مساهمة في نقد الخلافة الراشدة والدولة العثمانية

الخلافة الراشدة تفقد رشدها في الفتنة الكبرى
يمكننا أن نشير إلى النقاط الأساسية التي تستحق أن نركّز عليها. في ما يتعلّق بالخلافة الراشدة، وهي النموذج الأقرب إلى الحالة المثلى كما يتصورها دعاة العودة إلى الخلافة الراشدة. الحالة المثلى بسبب قربها الزمني من الفترة التي عاشها الرسول، وبسبب كونها امتدادا لما أسسه الرسول في المدينة من صيغة للتعايش بين المهاجرين، أصحاب الرسول الذين هاجروا معه من مكة إلى المدينة تاركين كل ما كان لديهم في مكة (صحيح أنه لم يكن لديهم الشيء الكثير إذ كان معظمهم من المستضعفين الفقراء)، من جهة. ومن جهة أخرى أبناء المدينة الذين استقبلوا الرسول وناصروه وعرفوا بالأنصار. في الوثيقة المعروفة بـ "صحيفة المدينة" يرد ذكر المهاجرين والأنصار واليهود والمشركين كأطراف في "المعاهدة". ويبرز في هذه الوثيقة مفهوم "الأمّة" في السياق التالي:
"هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمّة واحدة من دون الناس"...
وفي سياق آخر في الوثيقة نفسها نقرأ ما يلي: "إنّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم...وإنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف...!"
التسلسل الهرمي واضح ويتكرر أكثر من مرة وفق هذا الترتيب. التمييز واضح بين الأمة الواحدة التي تشمل "المؤمنين والمسلمين ومن تبعهم وجاهد معهم"، من جهة والآخرين من جهة أخرى وهم اليهود والمشركون. وضمن الأمة الواحدة هناك تصنيف تراتبي وبمقياس عقائدي، هذا من حيث المبدأ. ولكن على الصعيد العملي من الصعب الحكم على مدى عمق إيمان المؤمن أو مدى رسوخ عقيدته فالمحك الملموس هو "الأقدمية في الانتماء إلى الدين الجديد. والقرابة من الرسول". هذان المعياران اعتمدهما عمر عند تنظيمه العطاء إذ أنزل الناس منازلهم حسب السابقة في الإسلام والقرابة من الرسول
صحيح أن مفهوم "الأمّة"، بالمعنى العقائدي الديني كما بمعناه الاجتماعي والسياسي وخاصة لأغراض القتال، راح يحتل حيزا أكبر فأكبر إلاّ أنه لم يلغ انتماء الفرد إلى قبيلته بل عزز هذا الانتماء بحكم أن الوحدة الأساسية في تنظيم الفرق القتالية كانت القبيلة. وأبقى النظام الجديد على عادات وتقاليد كل قبيلة في تنظيم شؤون دنياها.
. كما ورد في الصحيفة : "المهاجرون من قريش على رباعتهم يتعاقلون بينهم. وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين...وبنو عوف على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم... وبنو ساعدة...
هكذا بقيت كل قبيلة على عاداتها وتقاليدها في تنظيم شؤون دنياها. أمّا الخلافات الكبيرة فيحتكم بها إلى الرسول ويتعين على الجميع القبول بحكمه. وهذا ما يساعد على فهم التطورات السياسية التي عرفتها جماعة المؤمنين والكيان السياسي الناشئ، بعد وفاة االرسول، من حروب الردة في عهد أبي بكر إلى أزمة الخلافة بعد عمر والثورة التي قامت ضد غثمان ولم تنته عند قتله، بل تفاقم الوضع في عهد خلافة علي أكثر. من جهة معاوية في الشام حاملاً قميص عثمان الملطخة بدم الخليفة المقتول مطالباً بالثأر للخليفة ومعاقبة القتلة. ومن جهة أخرى طلحة واالزبير بتحريض من عائشة من على ظهر جملها، في حالة تمرد فاشل ضد علي في معركة الجمل.
أمّا الخلاف بين علي ومعاوية فقد بلغ ذروته في صفين. والحرب خدعة. لولا الخدعة، يقول البعض، لما انتصر معاوية في حربه ضد علي، ولا كانت الفتنة الكبرى التي ما زالت نيرانها تحت الرماد ومن حين إلى آخر تشتعل انفجارات واغتيالات، وتمتد جذورها إلى الخلافات القبلية وبصورة خاصة تلك التي كانت بين بني هاشم وبني أمية حتى قبل الإسلام.
تعليقاً على كلمة "لولا" : إنها لا تنفع شيئا في قراءة التاريخ أو الماضي بشكل عام. كما أن السؤال الذي قد يخطر ببال البعض: هل هي الصدفة أم الحتمية؟ ليس بذي أهمية لدراسة التاريخ، فالأمر سيّان والنتيجة واحدة : "الواقع". الواقع بعد أن يقع يلقي بثقله على أدمغتنا الصغيرة إلى درجة ننسى عندها أن الواقع قبل أن يقع وهو في حيز الممكن والمحتمل يكون قابلا للتأثر بفعل قانون طبيعي معين أو بفعل إرادة واعية فاعلة. والصدفة! ما هي الصدفة؟ هل هي غير التقاء حتميتين أو أكثر وبتعبير آخر هي شكل تجلّي الحتمية.
لم يصمد الكيان السياسي الناشئ الذي مازال ضعيفا بدون مؤسسات ترسخه على أسس توفر له البقاء والاستمرار عبر أشخاص الحكام ولا أن ينتهي بنهاية الحاكم مما يضطر الحاكم الجديد أن يبدأ من الصفر أو أكثر من ذلك ليخرج من حالة الفوضى "مابين العهدين". السؤال الذي يطرح نفسه هو:
هل ورث أبو بكر عن الرسول كيانا سياسيا ينطبق عليه اسم دولة بمعنى
ذلك العصر أو بالمعنى القريب من عصرنا؟ وبصورة أعمّ: هل ورث أي من الخلفاء الراشدين نوعا من مؤسسة تشبه الدولة بالمعنى القديم أو الحديث؟
طبعاً، الجواب بالنفي لأنّ الطابع القبلي ظل هو الغالب على نمط العيش ككل
بما في ذلك علاقة الحاكم بالمحكوم حيث الحاكم يحكم بكل الأمور. فهو القاضي والقائد العسكري وأمير المؤمنين(عمر بن الخطاب أول من اتخذ هذا اللقب) والإمام والمشرع. باختصار مثل شيخ القبيلة هو المرجع في كل الأمور. هو الحاكم المطلق الصلاحيات في كل الأمور، بإمكانه أن يستشير من يشاء ولكن لا شيء يلزمه ولا أحد يلزمه بشيء. يمكنه أن يستعين بحلول سلفه بالنسبة لأمور أو أن يتخلى عنها كليا ليفرض الحلول التي يريدها هو. ويجد دائما الفتوى لتبرير أي فعل يفعله. لذلك لم يحصل تراكم لممارسات باستثناء ما ورد في الكتاب بصريح العبارة وبعد الكتاب سنة الرسول. ولكن حتى ما كان صريحا في النص فهو قابل للتأويل، حمّال أوجه.
هل من الغريب المستغرب أن يكون حكامنا مازالوا إلى اليوم يتمتعون بهذه الخصال البدوية الأصيلة حيث الشورى لا تتجاوز حدود الاستشارة ومجالس الشورى استشارية لا تملك حق التقرير وفي الغالب أعضاء هذه المجالس تعينهم السلطة. وإذا كان لا بد من انتخاب عدد منهم فلا يتجاوز الخمسين بالمئة من مجموع الأعضاء. أو أشياء من هذا القبيل.



ماذا عن الدولة العثمانية؟

أما الدولة العثمانية فقد امتازت بقوتها العسكرية إلى درجة أنّ أحد الدارسين لهذا الموضوع قال فيها إنها انتقلت من جيش إلى امبراطورية دون المرور بمرحلة الدولة القومية. وهذا يفسر إلى حد ما سبب قوتها قبل ظهور الحركات القومية. فالقوميات الداخلة في الدولة حافظت على شخصيتها وهويتها الثقافية مقابل دفعها الضرائب المختلفة. وهذا مصدر مهم من مصادر قوة الدولة العليّة. وهناك عامل آخر من عوامل قوة الدولة الغثمانية ألا وهو التنظيم العسكري لفرق "الانكشارية". من هم الانكشارية؟ عناصر الانكشارية هم من أسرى الحروب صغار السن يخضعون لتربية عسكرية صارمة. لا تربطهم أية علاقة بالخارج، لا عائلة ولا أقارب، لا من قريب ولا من بعيد، ولا أصحاب. صلتهم الوحيدة بالعالم تتلخص بالطاعة العمياء لرئيس فظ لا يقل كبتا وحرمانا عن مرؤوسيه. هم دائما على استعداد لتنفيذ أية مهمة. بعد أن كانت الانكشارية مصدرا من مصادر قوة السلطنة العثمانية، تحولت خلال القرن الثامن عشر إلى قوة مستقلة عن السلطنة، وأكثر من ذلك قادرة على قتل السلطان إذا شاءت وتنصيب السلطان الذي تريده.
ومع ظهور الحركات القومية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر راحت السلطنة تفقد مصادرها المالية مثلما فقدت قوتها العسكرية داخل البلاد وداخل القصر السلطاني بعد أن فقدتها في الخارج في المعارك البحرية بدءًا من معركة ليبات Lépante (سنة 1571) الشهيرة في أوروبا لأنها وضعت حدا لأسطورة الأسطول العثماني الذي لا يُقهر على امتداد قرنين من الزمن كان خلالها البحر الأبيض المتوسط كناية عن بحيرة عثمانية.
وفشلت كل محاولات الإصلاح المعروفة باسم "تنظيمات":
= محاولة السلطان سليم الثالث إصلاح الجيش بإعادة تنظيمه على الطراز الأوروبي مستعينا بخبراء فرنسيين. انقلبت عليه الانكشارية وأطاحوا به ومات مسموما في سجنه، ونصبوا محله ابن عمه مصطفى الرابع. واحتدم الصراع بين أنصار الإصلاح وأنصار النظام القديم. الإصلاحيون ازاحوا مصطفى الرابع ونصبوا محمود الثاني المؤيد للإصلاح.
= محمود الثاني (1808 ـ 1839 ) إصلاحات ترافقت مع اتفاقات تجارية مع الدول الغربية تفتح أسواق الولايات العثمانية للبضائع الأوروبية بأسعار منافسة للبضائع المحلية. الدول الأوروبية تتحكم تدريجيا بالاقتصاد العثماني وتطرح مسألة اقتسام إرث "الرجل المريض" هذه العبارة التي أطلقها القيصر الروسي نيقولاي الأول سنة 1830 تعبر عن حالة الدولة العثمانية آنذاك بصورة أوضح من عبارة "المسألة الشرقية".
= 1826 القضاء على الانكشارية وتنظيم الجيش على الطراز الأوروبي وما يعنيه من استعانة بخبراء أجانب وتبعية للصناعة الحربية الأجنبية.
= 1834 إنشاء المدرسة الحربية على النمط الأوروبي.
= 1839 تأسيس مدارس ثانوية، على النمط الأوروبي أيضاً. هذه المدارس زودت الحركة الإصلاحية بكادرات متحمسة للنمط الغربي في التنظيم السياسي والاجتماعي.
الاتفاقات التجارية:
ـ 1838 مع انجلترا وفرنسا
ـ 1839 مع سردينيا
ـ 1840 مع السويد والنرويج واسبانيا وهولندا وبروسيا
ـ 1841 مع توسكانة وبلجيكا.
ـ 1856 مؤتمر باريس يتعهد بحماية وحدة الدولة العثمانية وسلامة أراضيها مقابل تقديم المزيد من التنازلات للدول الأوروبية ومنحها الامتيازات على أراضي السلطنة.
هذه الاتفاقات أخرجت الاقتصاد الأوروبي من حالة الركود التي كان يعانيها. وفي الوقت نفسه قضت على صناعات محلية في الولايات العثمانية بسبب المنافسة القوية من جانب المنتجات الأوروبية.
أمّا الوضع المالي للدولة العلية فكان في تدهور سريع بسبب تراكم الديون وتضاؤل عائدات خزينة الدولة:
ـ سنة 1876 الحكومة العثمانية تعلن إفلاسها التام.
ـ 1880 تنازلت الحكومة العثمانية للدول الأوروبية عن حق إدارة ديونها.
ـ 1883 لجنة دولية لإدارة ديون "الرجل المريض". تضم هذه اللجنة ممثلين عن البنوك والدول الأوروبية الدائنة.
إصلاحات عبد الحميد (تنظيمات):
ـ 1876 جلوسه على العرش.
ـ 1877 مرسوم سلطاني يقضي بمنح الأمة العثمانية الدستور والحرية.
ـ 1878 اجتمع مجلس المبعوثين لأول مرة وعقد جلسة واحدة استمع فيها لخطبة السلطان عبد الحميد المطولة المتضمنة برنامج الإصلاح السياسي. قبل انعقاد الجلسة الثانية صدرت إرادة سلطانية ترفع الجلسة حتى إشعار آخر. وتم اعتقال المعارضين لتدابير الحكومة ونفي بعضهم إلى خارج البلاد.
بإمكاننا أن نستخلص ملاحظتين: القوة العسكرية وحدها لا تكفي لبناء حضارة، لا تكفي حتى لحماية نفسها. ما كان في الأمس مصدر قوة قد يصبح اليوم أو غداً سبب ضعف وانهيار.
تساؤلات
في ما يلي بعض التساؤلات حول الدولة العثمانية:
ما بين سنة 1453 تاريخ سقوط القسطنطينية تحت ضربات مدفعبة السلطان العثماني محمد الثاني الملقب بالفاتح، وسنة1571 هزيمة الأسطول العثماني في معركةLépante ، ضد ثلاثة أساطيل أوروبية (اسبانيا، البندقية والبابوية)، كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها العسكرية البحرية لا تضاهيها قوة أخرى في حوض البحر الأبيض المتوسط واستمرت في البر سمعتها بأنها القوة التي لا تهزم، حتى سنة 1683 حين تلقت هزيمة شنعاء على أيدي القوات البولندية عند أسوار فيينا. هنا يطرح نفسه السؤال التالي: ماذا فعل العثمانيون خلال قرن ونيف من الزمن وهم أسياد البحر المتوسط، غير الانتصارات العسكرية، الصغيرة أو الكبيرة؟ في هذه الفترة الزمنية نفسها وتحديدا سنة 1492 سقطت غرناطة آخر إمارة عربية إسلامية في الأندلس. فهل حرك العثمانيون ساكناً لمساعدة عرب الأندلس؟ سؤال آخر: في العام نفسه 1492 تم اكتشاف العالم الجديد، واكتشافات جغرافية عديدة من قبل بحارة برتغاليين وإسبانيين وإيطاليين. فماذا اكتشف البحارة العثمانيون، أسياد البحر المتوسط؟ هل اكتشفوا القرصنة؟
العام 1492 نهاية القرون الوسطى، بداية العصر الحديث. بعض المؤرخين يعتبر العام 1453 سقوط القسطنطينية، لجوء علماء وفلاسفة إلى أوروبا الغربية، بدايات النهضة الأوروبية بالعودة إلى التراث اللاتيني واليوناني، في الفن والأدب،العلوم والفكر العلمي والفكر الفلسفي، بداية العصر الحديث.
العام 1492تبدو اللوحة كما يلي: الغرب يمتد غرباً والشرق يرتد شرقا. الغرب يكتشف قارات جديدة والشرق ينطوي على نفسه. الغرب يطور علوم الظاهر ويصل إلى "الظاهراتية" أو "الظواهرية" منهج بحث، وجهة نظر والشرق يغرق في أسرار الباطن ويصل إلى "الباطنية" عقيدة وتقية!!!
فأي نموذج تقدمه الدولة العثمانية الإسلامية للباحثين في ركامها عن نموذج يصلح ليومنا هذا وإن أكل الدهر عليه وشرب؟ ربما النموذج الانكشاري؟؟

فعلا كتب القليل عن الخلافة العثمانية، وقلما تطرق احد الى اسباب كونها كالبالون المنفوخ لم تقدم شيئا للعالم على مدى القرون التي وجدت بها.. ماهو سبب فراغهها الفكري وعدم قدرتها على تحفيز التقدم؟؟

مقال جميل وسيكون مناسبا لو قرأنا مشاركة لبعض الاراء التي تدعو الى احياء دولة الخلافة الاسلامية ..

ويبدو أن سبب اختيار فترة الخلافة الراشدية والعثمانية من قبل الكاتب للنقد هو أفتقار هذه الفترة لاي حركة ثقافية حضارية

العصران الراشدي والعثماني خلا من الانفتاح على الثقافات الاخرى وتبادل المعارف بين الشعوب , فالدولة الراشدية الفتية تمسكت بسنة الرسول واتخذت من الاسلام منهجا للدين والدنيا

والدولة العثمانية قامت بيد قبائل رعوية لم تعرف التحضر ولم يكن لديها اي تاريخ ثقافي اضافة لانقطاع التواصل بينها وبين التراث العربي الاسلامي بسبب الاختلاف اللغوي و الذي تكوّن نتيجة الاختلاط مع حضارات اخرى , وعدم وجود حركة للترجمة عند العثمانيين كتلك التي ظهرت في نهاية العصر الاموي وفي العصر العباسي التي نقلت العلوم والمعارف من الحضارات التي سبقت الاسلام واختلطت مع التراث العربي الاسلامي , لذا أقتصر واعتمد التمدد التركي العثماني على القوة العسكرية فقط