لماذا أرفض وجود كائن خارجي خالق للكون - 2
في كتابه "العادات السبع للناس الأكثر فعالية" The seven habits of highly effective people يذكر عالم النفس والإدارة ستيفن آر كوفي Stephen R.Covey العنصر الرئيسي الذي يتسبب في معاناة الإنسان في الحياة.
وهذا العنصر ينبع من التعارض بين دائرتين أساسيتين: دائرة الإرادة ، ودائرة القلق.
للأسف حتى هذا اليوم، لم ينتبه الكثير من دارسي الوجودية إلى أهمية هذا المفكر الوجودي الكبير في الوقت الراهن، وكونه "وجودي" ، ولم تشمله الدراسات الوجودية التي تصدر حديثاً إلا في القليل منها. حيث يتم النظر إليه على أنه مجرد شخص آخر ممكن يكتبون تلك الكتب التي تضع "تقنيات تيك أواي" لتغيير حياة الإنسان والحصول على السعادة في 21 يوماً أو الحصول على المال في أسبوعين.
وهذه النوعية من الكتب بالذات، سخر منها ستيفن آر كوفي في الصفحة الأولى من كتابه، متهماً إياها بالتدليس على الإنسان ومشبهاً إياها بحبة الأسبرين التي تسكن الألم ، ولكنها لا تستخرج "الدمّل" من جذوره.
هناك اناس قليلون انتبهوا إلى "وجودية" ستيفن آر كوفي .. على سبيل المثال.. فقد انتبه لهذه المسألة أشخاص مثل البروفيسور تيموثي Timothy A. Pychyl, Ph.D وكتب عنه مقالاً في مجلة "علم النفس اليوم" Psychology Today ، حيث أشار إلى الأصول الوجودية لستيفن آر كوفي.
Array
Of course, academics are typically suspicious of anyone who can simplify things and make a lot of money with their ideas. It's the academic criticism of the "self-help" genre. That said, Stephen Covey says a lot of important things.
He gained me as a fan by revealing his existentialist roots with his reference back to Victor Frankl at the outset of his book. I think his overall focus is clear and right on the mark.
[line][ne]
http://blogs.psychologytoday.com/blog/dont...aging-your-time
[/quote]
على أية حال، سأعود فيما بعد لأفصل بشأن كتابه ذلك، والذي يتخذ لأول مرة خطوات عملية حقيقية يمكن منها للقارئة والقاريء أن يلمسا "شيئاً" يمكن عمله في الواقع لإيجاد المعنى في حياة بلا معنى، وقد كان ذا أثر كبير جداً على اتجاهي الحالي، ولهذا حتماً لا بد أن أعود إليه مرة أخرى في هذا الموضوع في يوم ما.
أما الآن ما يهمني هو أن أعود إلى الإنسان الذي تحدثت عنه سابقاً والذي وصل إلى مرحلة ينظر فيها نحو "الهاوية" وهو مطالب بأن يقر بالعبث والذي بدأ يتفتح رويداً رويداً بسبب "نص" ديني لم يكن يثير الإنتباه وكان عادة يمر عليه دون أن يوليه أدنى اعتبار.
عندما يواجه ذلك الإنسان هذا النص، وهو يدرك داخلياً أن "ضميره" لا يقبل الفكرة المخيفة التي قد يحملها "الفهم الآخر" له وأنه لو وضع ذلك أمام معاييره الأخلاقية التي ارتضاها لنفسه وطبق عدالته الخاصة فإن "الله" الخاص به سوف يصبح مهدداً في وجوده. وهنا يصاب الإنسان برعدة أو زلزال داخلي عميق سببه الأساسي:
هو أنه ولأول مرة منذ ولادته بدأ يمارس دون قصد منه دور "الإله" الفعلي، ووجد مسئولية الكون كله ملقاة فجأة على عاتقه هو وحده دون سواه، بعد أن كان "الله" يتكفل بحمل هذا الكون من قبل في مقابل أن يقتات على ذلك الإنسان مثل الطيور الصغيرة والذباب والحشرات التي تقتات على ظهور الثيران والأسود البرية أو الأسماك الصغيرة التي تقوم بتنظيف خياشيم الحيتان وأسماك القرش دون أن تمسها تلك الكائنات الخطرة والضخمة بسوء.
يجد الإنسان نفسه فجأة و قد توقف الكون كله على قرار أو إشارة منه بمدى أخلاقية نص صغير من عدمها. ذلك لأن الأديان التي ننشأ عليها عادة ما تطرح نفسها كسلة واحدة غير قابلة للتجزئة، إما تؤخذ الصفقة كلها وإما ترفض.
وهكذا يجد الإنسان نفسه أمام النص الصغير الذي يستطيع هو الآن أن "يفعل" شيئاً حياله لأنه هو الشيء الوحيد الداخل في نطاق تصرفه في هذه اللحظة. بينما هناك فجوة رهيبة بسعة الكون كله تدخل ضمن نطاق "قلق" الإنسان ولكنه لا يستطيع أن يؤثر فيها الآن.
إن هذه المعاناة الناتجة من الفارق الكبير بين دائرة "التأثير" أو الإرادة ودائرة "الإهتمام" او القلق في تجربة الإنسان هي التي ذكرها وتحدث عنها بوذا في "الحقائق الجليلة" الأربعة التي أسس عليها فكره كله.
وهي الحقيقة الثانية من تلك الحقائق.
الحقيقة الأولى : أن الحياة معاناة.
الحقيقة الثانية: أن سبب المعاناة هو الرغبة.
الحقيقة الثالثة: أنه يمكن التخلص من المعاناة.
الحقيقة الرابعة: أن الطريق إلى التخلص من المعاناة هو "الطريق الثماني" الذي لا محل لتفصيله هنا.
ولكن لمن أراد الإستزادة فعليه بهذا الكتاب المختصر :
http://www.buddhanet.net/pdf_file/gqga_arabic.pdf
"الرغبة" هي التطلع الدائم للإنسان لأن "يكون" لأن يتحول باستمرار إلى شيء أفضل.
وهذا النوع المحدد من الرغبة ليس موجوداً إلا عند الإنسان طبقاً للفكر الوجودي.
أما في الفكر البوذي فالرغبة بهذا المعنى الوجودي عامة على كل المخلوقات الحية، لأنها تعتمد على مبدأ التناسخ الذي يعتمد بدوره على قانون الكارما، حيث في التناسخ يوجد "وعي" لكل كائن حي ، ويوجد "عقل" عند كل كائن حي، يمكنه من الإختيار بين الممكنات. ولكن بدرجات متفاوتة، وعلى حسب ذلك الإختيار سوف تتحدد "ماهية" ذلك الكائن الحي التي سوف يصبح عليها في حياته القادمة. وهنا تتداخل عوالم الخلايا والفيروسات مع النباتات والحيوانات مع الإنسان في وحدة قوامها "التوازن بين الأضداد".
ولتلك "الرغبة" الوجودية عند الحيوان والحشرة وكل الكائنات الحية جذور قوية في تراثنا الديني على عكس ما هو متصور عادة من أنها "افتكاسة" بوذية وهندوسية فقط.
ففي الإسلام مثلاً تم وضع السماوات والأرض أمام "اختيار" وجودي. عندما عرض الله عليهما حمل الأمانة "فأبين" أن يحملنها.
وتجمعت الحيوانات أمام إبراهيم عند تجربة حرقه فأخذت تحاول إطفاء النار عنه ما عدا "الوزغة" أو "البرص" فقد "اختار" بحرية أن ينفخ في النار حتى يحترق إبراهيم.
وفي يوم القيامة سوف يحضر الله جميع الحيوانات ليقتص منها حتى يحضر الشاة القرناء التي "اختارت" أن تنطح قرينتها بشكل ظالم، فيجعل الأخرى تنطحها ، قبل أن يعيدهما إلى تراب.
وقرر الهدهد بعد تفكير أن يعرض نفسه لخطر عقوبة سليمان ، عندما "اختار" أن يخالف الموعد المحدد له ويتأخر حتى يراقب ملكة "سبأ" ويعود "برؤية فكرية" كاملة ووجهة نظر عميقة عنها في صيغة تقرير معد بمهنية يعجز عنها الكثير من البشر.
"اختار" جذع الشجرة المكسور أن يبكي وينوح بسبب أن محمداً نزل عنه إلى المنبر وعبر عن مشاعره بهذه الطريقة.
في النصوص اليهودية والمسيحية "اختار" الغراب طائعاً أن لا يعود مرة أخرى إلى مركب نوح، بينما "اختارت" الحمامة أن تعود حاملة إشارة ذكية : غصن زيتون بالتحديد كإشارة إلى نوح أن الأرض بدأت في العودة إلى طبيعتها.
قد يسخر الملحد المادي أو الوجودي الذي يحصر تلك السمة في الإنسان فقط من هذه النصوص جميعاً ، وقد يسخر منها أيضاً بعض المؤمنين بها لأن رؤيتهم لها تحمل "رمزياً" وليس بشكل حرفي.
ولكن الطبيعة يحصل فيها كثيراً عملية الإختيار تلك ويرصدها العلماء. وهو ما يحتاج مني إلى دراسة علم نفس الحيوان جيداً قبل أن أبت برأي واضح فيه.
* فحتى اللحظة لا أستطيع مثلاً أن أجد تفسيراً للأسد الذي يحتضن غزالاً صغيراً ويحميه بضراوة ضد أي اعتداء عليه.
* في مقابل أسد آخر يمكنه أن يلتهم شبله بسعادة دون أي تأنيب للضمير.
* تحضن غوريلا طفلة رضيعة في قفص في حديقة الحيوانات وتضرب أي إنسان آخر يحاول أن يقترب منها.
* أسد يضرب مدربه في لحظة غضب أثناء عرض السيرك، فيموت المدرب. يدخل الأسد في حالة كآبة شديدة ويرفض كل ما تحتمه الطبيعة المادية على الحيوان من أن يغذي نفسه لأنه حيوان غير عاقل، ويرفض الأسد المكتئب التهام وجبته ويحزن على مدربه إلى درجة أنه يموت معه.
* صديقة لي كانت تمتلك ببغاء متكلماً ظريفاً في قفص. كلما شعرت صديقتي بالضيق أو الاكتئاب، وكلما اصطدمت مع "البوي فريند" الخاص بها على الموبايل، وقد يحدث ذلك في الشارع وليس أمام الببغاء، ثم تأتي إلى منزلها، ولا تتحدث بكلمة وإنما تجلس فقط وتأكل كالمعتاد وتقوم بما تفعله كل يوم، ولكن سلوك الببغاء يتغير تماماً ، يتوقف عن الكلام، يرفض الأكل، يظل ينادي عليها بشكل عجيب، وتبقى حالته هكذا حتى تخرج صديقتي تلك من حالة الكآبة، فإذا به يعود إلى التصفير والكلام والرغي ويصرف انتباهه عنها ويعود إلى "طبيعته" الحيوانية الغير عاقلة مرة أخرى ويبقى هكذا طالما بقيت هي على "فرفشتها". إلخ من تلك الأشياء..
وبالعودة مرة أخرى إلى المؤمن الذي وضع لأول مرة في دور "الإله" الذي لا يملك سوى "إلكترون" نصي صغير في يده ويجد نفسه مطالباً بشكل لا عقلاني وعبثي أن يحدث "انفجاراً عظيماً" ينتج عنه خلق عالم آخر غير الذي عاش فيه بوهم طوال سنوات حياته الماضية.
هذا "الإلكترون" العديم الوزن والقيمة هو الشيء الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يؤثر فيه الآن وتمثله دائرة التأثير أو "الإرادة".
بينما "الكون" تمثله دائرة الإهتمام النهائي أو "القلق".
يجد الإنسان وقتها نفسه مضطراً إلى تجاهل "الكون" والتركيز على دائرة نفوذه الحالية وهي "الإلكترون" الذي لا وزن ولا قيمة له ولو لم يفعل هذا لكان مآله الوحيد هو الجنون أو الإنتحار أو التصرف بشكل لا معقول وعبثي مثلما وجد نفسه موضوعاً أمام كون لا معقول وعبثي، فيتحول إلى الهروب الذي تحدث عنه كيركجور في وصفه لمرحلة "الإنسان الحسي التجريدي" وهو "السقوط" الذي تحدث عنه هيدجر.
وتكون نتيجته تقليص دائرة التأثير أكثر، وازدياد دائرة الإهتمام أكثر، ويضيق الإنسان على نفسه من حيث ظن أنه قد "هرب".
فيعود مرة أخرى إلى مرحلة الضجر التي تؤدي به إلى مرحلة القلق مرة أخرى وتضعه أمام هاوية أكثر هولاً من التي واجهها وهرب منها قبل ذلك.
وهكذا يجد الإنسان نفسه في موضع الخالق الوحيد. واضع المعايير الذي لا شريك له في وجوده، وكما اختار "الله" الخاص به من قبل معاييره بشكل لا عقلاني، غير قابل للنقاش او الرأي ، يجد الإنسان نفسه الآن في نفس الموضع الذي احتله طوال سنوات عمره السابقة ذلك الكائن الطفيلي الذي كان في علاقة "مصلحة" متبادلة معه كعلاقة الحوت بأسماك جمع القمامة والثور بالطيور التي تنظف ظهره ورقبته.
أما الآن وقد اختفى "الله" الخاص به، يكتشف فجأة أن كل إنسان إلهه "هواه" حتى أولئك الذين يؤمنون بالآية التي تنتقد هذا المسلك، إلههم هواهم، فكل منهم له تصوره المتفرد عن الله، والذي لا يتطابق أبداً مع أي تصور لأي فرد آخر عن الله .
وكل فرد فيهم له "الله" مطبوع داخله كالبصمة. يتغير بتغير مزاجه ، وتجاربه ، وحالته الوجودية، ينمو "الله" معه ويموت بموته ، ويتجمل أو يتشوه كما يحصل لبصمة الإصبع إذا ما وضعت عليها ألوان التجميل، أو أصابتها النار فشوهت خريطتها.
إن العالم ينقص إلهاً في كل لحظة يموت فيها إنسان، ويزيد إلهاً في كل لحظة يولد فيها إنسان آخر.
من السهل ملاحظة "لاعقلانية" "الله" الخاص بالأشخاص الذين كتبوا الكتب السماوية لأول مرة، أو نطقوا بلسان وحيها.
فتلك النصوص تطلب من الإنسان عادة أن يخرس أمام الأشياء التي لا مبرر لها عقلانياً.
مثل مسح باطن الخف في الإسلام مثلاً. كما يقول علي بن أبي طالب " لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخُفِّ أَوْلَى بالمسح من ظاهره"
وقول "الله" الخاص بمحمد (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون).
أو جواب الفخاري الأعظم عن سؤال الآنية ، لم وضعت لكرامة أو لمذلة في الإنجيل؟
رومية 9:20 و21 »بل من انت أيها الإنسان الذي تجاوب الله ؟ ألعلَّ الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزّاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناءً للكرامة وآخر للهوان؟«
والآن وقد حل الإنسان المتشكك محل "الله" الذي كان يحمل عنه هذا العبء ، عبء إزالة العبث عن الحياة وإعطائها معنى حتى لو كان ذلك بشكل "لا عقلاني". يجد نفسه وقد حمل المسئولية كاملة على عاتقه بعد موت الكائن المتطفل.
فإذا تصرف فيما يملكه تحت يده من إمكانية بسيطة وصغيرة جداً يمكنه أن يؤثر عليها، ستكون النتيجة هو أن تؤثر عليه تلك الإمكانية في المقابل، وتصنع منه إنساناً جديداً ، موجوداً أكثر "تفوقاً" ، إنساناً بدأ يسلك طريق "العلو" ، وسوف يجد أن مساحة تأثيره قد اتسعت عما كانت من قبل. فيصبح نفوذه في الكون أكثر اتساعاً وأعمق بعداً.
وهو ما يؤدي إلى بداية اتساع دائرة التأثير أو "الإرادة" Circle of influence لتشمل مساحات أكبر من الكون أصبحت في متناول الإنسان والتي تمثل دائرة الإهتمام أو دائرة "القلق" كما يرسمها ستيفن آر كوفي :
هذه الوجدانية اللاعقلانية تم الإشارة إليها بالأمس في موضوع جميل طرحه زميل لنا هو "حسن سلمان" في هذا الرابط :
http://www.nadyelfikr.net/index.php?showtopic=55882
والذي أحزنني نوعاً ما أنه لم يؤخذ بالجدية الكافية لتناوله رغم ما يحمله الكاتب من توجه رائع.
إذ يقول ، ونادراً ما نسمع مثل هذا القول في هذه الساحة "العقلانية بزيادة عن اللزوم" :
Array
نعم .... العاطفة تتحكم في العقل وتوجهه
وكما تكون العاطفة سبببا في الإيمان
فإن العاطفة تكون أيضا سببا في الإلحاد
[/quote]
كنت أتحدث في هذا الموضوع منذ يومين مع العزيز إبراهيم عرفات، في ساحة قرأت لك، حديث دردشة لا يستطيع أن يثيره فيّ سواه، لسبب "لا عقلاني" أجهله ، كما يثير زميلي "قطقط" الكاتب الضاحك داخلي أيضاً لسبب "لا عقلاني".
حيث قلت لإبراهيم :
أنني أرى مع المفكر الأسباني "أونامونو" أن التفلسف ليس بالعقل، ولا يمكن أن يكون بالعقل فقط، بل يكون بالوجدان وبكل أجزاء الإنسان حيث قال أونامونو (مفكر وجودي أسباني ذكره الدكتور بدوي في كتابه عن الدراسات الوجودية) :
Array
إن موضوع الفلسفة هو الإنسان العيني الموجود الحي المؤلف من لحم وعظم ، الإنسان المفرد الذي يولد ويموت.
ويتفلسف لا بعقله فحسب ، بل بإرادته وعاطفته وروحه وبدنه، فالإنسان يتفلسف بكل أجزائه.
إن الفعل العقلي لا يحدث في الإنسان دون نصيب من العاطفة وقدر من الإرادة، مهما يكن هذا القدر ضئيلاً، واسبنسر ومعه بعض علماء النفس والإجتماع كان يرى أن الأفكار لا تقود العالم. وأن تقدم الإنسانية مرجعه إلى العواطف، لا إلى الأفكار.
إننا نعرف الناس أكثر مما نعرف الأفكار، ولهذا نحن نثق فيهم أكثر من ثقتنا بالأفكار.
فالإنسان هو دائماً هو هو، مع تغيرات ضئيلة جداً ، اما الفكرة الواحدة فلا تظل دائماً هي هي ، إنها ليست دائماً هي هي لأنه إذا كانت الحياة معناها "الفعل" وإذا لم يوجد إلا ما يفعل،فإن الفكرة الواحدة والتصور المحدد مرتين بنفس الطريقة يحدث في عقلين مختلفين نتائج مختلفة.
ذلك لأن فردين هما "أ" و "ب" ، في ظروف متماثلة يفعلان بطريقة مختلفة، وكلاهما يفسر ويبرر لنفسه ولغيره أفعالها المختلفة بواسطة نفس الفكرة ولتكن "جـ" .
فالفرد "أ" يسند فعله إلى الفكرة "جـ" والفرد "ب" يسند الفعل المضاد إلى نفس الفكرة "جـ".
وكل منهما يتهم الآخر بعدم الاتساق المنطقي.
وأكثر من هذا نجد أن الفرد "أ" يفسر ويبرر سلوكه اليوم بالفكرة "ت" ولكنه غداً يفسر سلوكه ويبرره بالفكرة "د".
وهكذا نجد أن الفكرة ليست هي التي تقود الإنسان، بل الإنسان هو الذي يستعين بالفكرة ليبرر مسلكه، وفي سبيل ذلك لا يتردد في أن يغير أفكاره لتتلاءم مع تغير أنواع سلوكه.
[/quote]
وإذا ذاك يخلص أونامونو الوجداني إلى التالي :
Array
لا أريد منهجاً آخر غير منهج الوجدان المنفعل، وإذا انتفض صدري من التقزز أو الكراهية أو الرحمة او الإفتقار، فاض القلب وتكلم الفم وتدفقت الكلمات كما تشاء.
[/quote]
من يريد أن يقنع شخصاً آخر بأن إيمانه نتيجة لعقل مجرد بشكل بحت خال من المشاعر، كما يحصل هنا كثيراً ، ويسلك طريقاً خطياً يبدأ من فرضية غير حقيقية وهي أن الإنسان يولد محايداً دينياً ، وعليه أن يقرر وجوده بأسلوب تجريدي مترفع،خارج عن الكون، سوف ينتهي إلى طريق مسدود، شأن كل الحوارات التي حصلت بهذه الطريقة وتناولت موضوع الإيمان والإلحاد.
هذه النقاشات ناتجة عن ثنائية فاصلة بين الروح والجسد، وبين الفكر والعاطفة، أصبح العالم اليوم بكل اتجاهاته ومجالاته يتبرأ منها شيئاً فشيئاً ويعود إلى وحدة الوجود التي لا تفصل عقلاً عن عاطفة، ولا روحاً عن جسد.
إنه نفس السبب الذي جعلني أتلهف على معرفة تجربة الزميل العزيز "داعية السلام مع الله" في التحول من السلفية إلى الشاذلية الصوفية بعد 12 عاماً من بقائه كسلفي.
حيث لفت نظري بشدة مداخلة كتبها هو في هذا الرابط حين تحدث عن الباراسيكولوجي
http://www.nadyelfikr.net/index.php?showto...amp;st=10&#
تنم عن إدراك عميق توصل إليه أخيراً بأن يصبح "مؤمناً روحياً" أي مؤمناً "غير حرفي" وهي نفس المفاهيم على الضفة الأخرى من النهر التي تقابل مفهومي "الملحد الروحي" في مقابل "الملحد المادي".
نفس النتيجة لاحظتها لدى إبراهيم عرفات ، ولدي أنا ، ولدى داعية السلام، رغم ما بيننا من اختلاف كبير في المذاهب التي ننحو إليها، غير أننا جميعاً توصلنا إلى قناعة بهذه الوحدة الوجدانية التي لا يمكن فصل جزء منها عن الآخر، ولا يمكن "عقلنتها" أو استنباطها منطقياً من الفضاء الفلسفي البارد الذي لا علاقة له بالواقع.
وقد حاولت أن أكتب مداخلة للتعقيب على موضوع زميلي العزيز داعية السلام، إلا أن ساحة المدونة التي نقل إليها موضوعه منعتني من ذلك. مع أني لاحظت أن هناك من تداخل معه في الموضوع قبل ذلك. مما جعلني أدرك أن الموضوع طرح في البداية في ساحة أخرى ثم طلب الزميل الداعية أن ينقله إلى المدونة حتى يتجنب ما تخوفت أنا منه ، وما يتخوف منه الإنسان "الوجداني" عادة من سخرية سوف تطاله من أصحاب "الثنائية" والمتأثرين بها والتابعين لقوالبها "العقائدية" الجاهزة والمعدة سلفاً ، سواءً أكانت "ثنائية" إيمانية أم إلحادية، وهو ما أعذر زميلي العزيز الداعية وأعطيه ألف مبرر لتراجعه واختياره "العزلة الصوفية" التي يجبر عليها عادة من يصل إلى هذا الإتجاه حيث يحس بانفصاله عن المجتمع "الثنائي" الأبيض/أسود المحيط به من كل جهة، وهو نفس السبب الذي جعلني أتردد كثيراً في كتابة هذا الموضوع أو التجرؤ على طرحه حتى.
لأنه لو كان يمس مجرد الأفكار لكان من السهل طرحه.
لكن لا شيء يمس "فكراً" في هذه الحياة، إن كل شيء يمس "وجداناً حياً نابضاً"، سواءً أدرك ذلك صاحبه أم لا
والفرق فقط هو أن المدرك لهذا يواجه صعوبة أشد وأعتى بكثير من غير المدرك لها، كمثل المدخن الذي لا يعلم ما يحدثه التدخين فيه، ورفيقه الذي يفعل ذلك على علم بما يحترق داخله حتى يتسع إدراكه ليشمل إحساساً مرهفاً بكل خلية تحترق مع كل نفس يتنفسه!
وهو ما جعلني أتوصل بعد سنوات طوال إلى النتيجة التالية :
1- إن كل إنسان بحاجة إلى منظومة إيمانية في حياته. سواءً كان هذا الإنسان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً او ملحداً مادياً أو بوذياً أو من أي ملة أو اتجاه فكري.
الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون منظومة إيمانية في حياته.
2- هذه المنظومة الإيمانية لكي تكون متماسكة وفعالة وذات جدوى في حياة الإنسان لا بد أن تشمل في داخل إطارها ثلاثة أنظمة أساسية أو أن تحقق ثلاثة متطلبات أساسية :
(أ) السلام الفردي الداخلي ( شعور السلام والطمأنينة والسعادة الفردية ).
(ب) نظام المعاملات الذي يكون قادراً على تحقيق السلام الإجتماعي. ( الشريعة أو القانون).
(جـ) الأمل ( في غد أفضل). ويمكن أن نسميه أيضاً الغاية النهائية او النهاية التي يسعى الإنسان إليها وينشدها من وراء حياته.
3- والسؤال الذي يطرح نفسه عند دراسة دين ما أو منظومة إيمانية ما هو: ما هي رؤية وطرح هذا الدين أو هذه المنظومة الإيمانية من خلال نقاطها الثلاث سالفة الذكر؟
ومن هنا يمكن الإنطلاق في مقارنة الأديان من خلال مقارنة منظوماتها الإيمانية المختلفة ومدى توافق هذه المنظومات مع معايير الإنسان (اللاعقلانية) التي ارتضاها لنفسه في "ناموسه" الشخصي الخاص، ومدى تحمله لها من عدمه، والنتائج التي تولدت منها عندما تم تطبيقها في مجتمع من المجتمعات.
وللموضوع بقية...
أراكم بعد حين