فؤاد زكريا لـ «الشرق الأوسط»:
العقول لا يعاد تشكيلها بقرار فوقي أو خطة طويلة المدى
المفكر العربي: خضت معاركي دفاعا عن قناعاتي الفكرية وكشفا لمواقف وتيارات معينة
إيهاب الملاح
الشرق الأوسط : 18/2/2010 .
...................................
من تحت عباءة المرض، ومكابدات السنين خص المفكر المصري الدكتور فؤاد زكريا (83 عاما) «الشرق الأوسط» بهذا الحوار، الذي كشف فيه عن مناطق السلب والعتمة في مسيرة العقل العربي، مؤكدا أن العقول لا تتغير من فراغ، وأن العقل العربي في ظل ظروفه الآنية يظل في حاجة إلى تأمل ذاته ومراجعة أوضاعه وأحواله تأملا نقديا جادا وشاملا، وأن ينطلق من فكر فلسفي عقلاني نقدي يعتمد فعل المساءلة والمراجعة في كل ما نتعرض له من مشكلات أو بحوث.
بمنزله حيث حاورته «الشرق الأوسط» بضاحية مدينة نصر (شرق القاهرة)، وفي صحبة الموسيقى الكلاسيكية الهادئة ومكتبته الضخمة المكتظة بالكتب والموسوعات، جدد فؤاد زكريا إيمانه الجازم بسلطة العقل في كل القضايا والمسائل التي يتناولها، «وإن صدمت جموع الناس وجلبت لصاحبها سخط الساخطين وغضب الغاضبين»، مشددا على ضرورة التحرر من قيود الضرورة واستيعاب القوانين الطبيعية والاجتماعية في آفاق أرحب من الإبداع والفكر. وهنا نص الحوار:
* نبدأ بالمشاريع العربية الفكرية التي حاولت أن تشخص أزمات الفكر العربي وتطرح رؤى من زوايا مختلفة ومناهج متنوعة لمعالجة أزمات وقضايا الواقع العربي والفكر العربي والثقافة العربية.. مثل مشروعات محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون وطيب تيزيني وغيرهم.. ما رأيك في هذه المشاريع وهل شكلت في مجملها مشروعا فكريا كبيرا له ملامح محددة؟
- بداية أنا لا أحب استخدام كلمة «مشاريع» فكرية لأنها تضخم محاولات عادية للتفكير في مسائل محددة، وهي كلمة فيها تعميم وتضخيم لا أحبهما ولا أميل إلى استخدامها أكثر من اللازم لما قام به هؤلاء الأشخاص الذين ذكرتهم في سؤالك، وغيرهم ممن قاموا بمحاولات للتفكير في أوضاع الواقع العربي والبحث عن جذور أزماته ومشكلاته، لكنهم لم ينجحوا في تكوين تيار فكري عربي محدد المعالم والقسمات، يمكن أن يكون له صدى واسع في إحداث حركة تحرير اجتماعي واستنارة فكرية حقيقية، لم تنجح هذه الجهود في إيجاد تيار فكري تنويري يماثل ما قام به المفكرون والفلاسفة الفرنسيون أو من يطلق عليهم «الموسوعيون» في القرن الثامن عشر قبل الثورة الفرنسية، أو أدباء روسيا ومفكروها في القرن التاسع عشر قبل الثورة الروسية.
وعموما وكما بدا لي سابقا، فإن كل دارس أو مهتم بالعقل العربي وقضاياه وإشكالياته المتعددة يجب عليه أن يبدأ بما سبقه من محاولات وجهود قام بها الآخرون السابقون عليه، وأن يكون واعيا ومدركا لأهم ما في هذه الجهود حتى يستطيع أن يقوم بمعالجات جديدة لنفس القضايا والموضوعات التي تناولها غيره أو يضيف جديدا لم يسبق إليه، والعقل العربي في ظل ظروفه الآنية يظل في حاجة إلى تأمل ذاته ومراجعة أوضاعه وأحواله تأملا نقديا جادا وشاملا.
* يعاني العقل العربي من مشكلات مزمنة منها الانسياق وراء الوهم والخرافة والخلط بين ما هو علمي وغير علمي والبعد عن مواجهة الحقائق في طبيعتها المحايدة.. لماذا برأيك؟
- إن التحليل الدقيق للمشكلة هو أن استمرار أو سيادة نمط واحد محدد من أنماط التفكير أو شيوع التفكير اللاعقلاني وغياب المنطق وحضور الخرافة، كل هذا يؤدي في النهاية إلى تكريس وتثبيت الأوضاع الصعبة التي تعاني منها الشعوب العربية، وبقاء هذه الأوضاع حتى الآن يعني أن التفكير العلمي السليم ما زال بعيدا عن التغلغل في أذهان الناس وحياتهم العامة على كافة المستويات والطبقات.
العقول لا تتغير من فراغ، فلا معنى لدعوة تغيير طرق التفكير عند الناس أولا، ثم بعد ذلك تغيير الظروف والأوضاع، لأن الدعوة بهذا الشكل دعوة معكوسة، فالعقول لا يعاد تشكيلها بقرار فوقي أو خطة طويلة المدى، العقول لا تبدأ في التغير إلا بعد أن تتغير الأوضاع من حولها.
نحن ما زال لدينا أناس يدافعون ويروجون للشعوذة والسحر والدجل إلى يومنا هذا، ومنهم من يؤمنون بهذا وهم حاصلون على مستويات تعليمية عليا، وكل هذا نتيجة إحساس الإنسان بالعجز عن مواجهة أزماته ومشكلاته التي يواجهها.
* برأيك.. ما هي أهم مشكلة مزمنة يعانيها العقل العربي والثقافة العربية الآن؟
- أهم مشكلة بالطبع هي مشكلة الحرية، بمعنى ترك كامل الحرية للكتاب والمفكرين في أن يقولوا ما يعتقدونه وما يريدونه دون قيود مفروضة عليهم من أي نوع ودون فرض تحريمات أو قيود عليهم في أهم الميادين التي يرتادونها أو المجالات المعرفية والفكرية التي يعالجونها ويدرسونها،وكافة المجالات المطروقة للدراسة والتفكير.
* كان لك مجهود كبير وبارز في إعمال التفكير النقدي والقيام بفعل المساءلة النقدية في كل ما ألفت من كتب أو كتبت من مقالات أو ألقيت من محاضرات.. هل ترى أننا نفتقد الآن إلى فعل النقد والمساءلة في ثقافتنا المعاصرة؟
- الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بالإجابة عن السؤال السابق، لأن فعل النقد والمساءلة لا يمارس الآن كما ينبغي ولا يقوم بالدور الفاعل واللازم له بسبب القيود الموضوعة على حرية المفكرين والكتاب.
* تصاعدت الدعوات إلى تجديد الخطاب الديني بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وتغيرت صورة الإسلام والمسلمين لدى الآخر الغربي تغيرا شديدا للأسوأ. ما رأيك.. ما تحليلك لهذه المسألة؟
- أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كانت لها علاقة بالإرهاب المباشر ولا صلة لها من قريب أو بعيد بتجديد الدين أو تجديد الخطاب الديني كما زعم الزاعمون. الخطاب الديني كان جهده مركزا خلال هذه الفترة على الفصل بين الإسلام والإرهاب.
* والمحاولات التي قدمت للدفاع عن الإسلام وتقديم الصورة الصحيحة له في الغرب.. هل كانت ناجحة بالقدر الذي يمكن أن يغير من النظرة المرتابة لكل ما هو مسلم في المجتمعات الغربية؟
- أنا أعتقد أنه لم يكن لها نصيب كبير من النجاح، لسبب واحد وهو أن كل هذه الأعمال الإرهابية التي كانت تحدث، كانت تتقنع وتتحدث باسم الإسلام، دون أن يكون هناك ما ينفي أن هذه الأعمال بعيدة أو غير مرتبطة بالإسلام. وفي نفس الوقت لم يحاول بعض المسؤولين ورجال الدين المسلمين القيام بما يتحتم عليهم القيام به من كشف وفضح زيف وادعاءات هذا الفريق من المسلمين الذين يقومون بأعمال إرهابية باسم الإسلام، وأن يعلنوا تبرؤهم من هذه الأعمال ومن مزاعم وأكاذيب هؤلاء المدعين المحتكرين التحدث باسم الإسلام. وأن يكون هذا الإعلان إعلانا صريحا وواضحا في رفضهم وإدانتهم لهذا الفريق.
* إذن هناك اتهام صريح ومباشر بعض القائمين على أمر الإسلام من علمائه ومفكريه بالتقصير الشديد في التصدي لمن يزعم أنه يتحدث باسم الإسلام ويحتكر كل شيء باسمه؟
- نعم، وبيني وبينك، أنا سأذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، وأقول إنه كان يجب الإعلان صراحة عدم انتساب هؤلاء الإرهابيين والمخربين إلى الإسلام، وأن الإسلام منهم ومن أعمالهم وإرهابهم براء. لأن الذين يسيئون للإسلام بهذه الطريقة وفي العالم كله ويتبجحون بالقول إنهم يخدمون الإسلام ويعلون من شأنه، هؤلاء هم من يجب إخراجهم من زمرة الإسلام والمسلمين.
* معنى هذا أنك تأخذ على المثقفين والعلماء والمفكرين المتنورين عدم الحسم الفكري والعقلي في التعامل مع من يمارسون الإرهاب باسم الإسلام في حين يمارس بعضهم عنفا فكريا ضد المخالفين في المنهج أو الرأي حول تفسيرات وتأويلات للنصوص الدينية في إطار الإسلام؟
- نعم، ويكفي أن أشير إلى نموذج الدكتور نصر أبو زيد الذي تعرض إلى الخروج من الجامعة، وتعرض إلى محنته المعروفة، وصدرت ضده أحكام قضائية بالتفريق بينه وبين زوجته.
وأنا أتصور أن الطروحات والأفكار التي قدمها الدكتور نصر أبو زيد لم تكن بالخطورة التي صُورت بها إعلاميا والتي تستلزم كل ما مورس ضدها وضده من قمع وإقصاء وإبعاد، إلى أن اقتضى الأمر أن يترك مصر ويعيش في هولندا.. كان من الممكن جدا استيعابها واحتواؤه دون إلحاق أي ضرر أو أذى بالرجل لو كنا نفهم حق الفهم معنى وقيمة «الحرية الفكرية».
* المناظرة الفكرية التي دارت حول «الإسلام والعلمانية» التي عقدت بدار الحكمة بنقابة الأطباء المصريين.. هذه المناظرة التاريخية لم يشهدها الكثيرون في عموم وأرجاء العالم العربي.. ولم تسجل إلا من طرف واحد فقط.. فلماذا لا تقوم بتسجيلها وتدوينها حسب معطياتها ونتائجها من وجهة نظرك؟
- للأسف الشديد، لم أستطع القيام بتدوين هذه المناظرة كما جرت أحداثها، لأن التسجيل الذي كنت أحتفظ به، استعاره أحد الأشخاص مني ولم يقم بإعادته إليّ ثانية، فلم أتمكن بالتالي من تدوينها وكتابتها، وحاولت بعد ذلك أن أحصل على نسخة من هذا التسجيل لكنني لم أنجح في ذلك.
وأنا أعتقد أن ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي عن هذه المناظرة كان به تشويه كبير لما حدث فيها، لكي يظهر نفسه ويعلن أنه هو المنتصر في هذه المناظرة، ويظهرني على أنني كنت متهافتا.. وما حدث في تلك المناظرة كان عكس ما تم الترويج له تماما، أنا أعتقد أنني استطعت الدفاع عن العلمانية والتنوير في تلك المناظرة بطريقة سببت الحرج الشديد لمناظري الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي.
* عمل الدكتور فؤاد زكريا بالكثير من الجامعات المصرية والعربية وتخرج على يديه الكثيرون من الطلاب والتلاميذ.. مَن مِن هؤلاء التلاميذ يعده الدكتور فؤاد زكريا امتدادا لنهجه الفكري وحامل لواء العقلانية النقدية التي تزعمها؟
- الوحيد الذي يمكنني أن أعتبره تلميذا بالمعنى المباشر لكلمة تلميذ وأنه الوحيد الذي كان قادرا على استكمال الاتجاه النقدي الذي كنت بدأته، هو الراحل الدكتور محمود رجب أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، أما التلاميذ الآخرون فلم يرتفعوا إلى مصاف هذا المستوى الذي بلغه المرحوم الدكتور محمود رجب.
* هل تنظر الآن بعين الرضا لمعاركك الفكرية والنقدية التي خضتها؟ ولو عاد بك الزمن، هل سيكون لك رأي آخر؟
- أنا أرى أنني خضت معاركي دفاعا عن قناعاتي الفكرية وكشفا لمواقف وتيارات معينة، وسأحاول أن أضرب لك مثلا بسيطا موضحا، ويلخص الإجابة عن سؤالك، كنت قد كتبت مقالا عقب حرب السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 وكان بعنوان «معركتنا.. والتفكير اللاعقلي»، وبعد أن نشرت هذا المقال البسيط في جريدة «الأهرام» المصرية، هوجمت هجوما شديدا وعنيفا في كل مكان وفي معظم وسائل الإعلام المصرية في ذلك الحين، حتى وصل الأمر أنني لعنت على منابر المساجد لأني حاولت تفنيد الزعم القائل بأن الملائكة نزلت وساعدت الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973، وقلت آنذاك إنه من الظلم البين أن ننسب الانتصار العسكري الوحيد الذي أحرزناه في العصر الحديث على الأعداء إلى الملائكة، وننكر الجهد الشاق الذي بذلته القوات المسلحة في التدريب والإعداد والاستعداد الشاق، كما أننا بذلك نغفل جهود كل من خطط وجهز وأعد ودرب واستعد لهذه الحرب، وكأنني قد «جاهرت بكفري» عندما أعلنت رأيي هذا!
أما ما أطلق عليه معركة بيني وبين الداعية الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي فلم تكن معركة بالمعنى المفهوم، إنما كانت في حقيقة الأمر تعليقا نقديا على أحد مقالاته أو على رأي من آرائه التي أعلنها في مناسبة ما، وهو لم يقُم بالرد على ما علقت ولهذا فهي لا تعد معركة بالمعنى المفهوم.
* ومعركتك التي خضتها مع الكاتب محمد حسنين هيكل ردا على كتابه «خريف الغضب» وحملت نقدا ضمنيا وعنيفا للناصرية؟
- هي كانت أهم معركة إذا جاز التعبير، لأنها كانت ضد محمد حسنين هيكل ردا عليه في كتابه «خريف الغضب»، وبالطبع فنقدي لهيكل نقد ضمني وتقييم لمرحلة الرئيس جمال عبد الناصر والتجربة الناصرية في مجملها، وأنا كنت كعادتي دائما أريد أن أعبر عن رأيي الخاص، وليس مساندة أي حاكم ضد حاكم آخر، وبالنسبة لمحمد حسنين هيكل فأنا هاجمته وكشفت عن ما حاول هو أن يخفيه عن نفسه بشكل واضح يستطيع القارئ أن يستنتجه بسهولة من القراءة الفاحصة لردي عليه في كتاب «كم عمر الغضب»، وهو ما زلت على قناعة به إلى الآن، لدرجة أنه كان في زيارة إلى الكويت وقام أحد معدي البرامج بالتلفزيون الكويتي هناك بدعوته لمواجهتي في مناظرة علنية لكنه تجنب هذا اللقاء وتلك المناظرة.