تشوهات الحداثة في مصر 1.
الحنين إلى الماضي ( نوستولوجيا ) .
...................................................
تأسست الدولة الوطنية في مصر منذ 200 عام تقريبا ،وحتى مع استبعاد الفترة التي خضعت فيها مصر لإحتلال أجنبي سافر ، سيكون أمامنا حوالي 160 عام في مشروع الدولة الوطنية ،و هي فترة كافية لتأسيس هذه الدولة و إنطلاقها ، و لكن ما حدث كان عكس ذلك ، لن ننكر أن هناك مجالات حققت تقدما ملموسا ، مثل الخدمات العامة و التعليم و التكنولوجيا ، و لكن العلاقات المجتمعية و الثقافة الشعبية ظلت كما هي ، بل على النقيض ربما تكون قد غرقت في التناقضات ، مما بدا معه المجتمع و كأنه يسير عكس إتجاه التطور العالمي في مجتمعات مناظرة ، و من أبرز مظاهر هذه الحركة الإرتدادية المعاكسة لإتجاه التطور المأمول وفقا لمعايير الحضارة المعاصرة .
1- إتخاذ مواقف متطرفة معادية لمنتجات الحداثة ، و بصفة خاصة تجاه الدولة الوطنية ، و التي تمثل قمة إنجازات الحداثة و مقياس تمكنها في المجتمع ، وحتى المتعلمون تعليما جامعيا لا يستطيعون التمييز بين الدولة و النظام و الحكومة ، و غالبا ما يتحول رفض السلطة القائمة ، إلى محاولات غوغائية لتدمير الدولة رغم أنها الإطار الوحيد الحافظ للجتمع .
2- إعادة بناء الماضي بمتلازماته التراثية من البني الإجتماعية و الثقافية ، فالأزياء الفولكلورية الخليجية تغزو شوارع القاهرة ، و إن كان بشكل أكثر قبحا و تنفيرا ، و الهيئة العامة للرجال و النساء تشبه دمى قفزت من متاحف الحضارة القديمة ، كذلك تنتكس علاقة الرجل بالمرأة إلى نماذج كانت شائعة من 200أو 300 سنة ، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الطلاق إلى 45 % من الزيجات الحديثة ،و هي تعادل أكثر من 15 ضعفا مقارنة بالنسبة السائدة منذ 30 سنة ماضية ، و ذلك يعود للتشوهات الحادثة في عقول و مشاعر الجنسين في ظل ثقافة أصولية مفارقة للعصر .
3- دخول شرائح متزايدة من السكان إلى الدوائر المظلمة للخرافة ، فهناك إصرار على تجاوز آلية السببية المميزة للحداثة ، و أن تعزى حتى الظواهر الطبيعية إلى الغيبيات التراثية ، فالسبب دائما لكل ما يحدث حولنا هو الغضب الإلهي أو شفاعة الأنبياء و بركة الأولياء !، و المصريون يعيشون غالبا واقعا ميثولوجيا بديلا ، فهم مشغولون إما بمشاهدة العذراء وهي تطل من فوق الكنيسة في الزيتون ، أو يتسامرون مع الشيخ الشعراوي بعد وفاته في مسجد الحسين !، بينما مفتي الديار المصرية يؤكد أن الصحابة كانوا يتباركون بمخرجات النبي ، لأنه خلق من نور ، ودون أن يفسر كيف مات متحولا إلى مواد عضوية !، و يرتبط ذلك كله بتفسيرات خرافية لأحداث معاصرة ، وربطها بنبؤات قديمة ، كذلك نشر روايات تؤكد على وجود أحداث غرائبية لا تفسير علمي لها ، مثل الخرافات التي ينشرها أنيس منصور و نظائره في كتب واسعة الإنتشار .
4- إنتشار الممارسات السياسية ذات الأيديولوجية الدينية ، و كلما كانت الأفكار أكثر تطرفا و عنفا ، كلما لاقت مزيدا من الإقبال و القبول ، وهذه الممارسات السياسية الأصولية لا تقتصر على الأحزاب السياسية المشروع منها و المحظور ،و لكنها تمتد و بقوة إلى النقابات المهنية ، حتى أن نقابة الأطباء تمارس السياسة كما لو كانت خلية للقاعدة في مصر ، و أخيرا امتدت الممارسات السياسية الأصولية إلى الهيئات القضائية ، احيث كشفت مجلة روز اليوسف ، أن كثيرا من كبار القضاة ينتمون إلى عائلات إخوانية ،و أن أحد نجوم نادي القضاة شقيق قيادة إخوانية بارزة ، وحتى التنظيمات التي تدعي الوسطية و الإعتدال مثل الإخوان المسلمين ، تتجه باستمرار إلى تبني الأفكار الأصولية و تبرير الإرهاب .
5- تؤكد الدراسات الإجتماعية الميدانية أن الماضي يشغل حيزا كبيرا من إهتمامات و أحاديث الناس ،و أن النوستولوجيا ( الحنين إلى الماضي ) يمثل عاملآ مشتركا بين الأغلبية العظمى من المصريين ، هذا الحنين يلمسه المراقب في كل الأدبيات التي تصدر في المحروسة ، فهناك زمن ما و بالضرورة أن يكون زمنا ماضيا يملأ قلوب المصريين و عقولهم ، البعض يعيش في زمن الملكية الديمقراطي السعيد ، و آخرون يعيشون في الزمن الناصري ، حيث العدالة الإجتماعية و القومية العربية و المكانة الدولية المحترمة ،و آخرون يعيشون في زمن المسيحية و رهبانها قبل غزو ابن العاص ،و لكن الغالبية العظمى تعيش في المدينة زمن النبي و خلفائه .
من المدهش أن هذا الحنين الجارف للماضي لا تدعمه الحقائق بل تشير إلى نقيضه ، و تؤكد أن ذلك الماضي لم يكن أبدا سعيدا للمصريين ، فالماضي القريب ليس هو الماضي الباهر الذي نتحسر عليه ، فالفقر كان صفة مرادفة للمصري ، و نذكر أن الحكومات الملكية كانت دائما تتحدث عن مكافحة الفقر و المرض و مقاومة الحفاء ! ، و كان عبد الناصر يشكو من وجود 3 مليون عامل تراحيل أي أكثر من 10% من الشعب ، يجوبون البلاد بلا مأوى سوى مكان العمل ، أما عن الديمقراطية التي نتحسر عليها ، فلا ينهض على هشاشاتها مثل تغلب مجموعة من الضباط الصغار -محددوي الذكاء و الكفاءة - على تلك الديمقراطية بمجهود بسيط ، و خروج المصريين ( الديمقراطيين ) إلى الشوارع يهتفون للإنقلاب العسكري !.
أما لو ذهبنا إلى التاريخ الإسلامي في مصر سنجده بائسا كلية ، فمن 10 مليون مصري كانوا سكان مصر عند الغزو العربي ، لم يتبق سوى 3 مليون عند دخول الفرنسيين ، و انحسار الخلافة الإسلامية عن مصر ، ومن 5 فروع لمصب نهر النيل لم يتبق سوى فرعين ، أي أن 1100 سنة من الحكم الإسلامي الجائر المتعسف ، كادت أن تفني الحياة فوق أرض مصر كلها !، و يمكن القول بأعلى درجة من الموضوعية أن المصريين لا يملكون تاريخا حقيقيا منذ أفول دولتهم الخاصة ، قبل الميلاد ب 500 سنة و إلى اليوم ، و على المصري المعاصر أن يبني تاريخه من جديد ، بدلآ من العيش في ماضي خيالي ، فهو لا يمتلك أي تاريخ حقيقي منذ 2500 سنة .
هذا الحنين إلى الماضي إذا لا يعكس روعة الماضي ، و لكنه يعكس الإحباط الذي يعيشه الإنسان المصري المعاصر ، و إنعدام بواعث الأمل لديه في يومه أو مستقبله ، و هو أيضا يعكس الهروب من صيغ الحداثة التي فرضت عليه فرضا ، دون أن يستوعبها أو يتجاوب معها ، و أننا كما عبر نزار قباني بصدق في هوامشه على دفتر النكسة ( لبسنا ثوب الحضارة و الروح جاهلية ) ، و يعكس هذا الحنين أيضا إلحاح الخطاب السلفي المخادع الذي تعرض له المصريين أكثر من 40 سنة متصلة ، بلا أي جهد تنويري مقاوم يعتد به .
في المحصلة هناك بالفعل حالة إنسحابية عامة تشكل الملمح الأساسي للمجتمع المصري ، فالمصري المعاصر يقوم بعملية خروج كبرى ، لا تقل أهمية عن الخروج الأسطوري لبني إسرائيل من مصر ،و لكن هذا الخروج ليس فقط من المجتمع المصري ، بل من العالم المعاصر كله ، فالمصري يدير ظهره للمجتمع و للمستقبل ، و يعيش لنفسه و لنفسه فقط ، و غالبا ما يكون ذلك في الماضي الذي يتصور أنه كان ، تاركا المجتمع يسير كيفما يراد به ، بينما هو يسير في الإتجاه المعاكس ، ماضيا بهمة لا يلوي عن شيء .
للموضوع بقية .