سلام بومباي" بشكل آخر!
لأسباب تتعلق بي أنا لم أستطع أن أحب فيلم (الحالة الغريبة لبنجامين باتونز) كما أحبه الجميع تقريبًا، لأنني شعرت بأنه مفرط الطول، وأنه صمم بالقلم والمسطرة كي يحصد جوائز الأوسكار.. مثلما يقرر الشاعر أن يكتب قصيدة رقيقة فيحشد كل كلمات (الربيع) و(الندى) و(الشفاف) و(عبير) في بيت واحد. ثمة شيء ما غير أصيل ولم أرتحْ له، بينما شعرت أن فيلم (مليونير العشوائيات Slumdog millionaire) يفوح برائحة الصدق والعرق والوحل وروائح أخرى لا داعي لذكرها. يبدو أن الأكاديمية التي تمنح جوائز الأوسكار اتفقت معي في الرأي فنال (مليونير العشوائيات) ثماني جوائز أرى أنه يستحقها فعلاً.
هل يمكن أن تصنع فيلمًا جميلاً عن القبح؟.. هذا ما راهن عليه (دان بويل) وهو ذات ما صنعه (محمد خان) عندنا في (أحلام هند وكاميليا). لقد رأيت من قبل فيلم دان بويل (مراقبة القطارات) الذي رأى أيرلندا كما لم يرها أحد من قبل، وقد قدم لنا قاع قاع ذلك المجتمع..
من قاع قاع المجتمع الهندي يبدأ فيلم (مليونير العشوائيات) الذي كتب عن رواية للكاتب والدبلوماسي الهندي (فيكاس سواراب) وأعد له السيناريو السيناريست البريطاني (سيمون بوفوي). الفيلم يتحرك بطريقة شائقة بين الماضي والحاضر والمستقبل.. والمستقبل لن يظل كذلك للأبد؛ لأن الحاضر سيسبقه.. لكن كل هذا اللعب الزمني مفهوم وسلس وخالٍ من استعراضات العضلات الفكرية كالتي رأيناها في فيلم (ساعات). هذا الاستعراض الذي تشعر بأن غرضه أن يشعر المشاهد بأنه -البعيد- غبي بطيء الفهم.
المحور الرئيس حتى قرب النهاية هو التحقيق الذي يجريه ضابط شرطة هندي مع الشاب (جمال) أي الممثل الهندي (ديف بيتل).. الشاب الفقير الذي يعرف الجميع أنه نشأ في العشوائيات والذي لا تسمح إمكانياته الثقافية ولا العقلية بالكثير. نرى الكثير من التعذيب على الطريقة المصرية.. الفتى يتلقى علقة ممتازة في قسم الشرطة تبلغ ذروتها بالصعق بالكهرباء.. ربما لهذا نشعر بألفة كلما رأينا أفلامًا هندية؛ فالدم واحد والفقر واحد والمشاكل واحدة، ومعاملة الشرطة واحدة..
نفهم من الحوار أن الفتى يتم استجوابه؛ لأن الشرطة متأكدة من أنه يغش بطريقة ما في برنامج (من سيربح المليون؟) الهندي. الفتى يجيب إجابات صحيحة بطريقة مذهلة، ويتقدم نحو حاجز عشرة ملايين روبية ويتجاوزه نحو العشرين مليونًا، لهذا صار رجال الشرطة على يقين من أنه يغش.. هناك من يرسل له إشارات وسط الجمهور أو هو زرع جهاز اتصال في جسده..
ما يدعم شكوك ضابط الشرطة هو أن الفتى يجهل أشياء بديهية فعلاً يعرفها أي طفل في الخامسة، مثل الكلمات المكتوبة على العلم الهندي أو الصورة الموجودة على العملة الهندية.. هنا يسأل الفتى الضابط عن سعر نوع من الحلوى الهندية الرخيصة، فلا يعرف.. يسأله من سرق دراجة الصبي فلان؟.. لا يرد الضابط فيجيب الفتى في سخرية: كل طفل في (دارافي) يعرف الإجابة!
هنا ينطلق الفيلم من فرضية مثيرة، هي أن حياة الفتى العاصفة ومرمطته في أزقة (مومباي) لقنتاه الإجابات الصحيحة.. لقد كانت الأزقة هي مدرسته الحقيقية.. ولهذا استطاع أن يصمد لكل الأسئلة. طبعًا الفرضية غير معقولة؛ لأنه لا أحد يملك حظًا كهذا الحظ الذي يجعله يجيب عن كل الأسئلة، لكنك تقبل هذا من منطلق قاعدة (التعطيل الإرادي لعدم التصديق) التي اخترعها الخواجة كولريدج، أو قاعدة (دعني أنخدع - دعني أخدعك) التي اخترعها العبد لله..
يحكي الفتى قصة حياته للضابط ويتداخل هذا مع مشاهد من برنامج (من سيربح المليون) نفسه.. نسمع الأسئلة وسخرية مقدم البرنامج المغرور وتظرّفه، خاصة عندما عرف أن الفتى (شاي والا) -(ولد شاي)- مهمته تقديم الشاي للعاملين في شركة اتصالات كبرى.
ثم نرى رد فعل الفتى الذي يستحضر من خبرات الماضي تجربة كانت لها علاقة بالإجابة.. مثلاً السؤال عن الصورة التي يرسم بها الهندوس الرب (رام).. ماذا يمسك به في يده اليمنى؟.. هنا يتذكر الفتى طفولته وهو يلعب في النهر المتسخ بينما أمه تغسل.. ثم يهجم على الحي مجموعة من الهندوس البلطجية ليفتكوا بالمسلمين.. تتلقى أم الفتى ضربة قاتلة على رأسها وتسقط في الماء، بينما يفر (جمال) وأخوه.. هنا يجدان أمامهما واحدًا من الهندوس صبغ نفسه بالأزرق ليبدو مثل إلههم (رام).. مشهد لا يُمحى من ذاكرته أبدًا.. طبعًا في يد (رام) اليمنى قوس وسهم..
الإجابة الصحيحة هي: قوس وسهم.. وهكذا تتوالى الإجابات مع مقدم البرنامج الخبيث المراوغ (أنيل كابور) الذي يتلاعب بأعصاب الفتى ليخسر.. مثلاً الفتى يذكر أفلام الممثل (أميتاب باتشان) كلها، والسبب أنه كان مجنونًا به في طفولته.. إن هذه المنطقة العشوائية قرب المطار ترى هبوط طائرة (أميتاب) من ثم يعم الجنون بين الفقراء ويهرعون ليروه.. ولع الصبي يؤدي به لمغامرة مؤسفة هي أن يغوص بالكامل في حفرة من الفضلات البشرية ويخرج مكسوًا بها ليطلب توقيع (أميتاب) على صورة له.. من الواضح أن الغوص في الفضلات البشرية تيمة مفضلة عند (دان بويل)؛ لأنه يصور في فيلم (مراقبة القطارات) رجلاً يغوص في مرحاض مليء ليبحث عن أقراص مخدرة، ويتحول الأمر لحلم فانتازي من السباحة وسط الفضلات!!
هكذا تتوالى الأسئلة التي يحلها الفتى بمعجزة ما، وبخبرات طفولته فقط.. مع الأسئلة نرى بانوراما كاملة لحياته وصراعاته وقصة حبه الأليمة مع فتاة شوارع مثله اسمها (لاتيكا)، كان مصيرها محددًا بالطبع.. كل الأطفال يتسولون.. يكبر الفتيان فيصيرون لصوصًا وبلطجية، وتكبر الفتيات فيصرن عاهرات.
نكتشف هذا كله بينما ثلاثة خيوط لا تتوقف عن النمو وتتداخل وتتعقد مع بعضها:
1- خيط التحقيق في قسم الشرطة ومحاولة إقناع الضابط.
2- خيط حياة الفتى وعلاقته بأخيه والبحث عن حبيبته التي غاصت في أمواج المدينة.
3- خيط البرنامج نفسه مع مقدمه الخبيث الذي يحاول إقناع الفتى أنه في صفه، وهو يخدعه، وفي النهاية يشكوه للشرطة بتهمة الغش في البرنامج ومن هنا نعرف لماذا بدأ الخيط الأول.
تتصاعد الأحداث، فلا داعي لسرد كل شيء.. هناك كذلك خطأ في السيناريو لن نتوقف عنده طويلاً (عندما قال في التحقيق إنه لم يرَ أخاه قط بعد الفراق في الفندق). فقط ينتهي الفيلم بمشهد استعراضي ضخم على محطة القطار، هو نوع من التحية للسينما الهندية التجارية أو (بوليوود) كما يسمونها.. لكن ما أبعد الفارق بين هذا البطل التعس النحيل وفتاته السمراء الواهنة، وبين أبطال بوليوود المفعمين صحة ورجولة وجمالاً.. من المستحيل أن يظفر هذان الشابان بالبطولة في فيلم هندي تجاري.
هذه هي الهند الحقيقية.. الهند التي لا نعرفها نحن.. الهند كما لم تصورها الكاميرا من قبل. بلد مليء بالفقر والجريمة والبؤس لكنه برغم ذلك ساحر. يمكنك في لحظات كثيرة أن تتنهد ارتياحًا؛ لأننا لا نعيش في هذا الفقر الصادم الموجع. على فكرة لم أعرف من قبل أن عشرين مليون روبية تقترب من نصف مليون دولار.
بالطبع أثار الفيلم الكثير من الاحتجاج في الهند؛ لأنه يظهرها بطريقة فاضحة غير سياحية بالمرة، واحتج الهندوس على إظهارهم كوحوش.. هناك جبل من القضايا مرفوعة عليه، لكن هذا كل شيء.. من المستحيل أن نتصور أن يقدم هذا الفيلم في مصر أصلاً سواء قدمه مخرج مصري أو بريطاني. بالمنطق الرقابي عندنا ليس هذا الفيلم سوى حبل طوله ساعتين لنشر الغسيل المتسخ.
من ناحية أخرى لا أعرف لماذا لم يتذكر أحد تشابه هذا الفيلم الشديد مع (سلام بومباي)، وهو فيلم جميل آخر قدمته عام 1988 المخرجة الهندية المشاغبة (ميرا ناير) التي يسبب كل فيلم لها عاصفة من الجدل.. في ذاك الفيلم أطفال شوارع في (مومباي) وقصة حب بين طفل شارع وفتاة لا تلبث أن تتحول إلى غانية خصوصية لأحد الأثرياء. لا أعرف لماذا نسيه الجميع..
(مليونير العشوائيات) فيلم ممتع ولاهث الإيقاع، فلا تشعر لحظة أنك جلست متسمرًا أمام الشاشة ساعتين. كل هذا مجدول بالأغاني الرائعة لـ (أ. ر. رحمن) الذي استحق بحق جائزتي أوسكار عن الموسيقى التصويرية وأفضل أغنية. تصوير فائق الجمال يتعامل مع القبح والقذارة بعذوبة شديدة لا تعرف كيف، ويعتمد كثيرًا جدًا على الكاميرا المحمولة باليد.
من الطريف أن بويل يعترف بأنه رأى الكثير من أفلام بوليوود إياها ليتعلم طريقتها في التعامل، وقد أخذ السيناريست الكثير من خيوط أشرار بوليوود لينسج بها شخصيات الأشرار في فيلمه، كما أخذ خيوطًا مهمة من فيلم هندي بوليسي اسمه (ديوار).. حتى طريقة بوليوود في التعبير عن مرور السنين اقتبسها، حيث يثب الشقيقان من القطار فإذا هما لحظة السقوط قد تقدما سبع سنوات في العمر.
باختصار: لو ابتلعت منطق أن خبرات الفتى في طفولته تكفي للإجابة عن كل أسئلة البرنامج، فأنت لن تجد مشكلة في هذا الفيلم ولسوف يروق لك بشدة
http://www.youtube.com/watch?v=jmnugMwoP1Q&feature=PlayList&p=1D7ACD1F5BD1DCB3&index=12