أزهي عصور المتطرفين أيضاً!
أحمد عبد التواب
لأصحاب الفكر الجديد نظرة ثابتة علي غرض واحد، فتعشي أعينهم عن ملاحظة وعورة الأرض ومنزلقاتها وأفخاخ قاطعي الطريق من محتكرين وناهبي بنوك ومضاربين في البورصة والعقار والمنقول..الخ، وجميعهم متربصون علي جانبي المسار لفرض إتاوات السماح بالمرور، فيدفع المفكرون الجدد المعلوم صاغرين ويوهمون أنفسهم بأنهم يُقدمون إكراميات تنازلاً وعن طيب خاطر! كما أنه ليس في فكرهم ما ينبههم إلي أن آلياتهم التي يصنعونها بأنفسهم بهدف أن تفيدهم في إنجاح مشروعهم، يمكن لآخرين، أيضاً، أن يقطفوا بها ثماراً أخري لم تكن في الحسبان، مما يجعل الثقة في النتائج أمراً تعوزه الحكمة!
لذلك نري الآن انتعاشة مجددة للمتطرفين عادوا بها أقوي مما كانوا في نهاية عصر الرئيس السادات، وهم ينعمون بأُلفة استثنائية في جوار واحد مع الفكر الجديد، برغم ما يبدو علي السطح من شدّ وجذب بينهم!
من ينزل مصر لأول مرة هذا الأسبوع يظن أنها صارت خاضعة لحكم طالبان، فيظن أن الفكر الجديد الذي سمع عنه وهو في الخارج خسر المعركة بالضربة القاضية وأنه أسلم مقاليد الأمور إلي أصحاب شعار الإسلام هو الحل!
سيواجهه من المطار ما أصبح يُصطلح بتسميته بالزي الإسلامي، وسيري ظاهرة الموظف الذي يفرض علي الناس سماع ما يسمعه بأعلي صوت من قراءة وأدعية وتواشيح وإنشاد من جهاز الموبايل الخاص به! فإذا اشتري القادم الجديد الصحف المحلية من المطار، فعليه أن يجاهد في محاولات القراءة في التاكسي، لأن السائق يفرض عليه تسجيلاً بصوت زاعق يصرخ في الجمهور عن عذاب القبر، وعن هوان الدنيا التي لا يليق بالمسلم أن يلتفت إليها وإلي غوايتها، وعن العذاب الذي ينتظر من يخرجون علي الحاكم، لأنهم يثيرون فتنة في الأرض، والفتنة أشدّ من القتل!
ووسط هذا الرعب سيتمكن الزائر لمصر بصعوبة بالغة أن يقرأ أخباراً صادمة مما نشرته الصحف في الأيام القليلة الماضية: أن عدداً من السلفيين قطعوا طريق المقابر في مدينة 6 أكتوبر لمنع بعض الأهل من زيارة موتاهم، وأصر السلفيون علي أن هذه بدعة ورأوا أن من واجبهم الديني أن يقاوموها بالقوة، فاشتعلت معركة بالأسلحة النارية لمدة 3 ساعات! ولاحظ محرر الموضوع تامر أبو عرب (الدستور 28 سبتمبر) اختفاء قوات الأمن طوال المعركة الدامية!
وخبر آخر من السنبلاوين، أن جماعة أنصار السُّنة المحمدية منعوا أفراد عائلة من دخول المسجد والصلاة فيه بدعوي أن هذه العائلة تحترف السرقة، وقال المتصدون بالمنع أن صلاة هؤلاء تؤخر استجابة الله لدعائهم!!
فاشتعلت معركة بالعصي والأسلحة البيضاء وهجم المتطرفون علي منازل العائلة المتهمة بالسرقة وحطموا الأثاث وأصابوا بعض الأفراد بجراح!!
وغالباً، سيجد الزائر نفسه أمام مسائل فقهية عويصة سوف يؤنب نفسه علي هدر سنوات العمر دون الوقوف أمامها بالفحص والتمحيص، مثل: هل صلاة اللصوص مُحَرّمة شرعاً؟ وهل صحيح أن جوار اللص في المسجد تؤخر استجابة الله لدعاء المسلم المستقيم الذي ألقي به حظه العاثر قريباً من اللص في الصلاة؟
وخبر آخر (الأحرار 26 سبتمبر) أن محكمة القضاء الإداري تنظر دعوي بإلغاء السماح بتنظيم مسابقة ملكة الجمال! ودعوي أخري بإلغاء السماح للذكر والأنثي من الأجانب بالإقامة في غرفة واحدة بالفنادق دون ثبوت علاقة زوجية أو محرمية!
ومن المؤكد أن القارئ سيُدهش من تنحية الصفة: رجل وامرأة، واستخدام: ذكر وأنثي! بما يفيد الرجوع بصفات الترقي الحضاري إلي التسمية الأولي للنوع!
فإذا ألقي الضيف بالصحف جانباً، سيسمع الميكروفونات تخترق التاكسي علي أعلي درجة بالأذان والأدعية والصلاة كاملة يتبعها درس، في الميكروفون أيضاً، عن كفار قريش وعدوانهم علي المسلمين الصابرين في صدر الإسلام، فيوقن أن ما سمعه قبل أن يحل أرض مصر عن مشروع توحيد الأذان ذهب ضمن ما ذهب في هزيمة الفكر الجديد أمام طالبان! وإذا نزل المترو تحت الأرض فسوف يتيقن أنها منطقة محررة لغلاة الحركة، ليس فقط بالفصل بين الجنسين في العربات وفرض الحجاب علي بنات في طفولتهن الأولي، وإنما في إطلاق حرية كل موظف في فرض من يحبه من شيوخ القراء بأعلي صوت في إمكانه، كما سيخرج أحد موظفي التذاكر أو فرد من الأمن أو عامل نظافة ليرفع الأذان الذي يدوي من كل الأجهزة بأصوات مختلفة في ذات الوقت!
وسيري الزائر بأم عينيه أن الإيمان لم يعد يَقِر في القلب وإنما في الميكروفون، كما أن الصلاة لم تعد في خشوع بين يدي الله، وإنما علي الهواء أمام أكبر جمهور ممكن!
فإذا ذهب الزائر إلي الفندق وأدار جهاز التليفزيون علي القنوات المحلية، فهذا هو العذاب المقيم، بعد أن تم اختراقه بمن يحكم أحكاماً قاطعة لا مواربة فيها عن تحريف الإنجيل، ويطعن في صُلب العقيدة المسيحية، ويهاجم، في الجملة ذاتها، القنوات الفضائية المسيحية المتعصبة التي تهاجم الإسلام والمسلمين، ثم يُعلن رفضه القاطع للشيعة ويركز علي أن كفرهم هو الذي يدفع بهم لامتلاك السلاح النووي ليخوضوا به حرباً ضروساً ضد أهل السُنة، ويكمل مواقفه الجسورة ضد البهائيين والقرآنيين، وربما خشية أن يحسبه أحد متخاذلاً، يُكمل هجومه ضد من لا يُحسنون الوضوء لأن الله لن يقبل منهم صلاة، ولا يفوته أن يدين من تظن نفسها مسلمة في حين يراها تعيش الجاهلية الأولي لأنها لا تضع نقاباً..الخ
وسيبذل الزائر قصاري جهده دون جدوي ليسمع كلاماً بذات الوضوح، في تليفزيون الدولة الخاضع للفكر الجديد، عن رأي الإسلام وفقهائه العظام في الاستبداد بالحكم وتزوير إرادة الأمة وتبديد المال العام وقهر الناس وتعذيبهم وتجويعهم! ولن يجد تفسيراً مُقْنِعاً لماذا يَقر في ذهن هؤلاء أنهم يمثلون نموذجاً أفضل مما هو موجود بالفعل في أوروبا وأمريكا، برغم الإذلال الذي يتعرضون له من حكامهم وعجزهم عن صده أو امتثالهم له، والمهانة في إلغاء حقهم في الاختيار، والبؤس في حياتهم اليومية!!
وسيراجع الزائر نفسه، وربما يقدم نقداً ذاتياً، عما كان يُكَذّبه من قبل مجيئه إلي البلاد وكان يعتبره من افتراءات الصهيونية العالمية ودعاياتها المضادة، مثل حكاية ظن أنها مروية بالخطأ عن إبراهيم عيسي عندما كشف أن بعض ضباط أمن الدولة في سيناء اعترضوا علي أن تكون مواطنة مسلمة في سيارة واحدة مع مواطن قبطي ضمن مجموعة سيارات لصحبة أصدقاء ذهبوا في رحلة جماعية! ومن عجب أن هذه صُنّفَتْ حادثة تخص أمن الدولة!! وأخبار أخري عن القبض علي المجاهرين بالإفطار في نهار رمضان دون نصّ قانوني، وأخبار أخري عن مظاهرات لمسلمين اجتاحت إحدي القري لمنع أقباط من الصلاة في منزل أحدهم! وسيتذكر الزائر أن الحصول علي ترخيص لبناء كنيسة أو ترميمها في مصر يستغرق أحياناً نحو 10 سنوات! وسوف يتساءل: أين يؤدون صلواتهم إذن؟!
وعلي الأغلب، سوف يتعجب الزائر: كيف ينخدع بعض رموز الأقباط ولا يرون العلاقة العضوية وثيقة العري بين رجوع التطرف الإسلامي الذي عاد لاستخدام القوة، وبين صعود شعارات الفكر الجديد؟ وكيف يصل اللبس إلي حد أن يُزكي قداسة البابا شنودة، وهو من هو في غزارة العلم وعمق الرؤية والنزاهة في القول وحب الوطن، مشروعَ توريث الحكم من الرئيس إلي نجله بظن أنه بذلك يحمي الأقباط من التطرف والمتطرفين الذين عادوا لاستعراض القوة!
ومن غرائب المتطرفين الكثيرة، أنهم قرروا أن يمنعوا الناس، بالقوة إذا اقتضي الأمر، من اقتراف الذنوب! وهذا يثير دهشة واستنكار أي زائر لم يتتبع الفيلم من أوله: لأن المذنبين كانوا دائماً هنالك حتي في عزّ كل الديانات وفي حياة كل الرسل! ثم أين حق المشيئة في الإيمان والكفر؟ وأين الاكتفاء بالتذكير دون افتراض الحق في السيطرة؟ ثم أين الموعظة الحسنة واستنكار الفظاظة وغلظة القلب؟ ومن أين أتوا بحق استخدام القوة ضد الناس؟
وأما أغرب غرائب الفكر الجديد، ففي تهاونهم لأخصّ ما تختصّ به الدولة الحديثة لنفسها وهو حقها، بل واجبها، في احتكار القوة وأدواتها، وعدم التهاون بالمطلق مع أي فرد أو جماعة، يسعي أو تسعي، لممارسة القوة وامتلاك أدواتها!
ولكنه اللعب بالنار، الذي يُغري الفكر الجديد في الاستمرار به نيل موافقة صريحة علي إتمام مشروع التوريث من الخائفين، وأما المتطرفون فيمنحونها بالمراوغة والإيحاء، بهدف تعظيم مكاسبهم أكثر!
وهنا بالذات، عندما تزداد قوتهم أكثر، سوف تنجلي نتائج خطأ الحساب!!
http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=33779&Itemid=31