نهاية زمن الإلحاد، نحو خالق لهذا الكون
ميكانيك الكم (من عالم حتمي إلى عالم لا حتمي)
الإلحاد Atheism (عدم وجود إله) اعتقاد ينكر وجود الإله. يختلف الإلحاد بشكل واضح عن الاأدرية Agnosticism (عدم الدراية، عدم القدرة على المعرفة) مذهب فلسفي ينكر قيمة العقل وقدرته على المعرفة، بتعبير آخر لا يمكن أثبات وجود أو عدم وجود الإله.
في الدولة الرومانية كان يطلق على المسيحيين الأوائل اسم "الملحدون" لأنهم أنكروا آلهة الرومان. وبعد ذلك أخذت العديد من الطوائف المسيحية تطلق اسم الملحد على كل شخص لا يتفق مع كل معتقد من مذهبهم.
العديد من أصحاب الفكر الحر، والمحسوبين على المذهب اللاأدري يشار إليهم كملحدين. الكثير من العقائد كالبوذية، الكونفوشيوسية،.... على سبيل المثال تعتبر إلحاداً لأنها تنكر وجود اله ذاتي محدد كما هو في اليهودية والمسيحية والإسلام.
إذاً الإلحاد Atheism هو الاعتقاد بعدم وجود كائن أسمى أو إله، وهو يشمل كل رفض لجود إله أو آلهة، ويعتبر كل توجه عقلي (فلسفي) يدعي بوجود الإلوهية هو مجرد شك وليس له أي دلالة حقيقية. عادة ما يرتبط الإلحاد بالمذهب المادي Materialism (أي الاعتقاد بأن المادة هي القوة الوحيدة التي تقود وتوجه وترشد الكون) ومصطلح الإلحاد Atheism أتى من الكلمة اليونانية atheos (بدون إله).
بازدياد المعرفة العلمية وتقدم العلوم والنتائج والتفسيرات العلمية للظواهر التي كانت تعتبر سابقاً خارقة للطبيعة، أصبح الإلحاد أكثر اهتماماً بالطبيعة والعلم، ولم يعد له اهتماماً بالاتجاهات الفلسفية، فقد تم ازدراء الفلسفة من قبل الإلحاد. فالمبررات والمسوغات التي يعتمدها الإلحاد -الإلحاد عقيدة أكثر منه فلسفة، معظم الملحدين يتبنون كما ذكرنا المذهب المادي- تبنى على بعض الفروع العلمية وعلم النفس، الذي يسلم بأن الإيمان بإله أو آلهة غير ضروري، كما أن التحقق التجريبي من الإيمان الديني غير موجود ولا يمكن أثباته علمياً. أما المعتقدين بوجود إله Theists يعتبرون أن مثل هذه المسوغات لا يمكن اعتبارها إثباتا مبنياً على أساس منطقي.
إذاً إنكار وجود الله يعود إلى عدم القدرة على إثبات وجوده. وبنفس الوقت عدم القدرة على إنكار وجوده. من هنا نجد وبتطبيق النهج العلمي "الفرضية التي لا تعرض نفسها للاختبار ليس لها قيمة أو معنى"، إذاً فكرة وجود إله أو فرضية وجود خالق من الناحية العلمية ليس لها معناً ويجب إهمالها، وهذا ما نلاحظه أثناء عمل العلماء في المخابر ومراكز الأبحاث لا مكانة لوجود إرادة الله. العلم يعتمد على التجربة وعلى الحواس في صياغة المفاهيم والنظريات والتفاسير، إذاً فرضية وجود خالق لا يمكن اختبارها بالتجربة وبالتالي ليس لها معناً من الناحية العلمية.
سأحاول هنا أن أبين ما هو عقلي وما هو حقيقي موضوعي.:
كثير منا يعرف مجموعة الأعداد الطبيعية natural numbers (0,1,2,3,4,….) في الرياضيات، ومجموعة الأعداد الصحيحة integers تشتمل هذه المجموعة على الأعداد الطبيعية والأعداد السالبة، ومجموعة الأعداد المنطقة rational numbers (الأعداد المنطقية، العقلية) والتي تعرف بالأعداد الكسرية (صورة ، مخرج) (بسط ، مقام) تشتمل هذه المجموعة من الأعداد على مجموعة الأعداد الصحيحة والأعداد الكسرية. حيث يمكننا كتابة جميع هذه الأعداد واستنتاجها منطقياً على صورة كسر، البسط عدد صحيح والمقام عدد صحيح 3/4 ، 1/3=3 وهكذا.... سميت بمجموعة الأعداد المنطقية (العقلية) لأنه يمكننا بناء جميع عناصرها بطريقة منطقية (عقلية) من الأعداد الصحيحة.
مجموعة الأعداد الحقيقية (الأعداد الواقعية) real numbers وهي مجموعة أكبر من مجموعة الأعداد المنطقية فهي تحوي مجموعة الأعداد المنطقة rational numbers.
إذاً ماذا نقصد بكلمة "حقيقية" هل هي مجرد تسمية. لنأخذ الأعداد مثل )جذر 2 (، والعدد )جذر 3 (، والعدد π وغيرها... هي أعداداً حقيقية ولكنها ليست أعداداً منطقية (عقلية) أي لا يمكن استنتاجها عقلياًً وكتابتها على شكل بسط ومقام من الأعداد الصحيحة، ولكنها أعداداً حقيقية. لنأخذ مثلثاً قائم الزاوية طول كل من ضلعيه القائمتين واحدة الأطوال على سبيل المثال 1 cm فإن طول الوتر في هذا المثلث القائم سيكون 2 cm√ حسب نظرية فيثاغورس الشهيرة. إذاً بهذا المثلث المرسوم على الورق حصلنا على قطعة مستقيمة لها بداية ونهاية نستطيع تحديدها بواسطة فتحة الفرجار طولها 2 cm√ ، إذاً 2√ عدد حقيقي ملموس واقعي وموضوعي لكن لا يمكن صياغته عقلياً. إذاً ليس كل ما هو حقيقي يمكن الاستدلال عليه منطقياً (عقلياً).
من هذه الأفكار يمكننا أن نقول : إن الظاهرة الدينية هي ظاهرة حقيقية وظاهرة الأنبياء ظاهرة حقيقية وتاريخية وهي موجودة وواقعية لا يمكننا إنكارها، حدث باستمرار وتكرر ظهورها عبر تاريخ البشرية. وبتتبع الدين عبر التاريخ نلاحظ أن الأديان موغلة في القدم. لقد كانت محركاً أساسياً للفعل الحضاري والتطور البشري، فالحضارات البشرية الأولى قامت على أسس دينية، لقد كان الدين العامل الأساسي والمحفز للفعل الحضاري عبر التاريخ (أقصد الدين بتعريفه العام والشمولي).
إن ظاهرة الأنبياء والرسل ظاهرة موجودة وحقيقية لا أحد يستطيع إنكار وجود الأنبياء والرسل، وفعلهم ومدى تأثيرهم على الناس والمجتمعات. هذا يوحي بمدى قدرة هؤلاء الأنبياء والرسل، وإمكانياتهم وقدراتهم العقلية وصدقهم، لقد كانوا صادقين حتى استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوه. إذاً نحن أمام ظاهرة حقيقية تاريخية هي ظاهرة الدين التي تبدأ مع شخص النبي وتنتهي بموته. هذه الظاهرة الحقيقية لا يمكن تفسيرها والاستدلال عليها عقلياً (منطقياً).
ملاحظة : استخدمت كلمة عقل هنا كثيراً وأنا أقصد بها المنطق وأسلوب التفكير، وليس العقل بمفهومه العام.
وبهذا يقع على عاتق أصحاب الفكر الإلحادي الإتيان بإثبات علمي على عدم وجود إله.
يجب أن نشير هنا إلى أن الإلحاد قد نشط في الغرب، ويعود ذلك إلى الظلم الاجتماعي الذي مارسته الكنيسة على المجتمع وتحالفها مع الإقطاع ضد مصالح الجماهير والفلاحين، كذلك المظهر الوثني للكنيسة في تلك الفترة الذي جعل الله شيئاً مشخصاً، ويعود ذلك إلى تأثير معتقدات الدولة الرومانية على الكنيسة، حيث دخل الكثير من العادات الوثنية إلى الكنيسة وما زالت بعض هذه المظاهر موجودة حتى الآن. إن فكرة الله وتصوره في تلك الفترة كان كما يلي : الكون يدير شؤونه الله ويتحكم بحركة الكواكب. هو الذي يغير ويقدم ويؤخر للحفاظ على نظام هذا الكون. لا أحد يستطيع التنبوء بما سيحدث للكون، صورة عن الآلهة كما هي في عصر الرومان. بظهور العلم وانهيار أعراف وتقاليد الكنيسة (تعاليم أرسطو)، وسقوط نظرية مركزية الأرض الذي نادى بها أرسطو وتبنتها الكنيسة، أصبح الفكر الديني في الغرب في مهب رياح العلم.
نشأة الصورة الميكانيكية (الحتمي) :
حققت نظرية نيوتن Isaac Newton في الثقالة (الجاذبية الكونية) نجاحات مذهلة بالتنبوء بحركة الكواكب. فالأجسام المادية حسب هذه النظرية تتجاذب فيما بينها بقوة أطلق عليها نيوتن اسم قوة الثقالة (الجاذبية الكونية). فقوة الثقالة بين جسمين ماديين يمكن أن تعزى إلى شحنة ثقالية، كما هو الحال عند القوى الكهربائية المؤثرة بين جسمين مكهربين، والتي تعزى إلى الشحنة الكهربائية للجسمين.
ظل كل من مفهومي القوة والمادة الأساس لكل المحاولات في فهم الطبيعة، لقد استمر ذلك ما يقارب قرنين من الزمن. كان من المستحيل تصور القوة بدون مادة، فالمادة يكشف عن وجودها من خلال فعلها وتأثيرها في المادة الأخرى. فالإنجازات العظيمة لميكانيك نيوتن ونجاحه الكبير في خدمة علم الفلك وفروع أخرى من العلوم أسهم في ترسيخ الاعتقاد بأننا قادرون على تفسير جميع الظواهر الكونية بواسطة قوة بسيطة تفعل بين أجسام مادية. لقد بدا ذلك واضحاً بوعي أو بغير وعي في جميع الأبحاث العلمية وخاصة خلال القرنين التاليين لعصر غاليليو غاليله.
لقد عبر عن ذلك بوضوح العالم Helmholtz, Hermann Ludwig Ferdinand von هيرمان ل . ف . هلمهولتز (1894-1821) ،ونحن نستعير عبارته هذه من كتاب (تطور الفيزياء The Evolution of Physics (1938)) لألبرت آينشتاين و ليوبولد إنفلد : " نتوصل في النهاية إلى اكتشاف أن مسألة علم الفيزياء تعود إلى إرجاع كل الظواهر الطبيعية إلى قوى تجاذب وتنافر تتعلق شدتها بالمسافة فقط. وحل هذه المسألة يقود إلى فهم تام للطبيعة." أي حتى نفهم العالم (الكون) يجب أن نرجع جميع ظواهره إلى جسيمات مادية تتجاذب وتتنافر تحت تأثير قوى تتعلق هذه القوى فقط بالمسافة التي تفصل بين هذه الجسيمات. ولكن الكيفية التي تتعلق بها هذه القوى بالمسافة غير معروفة.
ملاحظة : هكذا فهم المعاصرون لتلك الفترة المادة؛ جسيمات تتفاعل تتجاذب وتتنافر، والعقل كنتيجة لهذا التفاعل. كل الفكر المادي والفلسفة المادية مبنية على هذه النظرة والتعريف للمادة.
فبقوانين نيوتن نستطيع تحديد حركة كل جزيء، وكل ذرة من المادة بشكل تام. هذا من الناحية النظرية على الأقل، وعلى مدى الزمان كله في الماضي والحاضر والمستقبل، وذلك بمعرفة القوى المؤثرة فيها وبالشروط البدئية المحيطة بها عند لحظة محددة. أي إنه لو استطعنا تحديد موضع كل ذرة من ذرات المادة في الكون وسرعتها في لحظة ما (لحظة البدء)، ونعرف كل القوانين التي تحكم القوى الفاعلة بين تلك الذرات، لاستطعنا بذلك حساب تاريخ الكون بالكامل من الماضي السحيق إلى المستقبل البعيد.
لقد أثر الفكر النيوتني الجديد عميقاً في الفكر البشري، فالكون عند نيوتن آلة رتيبة عملاقة تعمل بانتظام، وكل ذرة وجزء من هذه الآلة محددة مسبقاً في لحظة ما من الماضي (الشروط البدئية للحركة). فقبل نيوتن وفي الحضارات القديمة كان الكون محكوماً بقوى غيبية تعمل به ما تريد وعندما تريد. ذلك فالكون برمته كان خاضعاً لمشيئة هذه القوى الغيبية، فلا أحد يستطيع التنبوء بمستقبل الكون ولا معرفة ماضيه. فبعد أن خلع نيقولاوس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus (1473 – 1543) ثوب القداسة عن الأرض كمركز للكون، جاء نيوتن ليجعل الكون برمته بما فيه الإنسان آلة رتيبة منتظمة محددة مسبقاً.
فالأجسام المادية حسب الميكانيك النيوتني ذو حقيقة موضوعية أي يمكننا رصدها وتحديد أشكالها وأبعادها بواسطة الحواس، فهي أجسام حقيقية موجودة بشكل محسوس خارجاً عنا، ومن خواص هذه الحقيقة الموضوعية للجسم المادي أن له موضع معين وكمية تحريك معينة وهما حاضران معاً ويمكن تعينهما معاً فهما حقيقيان، وهما يمثلان الحقيقة الموضوعية للجسم المادي. والمادة ندركها ونقيسها بكتلتها. وكتلة جسم ما : هي كمية المادة الموجودة فيه.
إن هذا الكون بكل عوالمه يخضع لقوانين ضابطة؛ فكل شيء قابلاً لأن نتنبأ به، وما علينا إلا أن نجد القوة. والتَعرُف في لحظة محددة على كتل الأجسام ومواقعها وسرعاتها. فالعالم الكوني آلة ميقاتية نيوتنية عملاقة، يتتابع فيها السبب والنتيجة؛ لا شيء يأتي مصادفة فكل شيء قد حسب حسابه حتى النهاية.
وبحسب قول لابلاس Pierre Simon Laplace : علينا أن نعتبر العالم بحالته الحاضرة على أنه نتيجة لحالته السابقة وهو سبب لحالته التالية. فإذا وجد عقل قادر على استيعاب كل القوى التي تحرك الطبيعة ومواقع هذه الأشياء الداخلة في تركيبها - عقل ذو إمكانية تكفي لتناول هذه المعلومات بالتعليل - فإن هذا العقل سيكون قادراً على أن يضع في صيغة واحدة حركات أكبر الأجسام في هذا العالم وحركات أصغر الذرات. فكل شيء سيكون مؤكداً له، وسيكون المستقبل كالحاضر، ماثلاً أمام عينيه.
كانت الحتمية التي أطلقها ميكانيك نيوتن من القوة بحيث أثرت على الكثير من المفكرين فأخذوا بتطبيقها على العلوم الأخرى. كان الخضوع إلى قوانين الفيزياء هو قدر جميع الكائنات الحية لأنه كان من المستحيل العمل ضد هذه القوانين الطبيعية. ونتيجة لذلك فإن فهم الطبيعة فهماً خالصاً ونهائياً هو استكشاف القوى الخفية التي كانت السبب فيما يحدث. وبمجرد اكتشاف هذه القوى لم يعد في هذه الدنيا مكان للإرادة الحرة Free Will أو الحساب (الدينونة) أو الخلاص أو الحب والكره. لقد كان تأثر مفكري القرن الثامن عشر كبيراً بفكرة أن الكون آلة عملاقة تتحكم بها قوى معينة، بحيث لم يزعجهم تلاشي فكرة الإرادة الحرة، لقد أصبح الميكانيك النيوتني مثالاً يحتذى في العلوم الأخرى.
حاول المفكرون في القرن الثامن عشر تقليد علم الفيزياء (الميكانيك النيوتني). في البحث عن قوانين عامة تفسر التاريخ والسلوك البشري. فقد اعتبر كارل ماركس بأن كل تغير ناجم عن الصراع المستمر بين القوى المختلفة الكامنة في كل الأشياء. وعندما تتغلب قوة على سواها يحدث التغير. لقد عرفت هذه النظرية باسم المادية الديلكتيكية dialectical materialism فطبقات المجتمع لا يمكن أن تتصالح فيما بينها وتتعاون ولكنها تتصارع لاختلاف مصالحها. وهي تشبه قانون نيوتن الثاني الذي يؤكد أن القوة هي التي تسبب التغير في المادة وحركتها.
إذاً أصبحت المسألة برمتها الكشف عن القوانين التي تحكم هذا العالم. أخذ الفكر الإلحادي يأتي بالنظريات العلمية مبيناً حتميتها وحتمية هذا العالم وانه لا مكان لإرادة الله في تغيير هذا العالم.
تعالت أصوات المؤمنين بوجود إله : بأن الله خلق العالم وتركه ولم يعد يتدخل فيه. وهنا كانت الطامة، فالله لم يعد باستطاعته التدخل في هذا العالم الذي خلقه.
وبظهور نظرية النسبية والتوحيد بين المادة والطاقة، واعتبار المادة احد أشكال الطاقة والطاقة احد أشكال المادة، وإمكانية تحول المادة إلى طاقة والطاقة إلى مادة، بدأ مفهوم المادة يتغير وهذا بدوره تطلب نظرة أعمق إلى المادة. شنت الحملات على النظرية النسبية من قبل أصحاب الفكر المادي في محاولة تطويعها مع فلسفة الفكر المادي. بقي مفهوم الجسم المادي قائماً في النظرية النسبية ومحتفظاً بموضوعيته، أما مفهوم القوة فقد أصبح مفهوماً رياضياً.
ميكانيك الكم (اللاحتمية) :
بتطور العلم وظهور نظرية ميكانيك الكم Quantum Mechanics نظرية فيزيائية أكثر شمولاً من نظرية نيوتن. اظهر ميكانيك الكم بالتجربة والدليل العلمي عدم حتمية العالم. أي أن العالم غير حتمي فنحن لا نستطيع أن نتنبأ بمستقبله، أي بمعنى انه لا يمكننا التنبؤ بمستقبل العالم من معرفة الحالة البدائية لهذا العالم، كما أنه لا يمكننا تحديد حالة جملة معينة بدقة متناهية ولو من الناحية النظرية. إذاً : تكمن إرادة خفية تمنعنا من المعرفة، يقول علماء الفيزياء أن الطبيعة تحجبها عنا، وهذا ما يعبر عنه مبدأ هايزنبرغ الإرتيابي (اللاحتمية) The Uncertainty Principle. بذلك بدا العالم مبنياً على الاحتمال.
آينشتاين الذي يؤمن بعالم معقول يمكن الاستدلال علية منطقياً لم يستسغ هذه الفكرة وقال : إن الله لا يلعب النرد، ولكن الرد كان : ما أدراك ما يفعله الله.
وبين الحالة البدائية المرصودة لجملة فيزيائية (العالم) وبين الحالة التالية المرصودة لهذه الجملة الفيزيائية (العالم) لا يمكننا معرفة أو التنبؤ بأي شيء أو معرفة حالة هذه الجملة. بهذا المعنى نقول إن العالم يأتي إلى الوجود عندما نقوم برصده، ويصبح عندئذٍ حقيقي. بهذا المعنى فإن العالم يخلق في كل لحظة.
إذن يمكنني القول بشكل موجز إن عالم حتمي مبني على السببية كما يصفه ميكانيك نيوتن، ليس بحاجة إلى خالق. وعالم لا حتمي لا وجود للسببية القوية فيه كما يصفه ميكانيك الكم بحاجة إلى خالق.
سأكتفي بهذا القدر من الشرح حول نتائج وتفسيرات ميكانيك الكم. أرجو أن أكون قد أوضحت بعض الشيء، فالموضوع بحاجة إلى شرح أكثر تفصيلاً وأكثر عمقاً، لا يتسع المجال هنا إلى ذلك.
إذاً لم يعد يقف العلم إلى جانب الإلحاد. لقد خسر الإلحاد وسيلته الوحيد والفعالة (العلم) في دعم فرضيته في عدم وجود خالق، أو ليس هناك ضرورة لوجود خالق. وبهذا تحول الإلحاد إلى عقيدة صماء، أخذ يقوم بالتشكيك في الأديان وشخوصها كالأنبياء والرسل وكتبها، متهماً الأنبياء والرسل بالكذب وعدم الصدق، محاولاً التحقير من هذه الشخوص والإساءة إليها بغية الحصول على مصداقيته من خلال التكذيب أو التشكيك بمصداقية الآخرين.
تظهر المؤسسات الدينية دوماً عاجزة أمام الإشكاليات الفكرية والتطورات العلمية، لقد فرغت هذه المؤسسات الدين من جوهره وتحولت إلى مؤسسات اجتماعية دنيوية. المؤسسة الدينية الإسلامية مؤسسة متخلفة غير قادرة على مواكبة التطورات العلمية. أما الكنيسة فهي نوعاً ما أفضل حالاً في الوقت الحاضر فهي تمتلك مؤسسات علمية مرموقة قادرة على توفير البحث العلمي الصحيح الذي يخدم الدين والكنيسة.
يعتبر الجهل والتخلف من اشد مشاكل المؤسسات الدينية، وهو بدوره ينقلب على صاحبه، وما الإعجاز العلمي في الدين إلا أحد أشكال هذا التخلف والجهل. فالمؤسسة الدينية تقوم بنفسها بتحريف مدلول النص الديني وإخراج معان ليس لها وجود أو علاقة بالنص الديني، وهم يقومون بذلك بطريقة غير علمية.
تحاول الكنيسة أيضاً استخدام بعض النظريات العلمية ولكن بطرق أكثر عقلانية، وذلك باستشارة العلماء والعمل معهم. حيث تحاول أخذ موافقتهم أو تأييدهم لبعض الاقتراحات التي تقدمها.
أما بالنسبة إلى الدين اليهودي، يحاولون هم أيضاً في هذا المجال. ومن بعض محاولاتهم إخضاع النص الديني إلى معادلات رياضية تعتمد على ترتيب الأحرف وعددها. فتخرج معهم أسماء ومعان تتعلق حسب وجهة نظرهم بأحداث ومواقف يمر بها كيانهم بالمنطقة.
فكل من الإلحاد والدين (المؤسسة الدينية) يتجاذبان العلم ونظرياته كل منهم يدعي أنها تقف إلى جانب اعتقاداته حيث تستخدم النظرية العلمية لأغراض شتى، فالنظرية العلمية ذاتها يستخدمها الإلحاد والدين لدعم أفكارهم.
على دروب الكلمة الصادقة نلتقي
المخلص دوماً
خلدون محمد خالد