((إن المرارة التي يشعر بها الفلسطينيون ستؤدي إلى وضع خطير)).. الرئيس الأمريكي باراك أوباما وهو يعلق ـ أول أمس ـ على تصعيد الاستيطان الإسرائيلي بعامة، والقدس بخاصة.
وهذا التعليق أو التصريح ملفوف في (عبارات دبلوماسية) ملطفة تخفي وراءها حقيقة: أن هذا السلوك الإسرائيلي مضر ـ إلى درجة الفداحة ـ بالأمن القومي الأمريكي.. وهذا الاستنتاج مسنود بتصريح سابق لأوباما نفسه، إذ قال ـ في أثناء جولته في منطقتنا هذه ـ: ((إن السلام في الشرق الأوسط يدخل في نسيج الأمن القومي الأمريكي، وإن تعطيل السلام مضر بأمننا ومصالحنا)).
ومن المؤكد أن (السلام) قد ابتعد عن المنطقة: بافتراض أنه كان قريبا في يوم ما.. ابتعد أكثر بمجيء غلاة الصهيونية إلى الحكم. فمن الواضح أن هؤلاء الغلاة لا يتنافسون في برامج تخدم السلام أو تؤدي إليه في نهاية الأمر، بل يتنافسون في هضم وابتلاع ما تبقى من حقوق فلسطينية وعربية في القدس وغيرها.. يقول الكاتب الإسرائيلي بن كاسبيت: ((هناك في السباعية الوزارية توجهات تتردد في أوساط الوزراء الكبار، تسمى هذه التوجهات (نظرية الفوضى)، أي أن المنطقة آخذة وفق هذه النظرية في الذهاب إلى حرب يأجوج ومأجوج))
إن اغتيال السلام في المنطقة (صناعة إسرائيلية) 100%.
وهذا ملف كامل من الأدلة يثبت ذلك:
1ـ إن الفلسطينيين في أوسلو وغيرها كانوا (مرنين) أكثر من اللازم (ولعل هذا هو ما أغرى إسرائيل بمزيد من التصلب والغرور).
بيد أن إسرائيل ضيعت ـ عن عمد وتخطيط ـ كل هذه الفرص.. فبعد 18 سنة من مسيرة ما سمي بـ(السلام): تبين أن كل هذا المدى الزمني من المحادثات والمفاوضات والوثائق واللقاءات العلنية والسرية.. قد ضاع وتبدد: بدده غلاة الصهيونية.. إن صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات الفلسطيني لم يتهم بالتشدد قط. ثم إنه شاهد على مسيرة المفاوضات الطويلة هذه.. ماذا قال عريقات ها هنا؟.. ((إن الرئيس محمود عباس توصل إلى قناعة باستحالة إقامة دولة فلسطينية في عهد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.. فقد جاءت لحظة الحقيقة ومصارحة الشعب الفلسطيني بأننا لم نستطع أن نحقق حل الدولتين من خلال مفاوضات استمرت ثمانية عشر عاما.. ولقد وصلنا إلى قناعة بأن إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في الرابع من حزيران عام 1967.. إن إسرائيل لا تريد حلا ولا عملية سياسية تقود إلى دولة فلسطينية.. إسرائيل لا تريد السلام، ولا الاعتدال، بل تريد التطرف والاستيطان والاحتلال))
2ـ إن إسرائيل تستخدم (الزمن) لـ(تأصيل) الاحتلال وتقنينه.. ثم البناء على الواقع: واقعا جديدا ينهب الأرض، ويذل الفلسطينيين ويجوعهم ويبيدهم.
فمن خلال أوسلو، وتحت مظلته: تضاعف الاستيطان آلاف الأحجام والمساحات، ونفذ مخطط تهويد القدس بالتدريج، وهو تدريج كان يتطلب مدى زمنيا: استغلته إسرائيل أخبث استغلال، منذ أوسلو وحتى اليوم.. وكأن (نيتها) في أوسلو هذا التدرج فحسب!
وهذان فصلان فحسب من فصول ملف (الاغتيال الصهيوني للسلام).
بناء على هذه الحقائق والوقائع التي لا مرد لها: يتوجب على ساسة المنطقة والعالم: التوصل أو ترسيخ الاقتناع بالرؤية السياسية الإستراتيجية التالية وهي (أن إسرائيل، ولا سيما قادتها المتطرفون خطر حقيقي على أمن منطقة الشرق الأوسط ، وعلى أمن العالم كله بالتالي).
لماذا؟
أولا: لأن هذا السلوك الصهيوني دليل حاسم على (الجنون الصهيوني).. وحين يبلغ الجنون بقادة أمة ما هذا المبلغ، فإنهم يصبحون (عميانا) لا يبصرون إلا أنفسهم، ولا يشعرون إلا بوجودهم هم، وعندئذ يتصرفون تصرف المجانين على نحو لا يتقيد بقانون دولي، ولا بمبادئ السلام، ولا بعقلانية دراسة العواقب. وعندئذ يحرقون أنفسهم، ويحرقون العالم معهم (جنون النازي مثلا).
ثانيا: لأن ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين أصبح فوق طاقة الصبر والاحتمال.. والمعنى المباشر لذلك هو: أن إسرائيل قد نجحت في تعبئة أمة كاملة هي الشعب الفلسطيني: نحو عشرة ملايين (ومن ورائهم العرب والمسلمون). قد نجحت في تعبئتهم بأعلى معدلات التذمر والسخط والغليان وفقدان الأمل.. وهذه هي ـ في مفهوم الفلسفة الاجتماعية السياسية ـ عوامل (الثورة) الكاملة.. وبالعودة إلى تصريح الرئيس أوباما ـ في مطلع المقال ـ نلمح فيه التحذير المبطن من هذا المصير: ((إن المرارة التي يشعر بها الفلسطينيون ستؤدي إلى وضع خطير)).
خذوها واعقلوها: إن قادة إسرائيل سيكونون سببا (نفسيا وتاريخيا واستراتيجيا) في توريط المنطقة كلها ـ ومن ورائها مصالح العالم وأمنه ـ في كوارث واضطرابات وعنف لا قبل لأحد بتصوره، ولا باحتماله.
ثالثا: من حيث التاريخ، فإن الصهيونية العمياء (تكرر) ـ بوتيرة مفزعة ـ: التجارب التاريخية المحزنة التي وقعت على اليهود ـ بسبب أفعال الغلاة منهم ـ.. ومن هنا ندرك: لماذا يرفع عدد كبير من عقلاء اليهود في العالم أصواتهم بنقد خطايا الصهيونية.. ومن هؤلاء من يعتقد بيقين أن إسرائيل الصهيونية ستجر كارثة عظمى على يهود العالم جميعا. ولهذا السبب يطالبون اليهود المعتدلين بالبراءة المبكرة من أفعال الصهيونية المدمرة.. ومن هؤلاء المفكر اليهودي إسرائيل شاحاك فقد قال ـ بوضوح ـ: ((إن إسرائيل كدولة يهودية تشكل خطرا ليس على نفسها وسكانها فحسب، بل على اليهود كافة في العالم، وعلى الدول والشعوب الأخرى في الشرق الأوسط وما وراءه))
إن من سوء التفكير، وسوء التقدير، وسوء الحساب: التقليل مما تمثله إسرائيل وقادتها المتطرفون من مخاطر على أمن الإقليم والعالم.. ودوما تتأتى الكوارث المباغتة من سوء التقدير، أو من (الاستيعاب الناقص) للمخاطر.
إما أمن العالم كله.. وإما أمن إسرائيل.. هذه مقابلة حادة جدا، ومع ذلك فإن منطق الصهيونية يقول: بل أمن إسرائيل، وليذهب أمن العالم إلى الجحيم!!
أما المنطق الصحيح العادل العاقل فهو: أمن العالم هو الأهم، ومع ذلك، فإن هذا الأمن يتسع لإسرائيل عاقلة غير إرهابية وغير مستعلية وغير عنصرية، فإن عجزت عن هذا السلوك، فإنها تكون قد سعت إلى تعمد تناقض مع أمن العالم وعندئذ يكون أمن العالم أولا وأخيرا: أمن العالم المجرد من المجانين الذين احترفوا تقويضه واغتياله.
ومن ألاعيبهم الجديدة:اقتراح دولة مؤقتة للفلسطينيين!!.. ولقد رفضت السلطة الفلسطينية هذه اللعبة الملهاة الجديدة، لأنها تدرك أنها مجرد ملهاة عن السلام الحقيقي.. ملهاة مؤقتة ((!!!)) تصرف النظر عن التصعيد الاستيطاني المجنون في الضفة، وفي القدس، في ضوء تصريحات رسمية بأن الاستيطان في القدس الشرقية يدخل في صميم السيادة الإسرائيلية على القدس كلها!!
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=545148&issueno=11316