جلال الدين الرومي والثقافة العربية في إشعاع كوني
فيكتور الكك
سيرته وسلوكه
هو جلال الدين الرومي.. أصله من بلخ. رحل مع والده المعروف بـ »بهاء ولَد« (م.628هـ/1230م)، أمام هجوم المغول، إلى آسيا الصّغرى، واستقرّ مع أسرته في ِقونيه«، وأمضى حياته هناك إلى أن وافاه الأجل سنة 672هـ/1273م. وقبره بتلك المدينة كان وما يزال مزاراً لمريديه وأتباعه.
يقال له »مولانا« و »مُلاّي رُوم« أي مولى الرّوم. تتلمذ الروميّ على والده »بهاء الدين ولد« صاحب كتاب المعارف، وعلى »السيد« برهان الدين المحقق الترمذي أحد تلامذة بهاء ولد. طلب العلم كذلك مدة، في بلاد الشام، وعاد إلى قونية ليشتغل بتعليم العلوم الدينية، إلى أن التقى العارف الواصل الكبير شمس الدين محمد بن علي التبريزي في قونية، فوقع من روحه الحارّ في غليان نفسيّ لم يهدأ حتى آخر رمق من حياته، فلم تفتر همّته في إرشاده السالكين وبثّهم الحقائق الإلهية. وقد وصلت إلينا من هذه المرحلة الحافلة بالهيجان الروحي آثار لا مثيل لها غطّت ثلاثين سنة من حياة شاعرنا. فالمثنوي الذي جعله مولانا في ستة دفاتر في بحر الرمل المسدّس المقصور يحتوي 26000 بيت من الشعر.
اعتصر »مولانا« معارف الإنسانية في مسيرتها المديدة نحو كشف المجهول، وجهْدها المتراكم لتربية النفس الأمّارة بالسوء، فغدت رائعته الموسومة بحق »المثنويّ المعنوي« دائرة المعارف الإسلامية والإنسانية. إليها انتهت جهود المسلمين قبله في التفكير والتعبير، بدءاً بتفسير القرآن، مروراً بتفهّم الحديث النبويّ، عبوراً إلى أحكام أصول الدين والفقه ومسائل علم الكلام والحكمة، أخْذاً بما آلت إليه علوم الأوائل أيضاً في ميادين الرياضيّات والهندسة والفلك والطبّ والتاريخ والأدب وحياة المجتمعات وسواها ممّا له صلة بجسم الإنسان وعقله ونفسه وروحه وبعده الغيبيّ. إذا أدركنا هذا الواقع لم يصدمنا قول القادرين قدْرَ »المثنوي« إنه »قرآن العجم«! ولا غرو، فإنّ القرآن هو محور »المثنوي المعنويّ«، دعوة إلى الإيمان الحيّ والعمل الفاعل وتنوّر العقبى التي وُعد بها المتّقون. كما أنّ القرآن هو محور غزلياته العرفانية فيما عرف بـ »كليّات شَمْس« أو الديوان الكبير، وفي آثاره النثريّة. القرآن هو محور حياة مولانا: أقواله، أفعاله، توجّهاته، أشواقُ توقه الدائم إلى ما وراء الوجود: سُداها ولحمتها القرآن، وقبلتُها غير المنظورة هي الفرقان المعجز!
القرآن
هذه المسيرة الطويلة التي أوجزناها، سلكها مولانا الروميّ من نقطة الدائرة في القرآن الكريم:
{الله نورُ السّماوات والأرض مثلُ نوره كمشكوة فيها مصباحٌ المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكبٌ دريّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة يكاد زيتُها يُضيء ولو لم تمسسْه نارٌ نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم}1!
شكّل القرآن في مسار »المثنوي« الفكريّ والإنسانيّ والروحي نقطة مداره التعليميّ - التربويّ وقبلة صبوته إلى الحقّ، تعالى. فالمثنويّ مفعم بالآيات القرآنية، وبأنصاف الآيات وبأرباعها وبعبارات منها وكلمات خاطفة موحية كأنها البرق أحياناً يضيء جوانب من قصة أو تمثيل معنويّ فإذا القصد منها واضح مجلوّ بنور الوضوح. هو، عنده، كتاب الذّكر يهيمن بروحه على المثنويّ.
قارئ »المثنوي« بشكل خاص وسائر آثار مولانا بشكل عام يتبيّن جلال الدين موزّع الشعور والعقل والقلب بين ثلاثة عوالم: عالم الكون والشهادة، عالم القرآن وتقويم النفس، عالم التسامي إلى الكمال. القرآن، بما احتمله في باطنه من وحي الأنبياء والمرسلين واختزنه من الحقيقة المحمديّة يشكّل لبّ تعاليم »المثنوي« وسائر شعره للعبور الإبداعي من الدنيا إلى الآخرة، متجاوزاً به العبور الطقسيّ. لقد جمع في كيانه علوم الأوائل والعصر، وعجنها بوحي القرآن وعلومه، وتمثّلها من منظار صوفيّ عرفاني، ساعياً إلى الملاءمة بينها وبين تعاليم أهل التصوّف والعرفان. سبقه إلى ذلك أو بعضه عارفون فهم كلّ منهم القرآن في ضوء تجربته العرفانية بحسب المقام الذي بلغه والأحوال التي انتابته وتفاوت درجة الكشف والشهود لديه. إلاّ أن نفاذ نظر مولانا إلى القرآن من منطلق تجربته العرفانيّة الشخصيّة الفذّة كان مميّزاً من حيث الإحاطة والعمق والإبداع في استحضار القصص من القرآن وتراث المفسّرين والعارفين، من مثل تفسير أبي الفتوح الرّازي وتفسير محمد بن جرير الطبريّ وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني وقصص الأنبياء للثعالبي وقصص فريد الدين العطّار التمثيلية ومقالات مثاله الأعلى شمس التبريزي وسواهم. هذا في ميدان القصص الديني الذي استقاه ممّا يزيد عن مائة وعشرين مصدراً ذكرها أستاذي العلاّمة المرحوم بديع الزمان فروزانْفر الذي قرأت المثنوي عليه في كليّة الآداب بجامعة طهران في غُرّة العقد السادس من القرن العشرين. أمّا القصص الباقي الذي أحصاه فروزانفر الرائد فبلغ مع المذكور (340) ثلاثمائة وأربعين قصّة تعرّف إلى ينابيعها فكشف عن 264 ينبوعاً لها ربّما كان معظمها مما شاع بين الناس وتناقله »النقّالة«2 أو العامّة شفويّاً3.
إلا أن مولانا تصرّف في نقل هذه القصص، زيادة ونقصاناً وتبديلاً، خدمة لأهدافه التمثيليّة منها، معملاً فيها خياله الرّحب وبراعته السرديّة بحيث خلقها من جديد، أحياناً، ومنحها أبعاداً لم تتضمّنها في الأصل. كما أنه عمد إلى ابتداع قصص من خياله الخلاّق توضح مقاصده وتمثّل تسامي الإنسان نحو الإنسان الكامل، بحسب تصوّره.
ذكرنا أن القرآن هو الفلك الذي يدور المثنويّ في مداره، بحيث أنّ بعض الباحثين اعتبر المثنويّ ضرباً من التأويل الصوفيّ للقرآن، وإن اعتقد شاعره أنّ تأويلاته والتعبير عن مضامينه ليست من قبيل التفسير بالرأي4. والأمثلة على أنّ القرآن شكّل لحمة المثنويّ وسداه لا تحصى. فلنمثّل على هذا الفيض من الآيات والإشارات المبثوثة فيه بمثل واحد مستقى من قصّة صديق قرع باب صديق له، فلما سأل هذا: من الطارق، قال القارع: أنا. قال صاحب المنزل: لأنك تقول أنا لا أفتح الباب فلست أعرف أحداً اسمه أنا. يقول مولانا في أبيات من القصّة ما أترجمه بالعربية:
والمعنى:
لا يصلح خيط برأسين لثقب الإبرة، فكن برأس واحد تنفذ من الإبرة. ينبغي أن يكون ثمّة تناسب بين الخيط وثقب الإبرة، وليس بين الجمل وسَمّ الخياط أية نسبة. إذ كيف يضمُرُ كيان الجمل إلاّ بالرياضة والعمل، أي بقهر النفس ومجاهدتها5.
هذا تمثيل على نكران الذات ونفي الازدواجية بين »أنا« و »أنت«، فكلاهما واحد، ولا سيّما أن هذه الأحديّة مرشحّة للفناء في الواحد الأحد، بعد مجاهدة النفس بالرياضات الروحية واكتساب الكمالات والمجاهدات المستمرّة. فلن يدخل الجمل سمّ الخياط ما لم يهزل جسده ويصبح في رهافة الخيط الذي يدخل سمّ الخياط. وهذه العبارة مأخوذة من الآية القرآنية: {إنّ الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتَّح لهم أبواب السموات ولا يدخلون الجنّة حتى يلجَ الجمل في سمّ الخياط}. وفي الإنجيل: »الحقّ أقول لكم: »ليصعبُ على الغنيّ دخول ملكوت السّماوات. وأردّد: إنّ ولوج جمل في عين إبرة لأيسرُ من دخول غنيّ ملكوت الله«6.
الحديث النبويّ
في الإطار الثقافيّ الدينيّ نفسه، كان الحديث النبوي وسيرة المسلمين الأولين وأقوالهم معيناً دافقاً رفد المثنوي المعنوي والديوان الكبير بتعاليم كثيرة وتمثيلات شتّى نكتفي في هذا المقام بما يلي منها.
يقول مولانا:
پسْت مى گـويم به اندازه عقول، عيب نبْود اين بودَ كار رسول7؛
أي: أقوالي سهلة الفهم تلائم عقول (الناس)، وليس في ذلك عيب فهذه هي سنّة الرسول.
ومعلوم أنّ هذا الكلام صدى للحديث النبويّ القائل: »إنّا، معاشر الأنبياء، أُمرنا أن نكلّم الناس على قدْر عقولهم«8؛ كما أنه إشارة إلى الآية القرآنية: {وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه}9.
ويقول مولانا في مكان آخر:
مال را كز بهرِ دين باشى حمول نِعْمَ مالٌ صالحٌ خوانْدش رسول10؛
أي: إذا توافر لك المال في سبيل الدين، فنعم المال الصالح، كما قال الرسول. وهو مأخوذ من الحديث النبويّ: »نعم المال الصالح للرجل الصالح«11.
أحداث التاريخ الإسلامي.. الإمام عليّ
إضافة إلى ذلك، يتبيّن لمطالع المثنويّ المعنويّ رحابة اطّلاع مولانا على جزئيات التاريخ الإسلامي وأخبار الصّحابة والتابعين ومن تلاهم والأحداث الكبيرة والصغيرة، بحيث أنك تراه يستحضر كلّ ذلك بيُسر ويضعه بين يديك، تمثيلاً على ما يقول. وليس يتسع المقام هنا لتفصيل تلك الإشارات أو بعضها.
غير أنّ ما يسترعي النظر في مؤلّفات مولانا، شعراً كانت أو نثراً، هو شدّة تعلقه بآل البيت ولا سيّما بشخصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب، فهي، في آثاره، وبخاصة في المثنوي، شخصية مركزيّة يستلهم منها سيماء »الإنسان الكامل« محور تعاليمه. فبعد مدائحه النابضة والعميقة الغور لنبيّ الإسلام في المثنوي، يتجّه كيان مولانا إلى شخصية الإمام المميّزة كأنما هي أثيريّة وليست من لحم ودم، وذلك على مدى الدفاتر الستّة من رائعته المثنويّة.
ففي نهايات الدفتر الأول من المثنوي يمثّل مولانا بقصّة كافر انبرى لإهانة أمير المؤمنين وتحقيره. إلاّ أنّ الإمام، بعد أن جدّله، واستلّ سيفه القاطع، ومبادرة المجدل إلى البصق في وجهه، رمى بسيفه بعيداً ولم يُجهز عليه. بُهت جميع الحاضرين وكان أكثرهم تعجباً الرجل المعتدي الذي سأل الإمام عن سبب عفوه عنه. فقال له الإمام: إنّ أسد الله والمقاتل في سبيل الحق لا يُزهق نفساً إرواءً لغضب أو حقد. أما قصد مولانا من صياغة هذه القصّة ذات العبرة الفذّة فالتمثيل على أنّ كل عمل نقوم به في سبيل الله ينبغي أن يكون منزّهاً عن ميول النفس.
قال مولانا في مطلع القصّة:
از علي آموز إخلاص عمل، شير حقّ را دان مطهّر از دَغَل12؛
أي: تعلّم من علي الإخلاص في العمل، واعلم أنّ أسد الحقّ هذا منزّه عن كل دغل وحيلة.
ابن الفارض وابن عربي
إذا غادرنا هذا المجال الفسيح من ينابيع المثنوي وكلّيات شمس وسائر آثار مولانا الرومي، ويمّمنا شطر الإبداع الصوفي الذي هو عمادها، ندخل مجالاً رحيب الجنبات تنتصب في وسطه شجرتان باسقتان هما ابن الفارض وابن عربي. فهل استقى المولويّ من معينهما الدّفاق أم أن تجربته العرفانية التقت في قمّة الاستغراق والكشف تجربتَيْهما، وكلّ شبيه للشبيه نسيب؟..
يستنتج الدارس لتواريخ ولادة مولانا ووفاته وابن الفارض، أيضاً، أنّ مولانا جلال الدين عاصر ابن الفارض مدّة واحد وعشرين عاماً من تاريخ ولادته، وأنه عاش بعد ابن الفارض أربعين عاماً. فمولانا ولد في السادس من ربيع الأول عام 604 للهجرة (1207م) وتوفي في جمادى الآخرة عام 672هـ. (17 ديسمبر 1273م) في حين أن شاعرنا العربيّ أبصر النور عام 576هـ وفارق الحياة عام 632هـ.
فإذا أخذنا في نظر الاعتبار أنّ جلال الدين الروميّ شرع بتأليف المثنوي عام 658هـ أي 26 سنة بعد وفاة ابن الفارض وأنّ التائيّة الكبرى الشهيرة بنظم السلوك، أيضاً، كانت متداولة في محافل العارفين وأهل الأدب في قونية وبلاد الشام يتغنّى بها أهل الذوق الأدبي والصوفيّ؛ وإذا تذكّرنا أنّ سعيد الدين الفرغاني شارح التائيّة الكبرى بالعربيّة والفارسيّة هو تلميذ صدر الدين القونوي وأنّ هذا كتب على شرحه مقدّمة، وأن صدر الدين، كذلك، كان من ملازمي مولانا وأصدقائه المقرّبين؛ إذا عرفنا كلّ هذا وسعة اطلاع مولانا وظروف حياته الروحيّة، أفلا يكون من طبيعة الأمور أن يكون مولانا قد اطلع عليها وتمثّل معانيها كما تمثل تراث الإسلام والأولين وعصره، وجميعها معجون بخميرة شخصه الفذّ؟
في هذا السياق، تناول باحث إيراني معاصر احتمال تأثر مولانا بجانب من جوانب طريق السلوك العرفانيّ الذي سلكه ابن الفارض ومولانا وعارفون آخرون. هذا الجانب هو مسألة غياب تمايز المدركات الحسية، بل قيام كل حاسّة مقام الأخرى في الإدراك، بحيث تقوم حاسّة السمع، مثلاً، مقام حاسّة النظر، وهكذا دواليك. وهذا أمر يُفضي بنا إلى فهم تجرّد الماهيّة وجوهر النفس وكذلك تجرّد مدركاتها، فيقرب من أفهامنا سرّ المعاد وكيفيّة الحياة الأخرويّة للنفس الإنسانية.
يقول مولانا في المثنوي ما ترجمته بالعربية:
أي، بالعربيّة:
ثمّة حواسّ خمس سوى هذه الحواس الخمس (الظاهرة)، تلك شبيهة بالذهب الأحمر (الخالص) وهذه شبيهة بالنّحاس. في تلك السوق العامرة بأهل الحشر، من يشتري الحسّ النحاسيّ بمثل ما يشتري به الحسّ الذهبيّ؟
إنّ حواسّ الأبدان تتغذّى بالظلمة، بينما حواسّ الروح تستمدّ قُوتها من الشمس. (شرح شهيدي، ،5 ص17)
ثم يقول في تبدُل إدراك الحواسّ ما ترجمته بالعربية:
(شرح مثنوي شهيدي، ،6 ص614)
أي، بالعربيّة:
إذا رفع القيد عن إحدى الحواس تبدّلت وظائف الحواسّ الأخرى مجتمعة. فعندما تحوز الأذن حدّ النّفاذ تصبح عيناً. (شرح مثنوي شهيدي، ،6 ص614)
ما أكثر الكلام الذي أُلقي في قلب موسى فأدى إلى اختلاط الرؤية بالكلام!
ويقول في تجاوز مدار حياة الحسّ إلى عالم المجرّدات بالمفهوم الفلسفيّ، وعالم الاستغراق بالمفهوم العرفانيّ الذي لا يمكن لمخلوق أن يستشرفه إلاّ إذا خبر التجربة الصوفيّة الشاقّة المراقي ما ترجمته بالعربية شعراً لي:
من سدرة المنتهى جاوزت آفلاكــا قرنا بقرن طويت الدهر ذياكا
سوطُ الرحيم رمانه في ذرى فلـكٍ لا تجتليه عيون الإنس لولاكـا
قد حال ناسوتنا لاهوت معرفــــة بوركت من عضد يمناك مرماكا
فالحـالُ منّــيَ أحــوالٌ مجنّحــة لا النطق يشرحها أو حدس مولاكا
يحلل الباحث هذه الظاهرة الجوانيّة بما يلي:
»يظهر لنا أنّ هذه الحالة: »خلط ما بين الرؤية والكلام« و »الغيبة عن الوعي ثم العودة إليه« و »اختراق ما بين« الأزل إلى الأبد« هي حالة تتجاوز وتعلو حالات الحياة المحسوسة يمكن تسميتها بلغة الفلسفة التجرُّد وبلغة العرفان »الاستغراق« وما شابه، ومن سياق حديث مولانا أيضاً يمكن إدراك قدرها وقيمتها ومقامها ومنزلتها«13.
والجدير بالذكر أنّ ابن الفارض سبق إلى تناول هذه الحال الغريبة، أي حال انعدام تمايز الحواس واندماج بعضها ببعض وقيام كلّ حاسة بدور الحاسّة الأخرى، وذلك في رائعته الرائدة المسمّاة »التّائية الكبرى« أو »نظم السلوك« أي سلوك العارف الطريق إلى الحقّ والجمال المطلق المتجلّي في جمالات الطبيعة والإنسان، ومطلعُها:
سقتني حميّا الحبّ راحةُ مقلتي وكأسي مُحيّا مَن عن الحُسن جلّتِ
لنعرض فيها الأبيات التي صاغت وصف هذه الحال العرفانيّة الفذّة:
... تحقّقتُ أنّا، في الحقيقة، واحدٌ وأَثبت صحوَ الجمع محوَ التّشتّت
فكلّي لسانٌ ناظرٌ، مِسمعٌ، يدٌ لنطقٍ، وإدراك، وسمع، وبطْشة
فعينيَ ناجت، واللسان مشاهدٌ، وينطق مني السمعُ، واليدُ أَصْغَتِ...
من جهة أخرى، تناول باحثون موضوع تأثر البلخيّ الرّومي بابن عربي، عامدين إلى بعض التشابه فيما بين أفكارهما وآرائهما الصوفيّة. واقع الأمر أنّ هذه الأفكار والآراء هي منهل مشترك لمعظم الذين أو اللواتي سلكوا هذا المسلك الوعر. فهل ثمّة وقائع تاريخيّة أو تنافذ فكريّ واضح توضح الصلة أو تبيّن عدم الصلّة بين القطبين؟
تصدّى لهذا الموضوع منذ ثلاث سنوات باحث إيراني في دراسة نُشرت بمجلة »زبان وأدب« في طهران14. ورغم أنّ الموضوع ما يزال مطروحاً ومفتوحاً فإنّ الباحث المذكور سعى جاهداً إلى وضع الأمور في نصابها المنهجيّ الصحيح.
إنّ معرفة مولانا بابن عربي تعزّز صحّتها ظروف تاريخيّة هيّأتها. فقد حصل لقاء بين مولانا ووالده محمد بن حسن الخطيبي ومرشده شمس التبريزي من جهة، وابن عربي من جهة ثانية. زد على ذلك أنّ صدر الدين القونوي كان على علاقة بمولانا توثّقت في أيامهما الأخيرة15. كان للقونويّ الروميّ مكانة مرموقة في قونية، ومدرسة وخانقاه أي دويرة للصوفيّة. ولم يكن في أول الأمر على علاقة جيّدة بمولانا، بل كان يعارض آراءه ومسلكه الصوفيّ وينكر عليه ذلك. إلاّ أنّ مسعى لأحد تلامذته ومريديه قرّب الرجلين واحدهما من الآخر فغدا صدر الدين يتردّد على مجالس مولانا أسوة بمريديه ومحبّيه. كما أنّ علاقتهما الطيّبة المتأخّرة تُستشفّ من خلال متن المثنوي. إلاّ أنّ ذلك لم يُفْضِ إلى تجانس فكريّ أو منهجيّ في الطريقة بينهما، إذ كان مولانا يأخذ بمنحى الجذب والعشق في حين كان القونويّ صاحب نهج نظريّ ومنحى فكريّ على طريقة ابن عربي زوج أمّه الذي نشأه تنشئة نظريّة.
ما يسترعي النظر أن مولانا ذكر في آثاره الأشخاص الذين كان يأنس إليهم أو يعرفهم من أمثال شمس التبريزي وحسام الدين جلبي وصلاح الدين زركوب وصدر الدين القونوي، إلاّ أنه لم يذكر ابن عربي مرة واحدة. من جهة أخرى، ذكرت المصادر التاريخية والأدبية أنّ مولانا كان مولعاً بمطالعة بعض الآثار من بينها: المعارف لوالده بهاء الدين ولد، وتفسير السّلمي، وديوان المتنبيّ. ومع ذلك، ورغم غزارة الإنتاج الذي خلّفه ابن عربي، فلم يُذكر عنه أنه طالع شيئاً منه. كما أنّ مولانا ذكر في مؤلّفاته رسائل وصحفاً وكتباً وأحاديث متناقلة عن الصوفيّة، مثل: قوت القلوب لأبي طالب المكّي، متجاوزاً ذلك إلى القصص غير الديني والشعري مثل منظومات خسرو وشيرين لنظامي كـنجوي، وويس ورامين لأسعد كـركـاني، وكتاب كليلة ودمنة لابن المقفّع، وصولاً إلى القصص الشعبية وحكايات العوامّ، إضافة، بطبيعة الحال، إلى قصص القرآن وقصص الأنبياء الإبراهيميّين والصوفية وأتباعهم، إذ كان يُعيد قصّها بأسلوبه الخاص ويركّبها من جديد خدمة لمقاصده في سبيل أهدافه التربوية الصوفية. وهذا، لعمري، منهج بعيد كلّ البعد عن منهج ابن عربي، فقد سلك الرجلان إلى الهدف الأسمى الواحد طريقين مختلفين. وهما، وإن اشتركا في أفكار كانت من القدْر المشترك لأضرابهما، افترقا في أمور كثيرة. فمولانا كان لا يأخذ بالعلوم العقلية والمعارف العقلانية الفلسفية، بل هو يذمّ الفلسفة والفلاسفة ويسفّه علمهم في غير مكان من كتاباته. ذلك بَيِّنٌ في المثنوي وسواه حيث يتجه إلى الشّطح عن طريق القلب، أُسوة بالحلاّج الذي تأثّر بشخصيته وشعره في أمكنة مختلفة من غزليّاته والمثنوي كما هو ظاهر في قصّة الأعرابيّ الذي وضع رملاً في كيس ولوم الفيلسوف له، وقصّة متفلسف شكّك في مفهوم الآية القرآنية »إن أصبح ماؤكم غوراً« في سياق {وقل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين}16 وسوى ذلك. في مقابل ذلك كان ابن عربي من موطّدي أركان التصوّف النظري والعرفان النظري يأخذ، بطبيعة الحال، بالبراهين العقليّة ويقلبّها على وجوهها، وقد جاوزه في ذلك صدر الدين القونوي. غير أنّ موضوع الخلاف الأكبر كان في المقولة بوحدة الوجود.
مولانا في غزليّاته العربيّة
في غزليّات مولانا عدد كبير من الغزليات العربيّة ضمّها ديوانه الكبير يقارب عددها ألف بيت. جاء بعضها عربيّاً خالصاً، وبعضها الآخر ملمَّعاً بأبيات فارسيّة، أو تلميعاً لغزليّة بالفارسيّة أو مخلوطاً أحياناً بتعابير وشطور فارسيّة وتركيّة. وإذا تدخل عقل الإحصائي قائلاً إنها تشكّل من مجموع شعر مولانا نسبةأدنى من اثنين بالمئة فقط فإنّ ذلك لا يضيرها كمّاً لأنها تسوّد مقدار ديوان لشاعر وعشرات الدواوين أو المجموعات الشعرية المطبوعة بأسلوب بعض الشعر المسمّى حرّاً. فألف بيت من الغزل الصوفيّ جدير بالاهتمام. وهو إن دلّ على شيء فعلى أنّ مولانا لم يكن واسع الاطّلاع على ما في تراث العربيّة قديمه وحديثه وحسب، بل كان قادراً على التعبير باللغة العربية في ميدان الشعر، وهو أمر، كما نعلم، ليس بالسهل الميسّر حتى لأبناء الضاد المتبحرين في لغتهم. ويبدو أنّ إقامته في بلاد الشام في طريقه إلى قونية مع والده وأسرته ثم عودته للإقامة في دمشق وحلب، بعد استقراره في قونية ومخالطته أهل البلاد ولا سيما العلماء والصوفيّة والشعراء يسّرت له ذلك. وربّما قصد المولويّ إلى ذلك عمداً ساعياً إلى إبلاغ أهل العربيّة رسالته الصوفيّة الروحيّة وهو المربّي الساعي إلى حثّ الجنس الإنساني على التسامي نحو خالقه إذ لم يكن ممكناً أن يقوم بمهمته باستعمال الفارسيّة في ديار العرب، ولا سيّما في الشام.
ففاض الشوق منه، على البديهة، بلغة القرآن، لغة إيمانه، ومحور وحيه وتفكيره ومدار تطوافه العرفانيّ في جواء من الانجذاب لم ترها عين، ولا سمعت بها أذن ولا خطرت ببال بشر! وإذ كان القرآن ملاذّه كانت العربية لسان حال هذا الملاذّ. ولكم حدث لبعض أصحاب القلوب ممّن يتقنون لغة غير لغتهم الأمّ أن يستحضروا شعراً أونداءً أو صلاةً بغير لغتهم تشكّل لسان حال حالة دخلوا فيها. وفي حال مثل حال مولانا المشوشة كانت العربيّة لسان حاله الطبيعيّة لأنها لسان القرآن المستجار به أي لسان التنزيل وبيان حال »الحقيقة المحمدّيّة« التي وجد فيها المتصوّفة معراجاً لهم إلى عالم أرفع من عالمنا يرقون به إلى حيث يُفلتون من علائق الدينا فتشفّ أرواحهم لتُجذب إلى شبيهاتها، ولا يدرك الشبيه إلاّ الشبيه، وشِبْهُ الشيء منجذب إليه، كما قال الشاعر أيضاً.
الجدير بالذكر، أيضاً، في هذا المقام أنّ عدداً كثيراً من غزليّات مولانا الرومي الفارسيّة البيان استهلّها ببيت شعر عربيّ من نظمه واستمرّ بعدئذٍ بالفارسيّة حتى نهايتها، إضافة إلى غزليّات كثيرة ملمّعة نحا فيها النحو نفسه. وهذا، لعمري، بيان لرصيد العربيّة في كيانه التي غدا بيانها محرّكاً لوجده وسوطاً لانطلاقه نحو عوالم الغيب، فهي بمثابة النقرة أو النوطة الموسيقية الأولى التي يضرب بها العازف آلته لتنطلق!
وقد سار حافظ الشيرازي على النهج نفسه وإن لم يبالغ فيه مثل مولانا، فافتتح ديوانه بشطر عربي يوازي بيتاً وهذا هو المطلع:
ألا يا أيُها الساقي أدرْ كأساً وناولْها كه عشق آسان نمود أوّل ولي أفتاد مشكِلْها!
وترجمتي بالعربيّة له على هذه الشاكلة:
ألا يا أيّها السّاقي أدر كأساً وما فيها فأوهام الغرام زَهَتْ لتورثنا مآسيها17
في هذا السياق، تجنباً للإطالة، نثبت غزليّة قصيرة بالعربيّة من ستة أبيات إيضاحاً لنهج مولانا الغزليّ بلغة لم تكن لغته الأم. قال:
ألا يا ساقياً إني لظمآنٌ ومشتاقُ أدر كأساً ولا تنكر فإنّ القوم قد ذاقوا
إذا ما شئت أسراري أدر كاساً من النار فأسكرني وسائلني إلى من أنت مشتاقُ
أضاء العشقُ مصباحاً فصار الليلُ إصباحاً ومن أنواره انشقّت على الأحجار أحداقُ
فداءُ العشقِ أدوائي، ومُرُّ العشق حلوائي وإني بين عشّاق أسوقُ حيثما ساقوا
خذ الدنيا وخلّينا فدنيا العشق تكفينا لنا في العشقِ جنّاتٌ وبلدانٌ وأسواقُ
وأرواح تلاقينا وأرواحٌ سواقينا وخمرٌ فيه مدرارٌ وكأسُ العشق رقراقُ18
الذي نلحظه في هذه الغزليّة التي تنطق بلسان حلقات الذكر والتهيّؤ بالحركة للرقص أنها إنما صيغت على هذه الشاكلة لتلائم بين التشطير العروضيّ الذي يسهّله استعمال الوزن المثمّن (مفاعيلن، مكرّراً) غير المعمول به في العربيّة و »الحداء« الصوفي. وكثيرة هي غزليات مولانا الفارسيّة والعربية التي تجري مجراها أو تلك التي تحسّ من موسيقاها أنها أُلفت خلال الرقص على الطريقة المولويّة. لذلك لم يراعِ فيها صاحبها بعض القواعد اللغويّة والعروضيّة، أحياناً، كأن يسكّن أواخر الكلمات في حشو البيت أو، في سبيل استقامة الوزن، يجبرك على قراءة التاء المربوطة هاءً ساكنة. كما أنّ التباساً يقع، من حين إلى آخر، في عودة الضمائر إلى أصحابها، وقسْ على ذلك، بحيث تشعر أنّ مولانا يصوغ شعره العربيّ وفاق عبقريّة اللغة الفارسيّة بأساليب تعبيرها ودقائق بيانها، وهي لغة آريّة تفصيليّة تركيبيّة بعكس العربيّة ذات المنحى التوليفيّ Synthetic. زد على ذلك أنّ مولانا كان يتجّه في غزلياته، بشكل عام، إلى المعنى والمقصود العرفانيّ معبّراً عن حاله العرفانيّة غير الطبيعيّة من خلالها، غير آبهٍ للبيان وصقله، فلم يكن ليعود، بعد ذلك، على غرار سعدي وحافظ، إلى تهذيب غزليّاته من حيث البيان، ومراجعة الصياغة19.
إشعاع مولانا الكونيّ
أشرْنا، خلال بحثنا، إلى جوانب من ثقافة مولانا الواسعة التي اختصرت معارف عصره واعتصرت زبدتها، عائدةً في أصولها إلى الأوائل. إلاّ أنها لم تقف عند هذا الحدّ، شأن الكثيرين، بل انطلقت بها عبقريّة البلخيّ الروميّ إلى ارتياد آفاق من الإبداع الروحي والفكريّ الذي يتناول شؤون الإنسان في مجتمعه، سعياً إلى السمو به فوق المستوى الإنساني، إلى الملأ الأعلى، تشبهاً بمبدعه. ألم يذكّر الخالق مخلوقه بأنه خلقه على صورته كمثاله؟؟20 و »في أحسن تقويم«21.
لقد اتّخذ مولانا لنفسه، بعدُ إذ كان مريداً تمرّس بالمجاهدات، قهراً للنّفس، صفة المعلّم المرشد للإنسان، كي يكون لوجوده معنىً وغاية. وليس إنتاجه الغزير النادر بغزارته وكيفيّته بين شعراء العالم وأدبائه سوى معراج لسلوك الإنسان المتسامي الذي أراده. وإذا كان قد حاز، في حياته وبعدها، مكانة مرموقة فذّة في محيطه وعلى امتداد العالم الإسلامي، فإنّ إشعاعه الفكريّ - الروحيّ تجاوز ذلك العالم، شيئاً فشيئاً إلى أوروبا عبر ترجمات نهض بها مستشرقون أو مفتونون بالشرق وروحانيّته، وأفكار قبسها عظماء أوروبيون في الشعر والفلسفة والأدب، من أمثال لافونتين وغوته ونيتشه وديدرو وفولتير ومونتسكيو، وصولاً إلى فكتور هوغو وپول فور وسواهم22. ففي أعقاب الترجمات التي قام بها مقتدرون من بريطانيا وفرنسا ولا سيّما من ألمانيا التي كانت رائدة في اقتباس أخيلة الآداب الشرقيّة ومضامينها ولا سيّما الأدب الفارسي - كان من الطبيعيّ أن يتأثر أولئك الأعلام بالأدب الفارسيّ الذي يعنينا في هذا البحث، وبوجه أخص بأدب مولانا الروميّ وتراثه الروحي. وقد كان لغوته في »الديوان الغربيّ - الشرقي« دور كبير في خلق حالة من العودة إلى مشرق الأنوار، بعد أن مهّد الطريق لذلك أدم أولياريوس (1671) وغروملثياوزن بعدئذ وهارْتمن وشليغل وفون هامر وروكرت23...
في ألمانيا:
والعجيب أنّ هذا التأثير لم يقف عند حدود الأدباء والمفكرين الذين كانوا مؤمنين بالله والشؤون الرو حية، بل تعدّى هؤلاء إلى من يُنسب إليه الإلحاد وهو فردريك نيتشه. فقد أعجب نيتشه بحافظ الشيرازي إعجاباً شديداً ، وإذا كان مؤلَّف نيتشه الشهير »هكذا تكلّم زردشت«24 لا يمتُّ بصلة واقعيّة إلى ديانة نبيّ إيران العتيقة فإننا نقع فيه على أفكار منسوبة إلى التراث الإيراني القديم ورمزيّات التقطها من خلال مطالعته ما وصل إليه من الأدب الفارسيّ. والجدير بالذكر أنّ كثيراً من الأفكار التي جاء بها حافظ لمحاً وردت عند مولانا الذي سبقه زماناً. فمولانا توفي عام 1273م/672هـ أما حافظ فغاب عام 1389م/709هـ.
إلاّ أنّ أهمّ أثر يمكن أن يكون خلّفه مولانا في فكر نيتشه هو نظريّة السوبرمان والإنسان المتفوّق التي نادى بها نيتشه والقائمة على القوّة. وهي النظريّة التي نادى بها المتصوّفة من العرب والإيرانيين وسواهم وشكّلت نقطة محوريّة في تراث مولانا العرفانيّ، وهي القول بالإنسان الحقّ أو الإنسان الكامل. بطبيعة الحال، سمَةُ هذا الإنسان عند مولانا وأضرابه هي القوّة المعنويّة التي تقهر النفْس الأمّارة بالسوء وتؤدي بصاحبها إلى الكمال الإنساني - العُلْويّ، بينما هي نفسها عند نيتشه، غير أنها لا تصبو إلاّ إلى الكمال الفرديّ فوق البشريّ، إلى الإرادة التي تتجاوز نفسها. الكمال، هناك، يسمّى قوّة هنا. الجوهر هو نفسه عند العارف الربّاني و »المريد فوق البشريّ«25: تحدّي الإنسان ذاته تجاوزاً لطاقاتها بالإرادة. المكافأة، هناك، هي الانعتاق والفوز بالاتصال، بالعودة، ولو لبرهة، إلى ما لا نفتأ نحنّ إليه في هذه الحياة الدنيا، بينما هي، عند نيتشه، التحرّر من قيم المجتمع الغربي التي أدّت به إلى الانحطاط القيَم المسيحيّة والقيم الديمقراطية.
«إنّ ما يكمن في الإنسان من عظمة، بحسب مقولة نيتشه، هو قدرته على أن يحقّق لنفسه مستقبلاً، تالياً أن يتجاوز ذاته. وهي قدرة يُطلق عليها تسمية ثانية هي مفهوم الإنسان المتجاوز نفسه، الذي تقضي عليه محبّة الإنسانية، على أنها محبة ما في الإنسان؛ لذلك ينبغي رفض محبة القريب (وهي من أهمّ التعاليم المسيحيّة) في سبيل »محبّة البعيد«. هذا التجاوز هو »التحوّل الحقيقيّ للوجود« الذي يبعدنا عن احتقار الإنسان26.
أما مولانا الروميّ فقد تكرّر في آثاره سعيه إلى التمثيل على هذا الإنسان الكامل الذي ينبغي أن تصبو إليه الإنسانية الغارقة في وحل الأهواء. ومن جملة مقالاته في هذا الصّدد هذه الحكاية (مترجمة بقلمي):
ليلَ أمس كان شيخ يطوف المدينة بمصباح، فقد ملّ الشياطين والحيوانات البرّيّة ليفتّش عن إنسان وعندما أخبرته بأننا طلبنا ذلك الإنسان في كلّ مكان فلم نظفر به، أجاب إنه يسعى وراء ذلك الذي لا يمكن الظّفر به!27.
أطلق مولانا على هذا الإنسان اسم »القُطْب«، ولم يكن مراده من ذلك المرشد الرّوحيّ للمتصوّفين بالمعنى المعروف، بل الإنسان المتعالي المتسامي إلى الكمال.
في نجدتك إياه مضاعفةٌ لنجدة نفسك - فقد قال الله: إن تنصروا اللّه تُنصَروا28.
هذه القَبَسات والإيحاءات أصبحت في ألمانيا أمراً شائعاً. فالشعراء والأدباء والمفكّرون الذين تلوا نيتشه وقبله غوته وقرأوا أو ترجموا من اقتبس منهم هذان العظيمان تجاوزوا تأثّرهما إلى تقليد النماذج الفارسيّة وتبنّي مقولاتهم، سواء في الأفكار التي أخذوها عنهم أو الصّور والأخيلة شأن روكرت، أو في استخدامهم عروض الشعر الفارسيّ مثل بلاتين، وهكذا دواليك مع بودِنْشْتِدْت وهايْنِه وسواهما29.
في بريطانيا:
لم يكن نصيب بريطانيا أقلّ من نصيب ألمانيا في التأثّر بإشعاع مولانا الأدبيّ والروحانيّ، ولا سيّما أن اللغة الإنكليزية لغة شاعريّة تحتمل مفرداتها وتراكيبها الكثير من التأويل والإيحاء وتبقى، أحياناً، غير محدّدة الحواشي. إلاّ أنّ شهرة الخيّام، بعد اقتباس رباعياته بريشة ادوارد فيتزجرالد الصّناع طغَت على سائر شعراء الفارسيّة الذين نقلهم إلى الإنكليزية باحثون أكاديميون لا شعراء، وحصرتهم في حلقات الخاصّة.
مع ذلك، نقلت إلى الإنكليزية آثار مولانا تباعاً، بدءاً بـ »أُغنية النّاي« التي نهض بأعبائها بالمر، مروراً بالدفتر الأول من المثنوي الذي نقله السّير جيمس ردهاوس ونشره تروبنر في »المجموعة الشرقيّة« التي تحتوي، كذلك، بين أعدادها مجلداً آخر يختصر المنظومة كلّها في مقتطفات نقلها، نثراً، السيد هوينفلد (مترجم »گـلْشَن راز« من الفارسيّة أيضاً للشيخ محمود شبستري).
في هذا السياق عكف مترجمون بريطانيون على ترجمة آثار مولانا، بينها ترجمة مقطوعات قام بها ادوارد غراينفيل براون صاحب كتاب »تاريخ الأدب في إيران«. إلاّ أنه يعترف بأنّ أفضل ترجمة هي للمستر نيكلسون التي نشرها في كيمبردج سنة 1898م بعنوان »قصائد مختارة من ديوان شمس تبريز«، فهي »من أبدع الدراسات وأكثرها أصالة في هذا الموضوع«30.
بطبيعة حال الإقبال على الأدب الفارسي في بريطانيا تُرجم الخيام وطبع مرّات عديدة وكذلك سعدي ولا سيّما الكلستان مع حذف مقاطع منه كانت تخدش الأخلاقيات في العهد الفيكتوري إلى أن ترجمه كاملاً أربوثنوت Arbuthnot، معتبراً أن سعدي ينسجم مع النهج الأوروبي أكثر من أي شاعر إيراني عبقريّ آخر، وذلك عام 1887م.
في فرنسا:
أما في فرنسا التي تفوّقت على سائر البلدان الأوروبية في ترجمة سعدي ولا سيّما في التأثر به بسبب الاتجاه الفكري الاجتماعي الواقعي الذي ساد فيها القرن الثامن عشر، قرن التنوير، وبعد ذلك أيضاً، فلم يكن نصيب مولانا زهيداً.
لقد تأثّرت به الكونتيسا دو نوايْ خالطةً بين روايات له ولحافظ وسعدي، متمنّية أن تُبعث، بعد موتها، في بلاد الفرس، وألاّ يتجاوز عمرها الخامسة عشرة، ولا سيّما في شيراز مدينة سعدي وحافظ اللّذين سيكتشفان فيها »العاشقة الكبرى للورود« وحيث يطلق بلبل حافظ صداحه الحزين وتقرع ليلى، يوماً، باب المجنون فيسأل: من الطارق؟ فتجيب: أنت! وهكذا يُشرع الباب على دفتيه! وهذه، كما أشرنا سابقاً، من روايات مولانا. وهذا ما أنشدته الكونتيسا دو نواي31 La comtesse de Noailes
تجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ القرن التاسع عشر شهد ترجمات كثيرة عن الفارسية في فرنسا، بينها لفريد الدين العطّار: بَندنامه (كتاب النّصيحة)، منطق الطير، تذكرة الأوليا؛ ولعبد الرحمن جامي: مجنون وليلى؛ ورباعيّات بابا طاهر عريان؛ ومقطوعات من المثنوي لمولانا. أضف إلى ذلك، في النصف الأول من القرن العشرين: يوسف وزليخا، سلامان وأبسال، بهارستان لعبد الرحمن جامي، مناقب العارفين للأفلاكي. هذا إضافةً إلى مجموعة أبحاث ظهرت في القرن العشرين حول الأدب الفارسي وتراث إيران، من أبرزها كتابات هنري ماسّه، ولويس ماسينيون وهنري كوربان32...
أرمان رنو:
وقد نهج النهج نفسه أرمان رنوArmand Renaud (1836-1895م) في بعض قصائده التي احتوتها مجموعته الدالّة على تأثّره بإيران الموسومة »الليالي الفارسيّة« Les Nuits Persanes يتجلّى في هذه المجموعة أثر حافظ الشيرازي والعطّار في منطق الطير وقصّة ليلى والمجنون كما وردت في »هفت أُورنك«، لعبد الرحمن جامي؛ وكذلك استوحى المثنوي لمولانا في مطالب بعض قصائده33. فهو، نفسه، أعلن تقليده مولانا في مقطوعته المعنونة L’ivresse lumineuse أي: السّكر المضيء.
أمّا الفصل التاسع من مجموعة رنو المعنون »المسجد« La mosquée فيسعى فيه رنو إلى تبيان مقدرة الشعر الصوفيّ على خلق أعظم ملاحم التاريخ، فينظم مطوّلة في شهادة الإمام الحسين في كربلاء. وبعد أن يصف مصرع الإمام الشهيد ترتفع روحه إلى المستوى الإنساني الشامل. فهو ليس، بعد اليوم، في حاجة إلى الخمرة ليسكر، إذ إنّ كل ما يشرب يغدو خمراً وكل ما يأكل هو أفيون، وقصيدته المعنونة »حلم الأفيون«Songe de l’opium في الفصل العاشر تنبئ بذلك وباقتباسه من مولانا القائل:
مارا مبين چومستان، هرچه خورم مي است
افيون شود مرا نان، مخموري دو ديده34!
وترجمتها بالعربية:
لا تَحْسَبَنّي سكران، من كل ما أشربه نشوان،
الخبز يحول فيَّ أَفيونا، فعينايَ مخمورتان!
وفي ترجمة شعرية لي:
ألا لا تَحْسَبَنْ مـولاكَ سكرانا فأيُّ الشرب أغدو منه نشوانا،
وأفيوناً يحول الخبزُ في حلقي، فسكرُ العــينِ هَدْهَدنـــا ومَنّانا!
موريس بارس
في هذا المسار الصوفيّ الذي واكب النزعة الرومنطيقيّة أحياناً يتّخذ صدى التصوّف الإيراني وجهة مميّزة في آثار موريس بارّس Maurice Barrès (1862-1923م). عام 1914م أُسندت إليه مهمّة في الشرق الأدنى فقصد إلى زيارة قونية حيث ضريح مولانا الروميّ وتراث الدراويش الدوّارين. فالتقى هناك مرشدهم »جلبي« مطلقاً عليه لقب »الكنز الثمين الجوّال« وكانت له معه حوارات حول تاريخ الفرقة المولويّة. وبعد عودته، نشر حصيلة رحلته تحت عنوان مهمّة استقصاء في بلدان المشرق35 بعد فترة دراسة لشعراء الصوفيّة في مدرسة اللغات الشرقيّة بباريس سبقت سفره، وبينهم العطّار والمولوي (مولانا جلال الدين) الذي يصف مثنويّه بأنه »مفعم بالإحساس والخيال وأنّ أشعاره ذات الهيجان تكاد تقرع باب السماء«36.
بعدئذ، يروي مشاهداته في الشرق التي أدّت به إلى التأمّل في الحياة الصوفيّة مستخلصاً جوانبها المختلفة في ستّ نقاط، خامستها يذكر فيها ما يلي:
»لا يمكن مقارنة أية سيرة من سِيَر رجال السّماء بسيرة جلال الدين«.
ثم يعقد مقارنة بين المولوي وبعض الكبار من شعراء أوروبا مستخلصاً ما يلي:
»منذ رأيتُ فرقته ترقص وتغنّي على أنغامه، تبيّنتُ بعض النقص في قدر دانته وشكسبير وغوته وهوغو«37.
لويس أراغون
إذا غادرنا بارّس الأديب المفكر ويممّنا شطر شاعر السّرياليّة ورائدها لويس أراغون (1897-1982م) الملحد لنتلمس علاقته بمولانا فكيف نجمع بين الماء والنار في يد واحدة؟ واقع الأمر أنّ أراغون نفسه حلّ مسألة التناقض هذه بين العالم الروحاني والإلحاد إذ قال:
»إنّ الذهنيّة الميتافيزيقية بالنسبة إليّ نشأت من الحبّ. الحبّ كان ينبوعها، ولست أُريد، بعد اليوم، أن أُغادر هذه الغابة المسحورة«.
كان أراغون مطّلعاً على تراث المولوي وابن العربي، ومن خلال حبّه لـ »إلْسا« التي غنّى لها طوال عمره، نفذ، كجلال الدين من خلال تعلّقه بشمس التبريزي الصوفيّ الجوّال الذي كان مهماز إلهامه، إلى أقطار السماوات، بسلطان الشعر.
وكما جعل مولانا من اسم »شمس« تخلّصه أي لقبه الشعري وسمّى ديوان غزليّاته باسمه هكذا دار شعر أراغون حول إلسا معشوقته أو »ليلاه«! فكلّ دواوينه باسمها متسلسلة: ،1942 ،1959 ،1963 1964.
كانت المرأة بالنسبة إلى أراغون كما كان الله بالنسبة إلى مولانا، حتى إنه قال: مستقبل الرجل هو المرأة38. وقد وجد المطابقة الكاملة لحاله في قصة ليلى والمجنون لعبد الرحمن جامي، فاستهلّ مجموعته المعنونة »مجنون إلسا« بهذا البيت من جامي:
»أمارس باسمها لعبة الحبّ« وهو، بالفارسية، الشطر الثاني من البيت الآتي:
ناچشيده جُرعه اي أَزجام أُو عشقبازي مي كُنم با نامِ أُو39
وترجمتي له بالعربيّة:
لمّا لم يتيسّر لي أن أذوق جرعة من كأسها فإني أُمارس، باسمها (على الرّمل)، لعبة الحبّ!
إلاّ أنّ الذي جذب أراغون إلى مولانا كان تطابق مذهب السرياليّة الأدبي مع أسلوب مولانا في التفكير والتعبير. فكلاهما يركّز على اللاوعيّ في الإنتاج الأدبي وعلى أسّ تقنيّة الكتابة العفويّة في العمل الإبداعي، مع التشديد على عنصر »الخيال« الذي تُطلق له العنان الحالة اللاواعية التي تغدو المحرّك الأول لكل طاقات المبدع. يقول مولانا بلساني ما ترجمته بالعربية:
راقصاً، طيف بقلبي وردا كم طيوف أسكرته مددا!
ثم تنادت راقصات حوله كهلال عبر أفلاك عدا...
كل طيف في محياك نفخ فاضت الشمس ضياء فبدا
أسكر النطق صفات فغدا من لساني عبر قلبي غردا،
كلمي سكر وقلبي ثمل، والطيوف انهمرت لي شُرَّدا...40
هذا اللاوعي الدفّاق، عند الروميّ، قابله اللاوعي عند السرياليّين الذين حاولوا الانعتاق من كابوس الحرب العالميّة الأولى. وقد عزّزت هذه النزعة شخصيّة اندره بروتونAndré Breton رائد السرياليّة الذي درس الطبّ وتعرّف إلى مفهوم اللاوعي من وجهة نظر فرويدFreud فكشف عالم قطاع من الوجدان اللاواعي لم يكن ليعي خطورته في حياتنا من سبقونا. هكذا تبلورت مفاهيم كثيرة بفضل هذه الحركة السرياليّة: مفهوم ما بعد الواقعيّة، أهميّة الرؤيا، أسلوب الكتابة العفويّة، تحرير الذهن، حبّ الجنون مبدع الإنتاج الخيالي... وهي عناصر متجذّرة في الوجدان اللاواعي41.
هنري دو مونترلان
غير أنّ هذا الوحيّ الدفّاق المندفع من أعالي »بلاد فارس« العتيقة حيث ترعرعت أساطير الخلْق قبل التوراة بدهر وأساطير الأوّلين، ومن أوديتها المخضوضرة وسهوبها وصحاريها حيث أقامت الجنّ لها أُولمباً وهياكل من خيال رتعت فيها عبقريّات فذّة - ، لم يتوقّف عن إمداد أوروبا الصناعيّة التي حولّتها البراغماتيّة إلى قلوب من حديد بأشعة من شمس الشرق: من شمس تبريز إلى شمس طوس إلى شموس أصفهان وشيراز والريّ وبغداد ودمشق وبعلبك وقونية والقاهرة، إلى مناسك القدس ومكّة - والمدينة والنجف...
فكما أيقظت لافونتين وروتروRotrou وكورني وراسين وديدرو وفولتير ومونتسكيو ونيتشه وغوته وفكتور هوغو ولامارتين وبول فور وأرمان رنو وموريس بارّس وفولني ورونان وأراغون أضاءت حنايا هيكل مونترلان Henry de Montherlant (1895-1972م). كان مونترلان روائياً ومسرحياً حاول أن يمجّد النشاط الجسديّ والروحيّ في الإنسان الذي سحقته المدنيّة الغربيّة.
يعود الفضل في تعرّف مونترلان إلى أساتذة الشعر والنثر في فارس إلى المستشرق هنري ماسّه والأديب الفرنسي موريس بارّس الذي سبقه إلى ارتياد روضة الشعر الفارسيّ والذي ذكره تكراراً في كتاباته. أما المعلّمون من إيران الذين لطالما أشار إليهم فهم: المولوي، سعدي، حافظ، الخيّام، الفردوسي والجامي وسواهم من الذين سحروه بغير المألوف من معانيهم وشفافية بيانهم الأنيق. فقد أخذت بلبّه معاني التسامح والمحبّة وكل ما يمتّ بصلة إلى إنسانية الإنسان وتساميه فوق المستوى الإنسانيّ.
في رومانيا
خلال القرن التاسع عشر، توافر مسربٌ للشعر الفارسيّ صبّ في نهر الشعر الرومانيّ، حاملاً أفكاراً وأطيافاً وصوراً وصيغاً عاطفيّة من شعر عمر الخيّام وسعدي وحافظ، بوجه خاص. وقد تكوّنت إمدادات هذا المسرب من ترجمات هؤلاء الأعلام وسواهم باللغات الأوروبيّة، ولا سيما باللغة الألمانية التي كانت رائجة في بعض أقسام رومانيا وفي أوساط المثقّفين.
وقد شُغف أعلام الشعر باللّغة الرومانيّة (المشتقّة من اللاتينيّة) بهذه الأشعار الفارسيّة المترجمة عبر الألمانية بحيث نهجوا نهجها وقلّدوها، ولا سيّما في قالب الرّباعيّ منها. وبوسعنا تبيّن ذلك التأثير في شعر علم الشعر الروماني الأكبر ميخائيل إمينسْكو Mihai Eminescu، كما في شعر كوشبوك42.
ومع القالب الشعري وخارجه تسرّبت عناصر الشعر المشار إليها، وذلك، بوجه خاص، عبر التيّار الرومنطيقي المتجلّي في شعر إمينسكو زعيمه في رومانيا ومن كباره في أوروبا، وفي شعر كوشبوك. وكانت هذه العناصر، كما أشرنا سابقاً خلال كلامنا على تأثير الشعر الفارسي في ألمانيا، قد تسرّبت إلى الأدب الألماني من ترجمات لحافظ ومولانا وسعدي وسواهم وفعلت في الفكر الألماني والشعر الألماني فعلها.
في هذا السياق، نشير باقتضاب إلى ما طبع جانباً مهمّاً من شعر إمنيسكو وهو موضوع »استشعار البعيد«. وقد أسمى ذلك الناقد الروماني المعاصر إدغار پاپو Edgar Papou: توسّع المجال الإنساني في توجّهه إلى فتوحات البعيد43.
يربط بابو أصول هذا التوجّه بالتيّار الرومنطيقي وحده (كذا)، مشيراً إلى أنّ هذا التوجّه إلى البعيد عند شاعر رومانيا الأكبر يعود إلى الحقبة الرمنطيقية الألمانية، بل إلى الحقبة السابقة لها حيث تبيّن ظهور علوم قائمة على الفرضيات، وعودة علوم منسيّة إلى الساحة، مثل التنجيم الذي كان له تأثير كبير في هذا المجال الروحاني. فلنتذكّر ما كتبه غوته في ترجمته الذاتية شعر وحقيقة حيث صدّرها بصفحة رائعة يقدّم فبها وصفاً دقيقاً لموقع كوكبة النجوم وصور البروج التي قارنت ولادته! وكذلك فعل شيلّر في ثلاثيّته المختصّة بوالانشتاين، إذ يربط، إلى جانب الحقيقة التاريخية، حياة بطله بتأويل مواقع الأبراج. وبذلك تتسع الدائرة الداخليّة للإنسان لتشمل، إضافة إلى محطيه الطبيعي، مجالاً بعيداً رحيباً يضمّه إلى ذاتيته المحدودة، ظاهراً. ويتجلّى ذلك يبوضوح أبين في واحدة من أجمل قصائد نوفالس الموسومة أَسْترالِس (الكوكبيّة). والمسألة المحوريّة، هنا، أن شاعراً، للمرة الأولى، ينسب لذلك »البعيد الداخلي« دوراً غالباً في بروز شخصه إلى عرصة الوجود.
وهذه هي بعض أبيات نوفالس Novalis في أسترالس Astralis:
في المرحلة التي كنت ما أزال فيها مكفوفاً،
كانت النجوم تُشِعّ بملء ضوئها،
في البعيد المدهش من وجودي.
لم أكن على شيء من القرب؛
كان وجودي مقصوراً في البعيد...44
هذا الخيط الممدود إلى البعيد... البعيد، يُسقط حواجز المسافات الكونيّة والمكان والزمان. وهكذا، يغدو الإنسان صوت الكون بأسره. في هذا البعيدا لداخلي يغيب الزمان والمكان في شخص الشاعر، من منطلق ارتباط الشاعر بأصوله في مدّ حياته الآتية والمكان اللامتناهي فوقه. عند غوته، تجلّى ذلك في نزول فاوست إلى عالم الأمّهات، وعند نوفالس في إيثار المجال غير المحدود للّيل.
هذه الذّرة الكونيّة - كما أُسمّيها - القادرة على استحضار الكون فينا، عن طريق عالم الكواكب، هي ما عناه الشاعر بقول تبنّاه بعض الفلاسفة والعارفون:
وتزعمُ أنك جِرْمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر!
في شعر إمينسكو، وريث سلسلة العظماء المذكورين، يتجلّى هذا المفهوم واضحاً. لهذا الشاعر قصيدة طويلة تنحو منحى المعرفة السرّية السحريّة وترسم الطريق للمريدين السالكين هذه الشّعاب عنوانها:
سفر المجوسّي إلى النجوم: Povestea magului câlâtor în stele ، يزاوج فيها إمينسكو بين المعتقدات المشار إليها وبعض المعتقدات التي استقاها من الفولكلور الروماني حيث جاء: خلال عُرسي، وقعت نجمة: câ la nunta mea /a câzut o stea
يُخلق إنسان - يضيء ملاك في السماء شمعة.
ينزل إلى الأرض في (شخص) الإنسان،
لينشر من طينة وجوده أجنحة الأفكار.
النجمةُ، وإن شمعة الحياة، مرجعها السماء.
والملاك يكتب قدر الإنسان الجديد.
فإذا ماتت نفسه، نشر الملاك جناحيه،
وفي طريق عودته إلى السماء، يُطفئ نور النجمة45.
إنّ وجود هذا البعيد الداخليّ وهو لا متناهٍ، في ذات الإنسان حيث