغنى دول العالم و التي يزيد دخل 6 دول منها عن تريليون دولار سنويا لكل دولة ، و تحتكر تلك الدول نصف حجم التجارة العالمية تقريبا ، و تحصل على ثلثي دخل العالم ،و تتكون تلك المجوعة من الولايات المتحدة ( 11 تريليون دولار ) و اليابان ( 4.5 تريليون ) و المانيا ( 2.1 تريليون ) و المملكة المتحدة ( 1.7 تريليون ) و فرنسا ( 1.5 تريليون ) و إيطاليا ( 1.25 تريليون ) و كندا ( 0.757 تريليون ) ، بإجمالي 22.6 تريليون بنسبة 65.6% من دخل العالم . هذا التفاوت في الدخل يزداد باستمرار و بمعدلات عالية ، فنجد أن نصيب أغنى 20 % في العالم من الدخل العالمي ارتفع من 70 % عام 1960 إلى 85% عام 1992 ، و هذا الإتجاه ما زال في ازدياد ، و يعود ذلك نسبيا إلى كبر الزيادة السنوية في عدد السكان الذي يبلغ 2% في دول الفقيرة ، بينما لا يتجاوز 0.5 % في الدول الغنية .

• يستهلك الفرد في أمريكا الشمالية 5 أضعاف المكسيكي و 10 أضعاف الصيني و 30 ضعف الهندي ،و ينفق الأمريكيون 8 بليون دولار على مواد التجميل بينما تكفي 9 بليون دولار لتزويد الدول الفقيرة بمياه الشرب النقية و الخدمات الصحية .
• بالرغم من أن مؤشرات التنمية البشرية تشهد تقدما باستمرار إلا أن هناك حوالي2 مليار من البشر حول العالم لا يحصلون على خدمات صحية ،و حوالي 1.25 مليار أمي ،و 250 مليون بلا مأوى و 1.5 مليار يعيشون في جوع مستمر ، و يبلغ العمر المتوقع في الدول الصناعية 77 عام و لكنه يصل في أفغانستان و سيراليون إلى 42 عام ،و المتوسط في البلدان النامية عامة يصل إلى 64 عام .
• هناك تقريبا 50 مليون مهاجر من الجنوب إلى دول الشمال خلال 45 عام الماضية ،و يبلغ معدل الهجرة مليون فرد سنويا ،و تلك الهجرة تزيد المستبعدين في الدول النامية لأنها عادة تكون من اليد العاملة الماهرة تخلق الهجرة استبعاد جديد و لكن في دول المهجر ، ففي ألمانيا مثلا يصيب الفقر 24% من السكان المولودين في الخارج في مقابل 7 % فقط من المولودين في ألمانيا .
• يحرز التعليم تقدما إجماليا في العالم كله عدا في قطاع التعليم العالي ، فتصل نسبة الحاصلين على مؤهل عالي إلى 9.1% في الدول الصناعية ،و 1.1% في البلدان النامية بينما تصل إلى 0.3% فقط في الدول الأقل تقدما ، و يصل متوسط عدد العلماء و التقنيين حوالي 140 لكل ألف في الدول المتقدمة ،و لكنها لا تزيد عن 9 فقط في البلدان النامية ، رغم وجود فوارق ضخمة فبينما هي 75 في الأرجنتين تهبط إلى 0.5 في بنجلاديش .
• لا تقتصر ظاهرة الإستبعاد على المجتمعات الدولية ،و لكنها تظهر أيضا داخل نفس الدولة ، ففي المجتمعات التي تشهد نموا سريعا مثل البرازيل نجد أن الهوة تزداد بين الأغنياء و الفقراء ، و تحصل القطاعات الفقيرة من السكان التي تزيد نسبتها على 40% مالا يزيد عن 8% فقط من الدخل القومي .
• في غالبية دول الجنوب توجد تباينات حادة بين الريف و الحضر فمتوسط الأعمار المتوقعة في الحضر تصل إلى 73 بينما لا تتجاوز 59 عاما في الريف ، و إمدادات مياه الشرب تصل إلى 100% في الحضر في ماليزيا مثلا و لكنها لا تزيد عن 14 % في الريف ،و يتم توفير الخدمات الصحية بنسبة 90% في حضر إكوادور بينما لا تتجاوز 30% في الريف ، وحتى داخل المدن ذاتها سنجد تباينا حادا بين أحياء الميسورين و المناطق العشوائية على أطراف المدن ، وهناك 600 مليون يعيشون في أحياء غير صحية في مدن العالم الثالث ، منهم 300 مليون يعيشون في فقر مدقع ، أيضا هناك علاقة طردية بين النمو العمراني و الفقر ، فكلما إزداد الفقر زاد النمو العمراني ، وهذا النمو يقدر ب5.8% في الدول الأكثر فقرا بينما لا يتجاوز 0.8% في الدول الصناعية ، و بينما تصل كثافة السكان 8000 فرد للكيلومتر المربع في نيويورك ، نجد أنها 20000 في باريس و لكنها تتجاوز 88000 في بومباي و جاكارتا و كلكتا ، و ينتظر في عام 2020 أن يتجاوز سكان المدن سكان الريف لأول مرة في العالم الثالث ، و سيؤدي ذلك إلى مشاكل بالغة الخطورة .
• أدى تحكم الشركات الكبرى في أسواق العمل إلى تنامي الإتجاه في تحويل العقود الثابتة إلى عقود عمل مؤقتة و بدوام جزئي ،و تبلغ نسبة العمال الذين يعملون بلا عقود ولا تأمينات إلى 30-40 % في معظم دول أمريكا الجنوبية ، و هناك 2000 فرد يدخلون حد الفقر يوميا في شيلي .

الخاسرون في الغرب
ليست ظاهرة الإستبعاد مقصورة على المحيط ففي المركز تزداد تلك الظاهرة أيضا ، .
• يوجد 15% من الشعب الأمريكي على عتبة الفقر ،و هناك 250000 من سكان نيويورك بلا مأوى منذ 5 سنوات منهم 8% من الأطفال الزنوج ، و في نيويورك أيضا يكسب أفقر عشرين في المائة سنويا 10.700 دولار بينما يكسب أغنى 20 % سنويا 152.350 دولار ، أما دخول من هم في الحضيض فهي متدنية جدا . و يمتلك أقل 1 % من الأمريكيين 40 % من ثروة البلاد بينما كانت نسبة من يمتلكون تلك الثروة 14 % منذ 25 عام ، و هناك 45 مليون أمريكي لا يتمتعون بالتأمين الصحي ،و 25 % من المصابين بأمراض مزمنة لا يحصلون على تغطية شاملة لأمراضهم المزمنة ، ارتفع دخل أفقر العائلات الأمريكية خلال سنوات التسعينات بحوالي 1% إجمالي ، بينما قفز إلى 15 % لخمس أغنى الأغنياء .
• هناك 500000 بلا مقر ثابت في فرنسا و 400000 في إنجلترا . هناك وعي كامل بخطورة المشكلة على المستوى المحلي في أوروبا حتى أن حكومة العمال بقيادة توني بلير قامت عام 1997 بإنشاء ( وحدة الإستبعاد الإجتماعي ) للتنسيق بين الوزارات المعنية ،و لكن لا توجد جهود مناظرة على المستوى الدولي ، توزيع الدخل في المملكة المتحدة أكثر تفاوتا الآن من أي فترة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية ، و خلال حكم تاتشر و ميجورز ( 1979 – 1996) ارتفع الدخل القومي بشكل ملموس رغم هذا نال الفقراء أصغر قطعة من الكعكة ، و ارتفع عدد الأسر تحت خط الفقر بنسبة 60% ، و استمر العدد في الزيادة تحت حكم العمال فزاد نحو مليون أسرة جديدة ، و تضم المملكة المتحدة أعلى نسبة من الأطفال الفقراء في أوروبا ،وزاد عدد الأطفال الأقل حظا خلال فترة تاتشر ب300000 طفل .
• نتيجة التقدم التقني حلت الآلة محل العمالة اليدوية مخلفة المزيد من الفقراء ، و بالرغم من تضاعف مبيعات أكبر 500 شركة متعددة الجنسيات في العالم بمقدار 7 مرات فلم يزد عدد العمال ( 26 مليون ) منذ بداية السبعينات زيادة تذكر ،و لقد سرحت شركة IBM نحو 122 ألف بين عامي 1991 و 1995 ،و هذا الإتجاه في التخلص من العمالة ليس لأنها مشاغبة و لكن نتيجة الضغوط على الشركات لأن تحقق عوائد أكبر ، فشعار السوق الآن هو أن وول ستريت يفضل توفير دولار من التكلفة على كسب دولار إضافي .

يقول العزيز بهجت :

1. في هذا الشريط أتبنى مقترب أن الإقتصاد كان هو القوة الدافعة للتاريخ المعاصر ، ولهذا فكل تركيزي عليه .

2. و عمليا فإني بالفعل أتبنى الموقف التاريخي الذي يرى للإرادة الإنسانية دورا محوريا في صنع التاريخ .

هل توصلت الى قرار يا عزيزي بهجت :25: !!!








:Asmurf:

من يجمعه السوق لن يفرقه إنسان .
Array
يقول العزيز بهجت :

1. في هذا الشريط أتبنى مقترب أن الإقتصاد كان هو القوة الدافعة للتاريخ المعاصر ، ولهذا فكل تركيزي عليه .

2. و عمليا فإني بالفعل أتبنى الموقف التاريخي الذي يرى للإرادة الإنسانية دورا محوريا في صنع التاريخ .

هل توصلت الى قرار يا عزيزي بهجت :25: !!!
:Asmurf:
[/quote]

الأخ أوارفي .
مرحبا بك و يسعدني مشاركتك .
لا أرى أي تناقض بين العبارتين ، فالإنسان هو الذي يحرك الأحداث و لكن في ظروف ليست من صنعه ، لنتخيل مركبا في وسط المحيط ، تحيط بها الرياح من مختلف الإتجاهات ، فتلك الرياح ليست من صنع الإنسان ،و لكن الإنسان هو الذي يوجه أشرعته إلى الرياح المواتية و هو الذي يقود الدفة و يحدد مساره ، هناك من يقول أن كل ما علينا هو أن نفرد الأشرعة و ستحركنا الرياح إلى الهدف ، فالرياح عاقلة و للتاريخ خطة مسبقة ستسير عليها الأحداث و ما علينا سوى فهم الخطة و التجاوب معها !، وهذا هو المنحى التاريخاني HISTORIAN، الذي يقول به المتدينون و الماركسيون و حتى بعض الليبراليين الجدد مثل فرانسس فوكوياما مع إختلاف بالطبع في تحديد طبيعة الخطة و أهدافها و أساسا القوة المحركة للتاريخ هل هي الآلهة أو التاريخ أو لحظة بذاتها ينتهي عندها التاريخ ، هذه الحتميات مألوفة جدا في الجدل العربي ، فكل منا يؤكد أنه المعبر الحصري عن التاريخ ، وكم سمعنا عن حتمية الحل الإشتراكي و حتمية إنتصار الإسلام في آخر الزمان و حتى حتمية عودة المسيح أو انتهاء التاريخ بنصر اليهود في هرمجيدون و...و...، و لكني لم أعد أنتمي لتلك المدرسة منذ سنوات طويلة جدا ، بل أنتمي لمدرسة أخرى ترى الإنسان صانع تاريخه فلا وجود لشيء خارجه ،و أن علينا أن نفكر و نحسب جيدا و نحرك الأشرعة و الدفة ، فكل الإحتمالات قائمة و الوصول إلى هدف ما هو مجرد بديل من بدائل عديدة ، بل و أكثر من ذلك فعلينا نحن أنفسنا أن نختار أهدافنا و نقود الأحداث إليها ، أي أن الأمر كله يتوقف علينا نحن ، فلا خطة للتاريخ و الأحداث لا تسير على قضبان إلى غايات محددة مسبقا ، وهذا هو المنحى التاريخي HISTORICAL الذي أعتقد فيه و أرى أن العقل و المنطق يؤيده .
يبقى أن أقول أننا لا نعمل في فراغ و لكن في إطار عوامل و ظروف متعددة و متشابكة بعضها هامشي و الآخر شديد التأثير ،و لكنها كلها لا تؤدي إلى شيء حتمي بذاتها ، فهي لا تعمل سوى خلال إرادتنا نحن و استجابتنا لها و بالكيفية التي نفهم بها الأحداث و نتعامل مع المتغيرات ، فالمجاعات التي صاحبت هزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى لم تكن تؤدي إلى الشيوعية بشكل حتمي ، و لكن إنتصار الشيوعية في روسيا كان نتيجة تفاعل قوى سياسية بعينها مع تلك الأحداث ، و الكساد الكبير لم يكن حتميا أن يقود إلى الكينزية ،و صدمة البترول ( صدمة نيكسون ) عام 1973 لم يكن من المحتم أن تقود إلى سقوط الكينزية و ظهور الليبرالية الجديدة ,كل تلك عوامل إقتصادية في طبيعتها و هي التي شكلت البنية الأساسية للواقع الذي عملت خلاله العقول البشرية القائدة في القرن العشرين ،و لكنها لا تعني شيئا خارج الإرادة الإنسانية .
ما أريد قوله باختصار هو أن اعتقادي في دور الإنسان المركزي في التاريخ لا يعني أن نغفل العوامل الموضوعية التي تشكل الفضاء الذي يتحرك فيه الإنسان ،و لكن تلك العوامل على أهميتها لا تعمل وحدها بشكل آلي و حتمي ، و أيضا أرى أن الإقتصاد هو أهم العوامل التي تشكل البيئة التي يعمل خلالها الإنسان ، الإقتصاد .. و ليس الدين و العقائد ولا القوميات و الثقافات ،التي أراها عوامل ثانوية تتأثر بالعلاقات الإقتصادية و طبيعتها .
إن من يجمعه السوق لن يفرقه إنسان .
مع خالص تقديري و احترامي .

>>>

الجزء الخـــامس

" على الساسة أن يدركوا أنهم الآن تحت سيطرة الأسواق المالية " هانز تيتمير الرئيس السابق للبنك الألماني .
" لقد تحولت صالات التشريع إلى سوق تتم فيه المساومة على ثمن الأصوات ،و القوانين التي وضعت للتنظيم تباع و تشترى " ماثيو جوزيفسون- كتاب البارونات اللصوص .
من يدفع للأوركسترا ؟
لماذا تحتاج الأحزاب السياسية إلى كل تلك الأموال ؟.
سؤال من النادر أن يسأله أحد اليوم ، إن السياسين يذهبون لقيادة الشركات و ليس لقيادة المواطنين ،و حتى لو أراد بعض الساسة معالجة قضايا العدالة الإجتماعية في ظل النظام العالمي السائد الآن فلن ينجحوا ، فكما يقول هانز تيتمير الرئيس السابق للبنك الألماني ( دويتش بانك ) :" على الساسة أن يدركوا أنهم الآن تحت سيطرة الأسواق المالية " ، و الآن لم يعد في مقدور الساسة محاسبة الشركات المارقة ،و لكن الشركات هي التي تحاسب الساسة ،و ليس نادرا أن تعاقب الأسواق المالية الحكومات التي تشق عصا الطاعة خلال آليات ملتوية مثل رفع سعر الفائدة أو تخفيض قيمة العملة .
لا يقتصر الأمر على الإنحناء أمام الشركات الكبرى ، بل أصبحت السياسة تحاكي أساليب الشركات ، و لم يعد ممكنا مشاهدة أولئك الساسة الذين تدفعهم المبادئ للتضحية ،و لكن السياسة أصبحت أشبه بالعمل التجاري ، فالسياسة اليوم مكلفة و هي تعتمد أكثر من أي وقت مضى على الإعلان و الميديا ، ولا يستطع حزب سياسي في الديمقراطيات الغنية أن يسمح لخصمه بالتفوق عليه في الإنفاق على الدعاية ، وعندما استأجر حزب المحافظين إحدى كبريات وكالات الدعاية والإعلان في العالم Saatchis & Saatchis في عام 1978 كان خبرا بارزا في الصحف ، و لكن استخدام مثل هذه الوكالات المكلفة أصبح تقليدا مألوفا لدى الأحزاب البريطانية و الغربية كلها .
عندما نقرأ الأرقام مرة أخرى سنجد أن الإنتخابات الرئاسية الأمريكية للعام 2000 تكلفت ما يزيد على البليون دولار ، و ينتظر أن تصل إلى 3 بليون هذا العام (2008 ) ، و مثل هذا الرقم ( بليون دولار ) كانت تكلفة انتخابات مجلس النواب و مجلس الشيوخ النصفي عام 1998 ،وهو ما يعادل سبعة أضعاف ما أنفق على انتخابات 1978 ، و معدل تكلفة انتخابات الفرد في مجلس الشيوخ الأمريكي بلغت 6 مليون دولار ، و يكاد يكون الحصول على وظيفة سياسية منتخبة امتيازا محصورا في كبار الأغنياء فقط ، و قد أنفق مايكل بلومبرج مبلغ 50 مليون دولار من حسابه الخاص ليصبح رئيسا لبلدية نيويورك . في بريطانيا هناك اتجاه مماثل و لكن الأرقام مازالت أصغر ، فلا يستطيع أحد مجاراة الأمريكيين في السفه و الإنفاق الذي يخلو من المنطق ، كانت حملة 1997 أغلى الحملات حتى وقتها ، و قد جمع حزب المحافظين 28.5 مليون دولار بينما جمع العمال 27 مليون ، وفي روسيا استأجر حزب روسيا بيتنا عارضة الأزياء الشهيرة كلوديا شيفر وفنان الراب هامر ،و ذلك من أجل حشد الناخبين في الإنتخابات البرلمانية لعام 1993 .
لأن الدول لا تمول الأحزاب يأتي هذا التمويل من نخبة صغيرة ، فيقوم رجال الأعمال و الشركات بهذا الواجب و بالطبع ليس بدون مقابل ، فالمال يشتري كل شيء .. الفعل و النفوذ و الأفكار ، وهناك 4 % فقط من الشعب الأمريكي يمول الإنتخابات بينما هناك 96 % لا يعطون شيئا لأي سياسي أو حزب على المستوى الفيدرالي ، إن الهبات التي تقدم لدعم السياسيين مشروعة تماما في الولايات المتحدة و الديمقراطيات الغربية ،و لكنها تسبب عتامة غير مرغوبة على القرارات السياسية بعد ذلك ، و لا نستبعد أن يكون تركيز الحكومة الأمريكية على احتكار مايكروسوفت لأنه لم ينضم لحملة المرشحين في وقت مبكر كما لم يكن له مكتب للعلاقات العامة في واشنطن ،و لكن ذلك لم يدم طويلا !. لقد أصبحت السياسة في المزاد حتى تلك التي تنطوي على ما يتصل بالأمن القومي ، لهذا لم يكن عجيبا أن يعتقد ثلثي الشعب البريطاني أن معظم أعضاء البرلمان يكسبون مالا كثيرا نتيجة الفساد .
شهدت السنوات الأخيرة عشرات الحالات من قضايا الفساد التي تورط فيها كبار الساسة حتى في أعرق الديمقراطيات ، ففي نظام اشتهر بالنظافة مثل ألمانيا ، كشف القضاء عن تورط هيلموت كول في الرشوة ، بما في ذلك ملايين الدولارات من شركة النفط الفرنسية العملاقة Eif Aquitane في أوائل التسعينات ، أما في فرنسا فقد استقال وزير المالية دومينيك استراوس كاهن عام 1999 بسبب تلاعب في أموال صندوق تأمين صحي لطلاب يساريين ، أما ابن الرئيس ميتران و مستشاره للشؤون الإفريقية فقد حقق معه بشأن رشاوى متعلقة بأسلحة ، و أثار ابن كوفي عنان الشكوك حوله و قبله ابن مارجريت تاتشر ، وفي ايطاليا فقد رئيسين للوزارة منصبهما بسبب الفساد هما كرايسكي الإشتراكي و بيرلسكوني المحافظ ، وقد حكم على الأول بالسجن بينما هو هارب إلى تونس كأي رئيس من العالم الثالث ، و في وقت ما كان هناك 40% من نواب البرلمان الإيطالي خاضعين للتحقيق بتهم الفساد ، و في اليابان أنهى وباء الفساد 38 عاما من الحكم المستمر للحزب الديمقراطي الليبرالي في العام 1993 ، و في بريطانيا أكد محمد الفايد أن هملتون الذي كان وزيرا في حكومة المحافظين تلقى منه أموالا و رشاوى عينية في مقابل خدمات سياسية ،و أن الوسيط أخبر الفايد أنه " باستطاعتك أن تفعل أي شيء ، بإمكانك أن تستأجر أعضاء البرلمان كما تستأجر سائق السيارة الأجرة ، و يسيعملون لك كل شيء " ، وفي عام 2001 أجبر بيتر ماندلسون وزير أيرلندا الشمالية على الإستقالة بسبب تدخله غير الشرعي في حصول أحدهم على الجنسية البريطانية ، أما الساسة الإسرائيليون فقد غرقوا في الفساد على الرغم مما عرفوا به من نزاهة عند إنشاء الدولة ، وقد فقد رابين رئاسته الأولى للوزارة بسبب مخالفات مالية بينما تعرض آرييل شارون و خليفته أولمرت لتحقيقات طويلة بتهم الفساد ، و أجبر عيزرا فايتسمان رئيس الدولة على الإستقالة بسبب رشوة اعترف بها .
إن نفوذ الإعلام طاغ إلى الحد أن توني بلير لم يستطع النجاح دون أن يتودد لبارون الإعلام روبورت مردوخ صاحب جريدتي صن و التايمز ،و كانت النتيجة أن تحولت صن عام 1997 لتأييد بلير و أخبرت قرائها البالغين 4 مليون بهذا القرار السعيد ،و كان الثمن هو عدم فرض أي قيود على ملكية تجمع أكثر من وسيلة من وسائل الإعلام ، و لكن هذا السخاء كان دون سخاء حزب المحافظين الذي سمح لمردوخ عام 1981بامتلاك جريدتي التايمز و الصنداي تايمز ،و لم يحيله إلى لجنة الاحتكار رغم امتلاكه 4 صحف قومية كبرى ،و كان يشار إلى مردوخ بالسيد رئيس الوزراء ،و هذا التعبير ليس هزلا كله .
و النتيجة هي أن هناك المزيد من الناس الذين يقاطعون السياسة ولا يثقون بها أكثر من أي فترة ماضية ، ووفقا لإستفتاء جرى في بريطانيا هبطت نسبة من يثقون في أعضاء البرلمان من 54% عام 1983 إلى 10 % فقط عام 1996 ، وفي عام 1990 أظهر استفتاء أن 60% من الفرنسيين لا يثقون في الأحزاب السياسية ، وفي عام 1997 أظهر استفتاء أن 14% فقط من الأمريكيين اعتبروا أن معايير الأمانة عالية لدى أعضاء الكونجرس ،و في العالم المتقدم أصبحت عضوية الأحزاب السياسية أقل من أي فترة منذ الحرب العالمية الثانية ، فهبطت عضوية حزب العمال البريطاني من مليون عام 1950 إلى 360 ألف ، و هبط أعضاء حزب المحافظين من 2.8 مليون إلى أقل من نصف مليون ، أما المشاركة في الانتخابات العامة تشهد أيضا تراجعا ، ففي الانتخابات العامة عام 2001 شارك 59% من البريطانيين ، بينما كانت النسبة 75 % عام 1992 ، و كانت نسبة المشاركة في انتخابات الرئاسة الأمريكية لا تزيد عن 51 % عام 2000 رغم ما كان معروفا عن تقارب المتنافسين .
في النهاية أرحب بمداخلة الزميل المحترم ثندر ، و يسعدني أن أعلق عليها ، فقط رأيت أن أستكمل هذا الجزء من الشريط بالمداخلة السابقة لأنها تتكامل مع الصورة التي قدمتها خلال المداخلات السابقة ، و لن يتبقى من الموضوع بعد ذلك سوى مداخلة خاصة عن التنمية ،و هي التي سبق أن تناولت أجزاء منها في أكثر من شريط ،و بالتالي يمكنها أن تنتظر .
للجميع تقديري .