قمة السقيفة قراءة مخالفة
سيد القمني
الحوار المتمدن - العدد: 2984 - 2010 / 4 / 23
......................
لعل أهم السمات الفارقة للعربي البدوي ، هو الاعتزاز القدسي بالنسب القبلي ، حتى أنهم لم يعرفوا أن هناك علماً أرقى و لا أهم من علم الأنساب ، و كان لديهم متخصصون يرفعون النسب إلى الجد التاسع و العاشر ، عارفون بأقدار الناس ما بين النسب الرفيع و النسب الوضيع . و يرتفع النسب و ينخفض بحسب عدد أفراد القبيلة ، و القدرة القتالية للقبيلة .
عيينه بن حصن الفزاري مثلاً لم يكن بمقاييس الرجال أكثر من أحمق جهول ، و مع ذلك حسبت له العرب ألف حساب ، حتى نبي الإسلام تعامل معه على كفره وفق هذا المعنى ، و كان يلقبه بالأحمق الطماع المطاع ، لأن بإمكانه تجييش عشرة آلاف فارس في لحظة . و من ثم كان تفاوت الأنساب و التفاخر بالنسب إن صدقاً أو كذباً مدعاة لسيادة قاعدة عدم المساواة بين الناس كمفهوم أصيل لدى العرب ، ووضعوا لعدم المساواة بين الناس علماً يصنفهم درجات و طبقات ، هو علم الأنساب .
و من ثم فإن عدم المساواة بين أقدار الناس أصيل في البنية التكوينية لطبيعة المجتمع البدوي ، الذي يرى أن عدم المساواة هو طبيعة الأشياء و نظام الكون ، و أن تراتب الخلق في منازل و رتب و درجات قدر حتمي ، و لأنه يتعلق بعدم المساواة في الرزق الذي لا حيلة فيه لإنسان ، فهو إلهي محتوم .
و نجد هذه القاعدة البدوية في التفرقة بين بني آدم هو أساس و محور النقاش في سقيفة بني ساعدة ، عندما تنافس الأنصار و المهاجرون حول أحقية كل منهما في رئاسة العرب بعد وفاة الرسول و اكتمال الرسالة الإسلامية . و تمكن المهاجرون القرشيون من حيازة الأفضلية للرئاسة فأصبحوا من بعد هم الحاكمين ، و هم من كُتب التراث الإسلامي تحت ظلهم و بتوجيه منهم . و قد حازوا تلك الأفضلية بالقرابة القبلية العشائرية من نسب النبي ، فهم ذوي قرابته و من دمه و رحمه . و أفضلية أخرى إضافية هي السابقة في الإسلام ، و هي قيمة غير مفهومة في معايير زماننا ، لأن الأسبقية في الإسلام لا يجب بموازين عدل اليوم أن تفضل طرفاً على طرف تأخر إسلامه ، لأن المعنى سيكون أنه كان مطلوباً من العالم كله و في لحظة واحدة أن يعلن إسلامه وقتما أعلن النبي نبوته ، حتى تكون هناك مساواة ، و سواء بلغته الدعوة فوراً أو جاءته متأخرة . فالسابقة في الإيمان هنا لا يمكن فهمها إلا في ضوء حياة الغزو القبلي ، القائمة على القدرة القتالية و الانتصار بأي أسلوب ممكن ، كالخطف حيث يكون الخاطف صاحب حق في المخطوف بمجرد خطفه ، إن السابقة هنا تعني في المفهوم البدوي أنه قد سبق إلى الخطفة فأصبحت له ، و هي قاعدة بدوية يفهمها كل البدو ، و يرونها حقاً منطقياً طبيعياً لا غبار أخلاقي عليه بالمرة ، و لعل قوله عمر بعد فوز أبي بكر بالخلافة : " إن خلافة أبي بكر كانت فلتة و قانا الله شرها " تعبير واضح عن تلك الفلتة أو الخطفة .
في السقيفة سنرى أول استثمار انتهازي للدين من أجل مكاسب دنيوية بحت ، و كان أول المستثمرين هم صحابة النبي المقربين ، و هم من فتح الباب لاستثمار دين الله لأهداف دنيوية بحت ، و ذلك بحسبانهم من قال عنهم النبي : " أصحابي كالنجوم ؛ بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
و من ثم كانت قدسية الصحابة رصيداً قدسياً آخر ، فتم إلباسهم قداسة الدين الذي تم استثماره في صراع أهل القمة في السقيفة .
و قد أثمر هذا الاستخدام الانتهازي للدين و لقداسة الصحابة عن تقسيم للمجتمع المسلم إلى قسمين : قسم له شرف الحكم ، و قسم آخر تم تشريفه بكونه رعيه للحكام المقدسين ، و عليه واجب الطاعة و المساعدة و لا حق له في الحكم ، و ذلك تأسيساً على حديث أبي بكر عن النبي الذي حسم به الأمر : إن " الخلافة في قريش " . و ما كان ممكناً تكذيب أبا بكر و هو الصديق في هذا الحديث الذي لم يسمعه من النبي سوى أبو بكر وحده ، بل و ترتب على هذا الحديث أن جعل الحكم وراثياً في قريش وحدها دون بقية العرب ، و تمت به مصادرة مدينة يثرب من أهلها الأنصار و خلوصها فيئاً للمهاجرين دون حرب و لا فتح ، بقرار ديني احتفظ به أبو بكر سراً حتى حان أوانه ففشى به .
الملحوظة الثانية التي لا تقل أهمية فيما دار بالسقيفة هو أن طرفي الصراع كانا يتحدثان بحسبان الرسالة المحمدية موجهة للعرب وحدهم دون الناس ، في خطبة أبي بكر سيتذكر مع الناس ما مضى ، و كيف جاء النبي بدعوته ، و كيف " عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم / الطبري / 11 / 19 " . فهو يوضح هنا أن الرسالة كانت موجهة للعرب وحدهم ، و لم يرد في خطبته على طولها و تعدد محاورها ما يشير لغير العرب من فرس أو روم أو غيرهم من قريب و لا بعيد .
المعنى ذاته تؤكده خطبة سعد بن عبادة الأنصاري ، الذي قام بالسقيفة يعرض حجج الأنصار في الأحقية و الأفضلية للحكم ، موجهاً خطابه لأهله الأنصار و كيف استضافوا الدعوة و حموها و خرجوا بها خارج حدود يثرب في ظل سيوفهم و رماحهم ، " حتى استقامت العرب بسيوفنا لأمر الله طوعاً و كرهاً ، و أعطى البعيد المقادة صاغراً داحراً ، و حتى أثخن الله لرسوله بكم الأرض ، و دانت بأسيافكم له العرب " . . و هكذا تكون الرسالة قد اكتملت بسواعد الأنصار و ذلك في خاتمة سعد . . " و توفاه الله و هو راض عنكم ، و بكم قرير العين " .
هنا أيضاً كان العرب هم هدف الرسالة التي بلغتهم تامة كاملة ، و ليس مقصد الرسالة حسب فهم الصحابة هنا هو العالم ، و عندما كانوا يتحدثون عن الأرض كانوا لا يقصدون بها العالم ، إنما أرض العرب بالذات ، " حتى أتخن الله لرسوله بكم الأرض ، و دانت بأسيافكم له العرب " . فالأرض المقصودة ها هي الأرض التي دانت عربها لأسياف الأنصار .
هنا اختلاف شديد في المفاهيم ما بين دلالتها عند عربي زمن الدعوة و ما بين دلالتها اليوم ، و هو الأمر الذي تهدف هذه الدراسة إلى التنبيه إليه ، حتى يمكن أن نقرأ نصوص ذلك الزمان بدلالات مفاهيم زمنهم لا مفاهيم زماننا اليوم .
أبو بكر يدعم موقف المهاجرين المطالب بالحكم و السلطان فيقول عنهم : " فهم أول من عبد الله في الأرض و آمن بالله و رسوله ، و هم أولياؤه و عشيرته ، و هم أحق الناس بهذا الأمر من بعده ، و لا ينازعهم ذلك إلا ظالم ، و أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين و لا سابقتهم العظيمة " .
و يلفت الانتباه بشدة قول الصحابي الكبير " فهم أول من عبد الله في الأرض " ، فلا شك أنه كان على علم بالنبوات السابقة في بقاع الأرض تكون الأرض و إمارتها ميراثاً و ليس دولة تُدار بأساليب إدارة الدول كما في بقية الدول المجاورة .حول جزيرة العرب ، لذلك عندما يقول الأرض فإنما هو يعني أرض الجزيرة تحديداً التي فيها كان المهاجرين أول من عبد الله حق عبادته و آمن بالله و رسوله ، و يظل المفهوم من كلمة الأرض أرض العرب وحدها .
أما السبب الجوهري في أحقية المهاجرين بالرئاسة أو بالأمر فهو أنهم أولياء النبي و عشيرته و أهل نسبه القبلي . لذلك " هم أحق الناس بهذا الأمر من بعده " . المسأله إذن كانت ميراثاً قبلياً و ليست شأن الدين و الإسلام ، ليس فيها أسباباً كالكفاءة أو مصلحة الرعية أو رأي هؤلاء الرعية ، فهذا كله ليس سبيلاً إلى ( الأمر ) أو الرئاسة ، إنما السبيل هو القرابة و العصبية و النسب ، و من ثم
هنا لا تجد بالمرة تعبير ( دولة ) ، فالعرب لا تعرف من دلالة دولة سوى التداول بتغير الأزمان ، و تلك الأيام نداولها بين الناس ، إنما كانوا يعرفون ( الرئاسة ) أي الحكم بمفاهيمنا و لكن بمصطلح ( الأمر ) ، لأن الرئيس هو من يأمر فيطاع ، فهو الآمر ، و ماهية منصبه هي ( الأمر ) و منها الأمير ، لذلك لم يعرف العربي معنى الدولة و الحكومة كما نعرفه بدلالة أيامنا ، إنما فقط يعرف الآمر و المأمور ، ما يعرفه هو الأمر و الأمير و الآمر بلا منازع و لا معارض و لا شريك . الأهم و تأسيساً على المعاني الفطرية الأصيلة عند العربي في عدم المساواة بين الناس ، هو أن أبا بكر كان يرى أن الله لم يساوي بين المهاجرين و الأنصار ، و أن للمهاجرين أفضليتين واضحتين فضلهمم الله بهما على الأنصار و خص بهما المهاجرين ، الأفضلية الأولى سابقتهم في الإسلام ، و الثانية قرابتهم و نسبهم القبلي للنبي ، و إلا لماذا لم يختر نبيه من بين الأنصار ؟ ، لماذا ظهر في مكة و لم يظهر في يثرب ؟ حجة بدورها قبلية تقوم على منطق قبلي عشائري قُح .
أما قوله : " لا ينازعهم ذلك إلا ظالم " ، فهو ما يعني بوضوح فصيح أنه حتى بعد اكتمال الدين تحت سمع و بصر الصحابة ، فإن من بين الصحابة من عجز عن إدراك العدل ، و ظهر من بينهم من هو ظالم لايرى العدل عندما يكون ماثلاً أمام عينيه ، و هذا العدل ليس هو الوفاء للأنصار بما قدموا : إنما هو حق قريش في الحكم ، و هذا الحق له أصول قبلية راسخة ، و عليه فإن دلالة مفهوم العدل زمنهم تختلف بدورها عن فهمنا لها اليوم ، فحق قريش بعيون اليوم سيكون غير مفهوم بالمرة ، مقابل ما قدم الأنصار من بذل و عطاء و فداء .
في قمة السقيفة حدثت تحولات و انقلابات أدت إلى تغير خط سير التاريخ ، فبعد ريادة يثرب ، و بعد ما كان الأنصار وقود الانتصارات الإسلامية المتتالية ، أسفر اجتماع السقيفة عن نتائج أعادت إلقاء الأمر كله بيد قريش مرة أخرى ، لتستمر قائدة للعرب بشكل شرعي ، بعدما كانت سيادتها زمن الجاهلية سيادة عرفية غير ملزمة و دون اعتراف قبلي علني بهذه القيادة ، لقد دق اجتماع السقيفة قريشا وتداً في جسم الزمن و الجغرافيا لتحكم بشريعة القرابة للنبي و دينه معاً ، بالانتساب للدين رغم أنه حق مشاع لا يصح إليه انتساباً دون انتساب ، لقد تم تأميم الإسلام و تشخيصه في شخص محمد ، و من القرابة لمحمد تمت وراثة الدين و الدنيا معاً في منظومة واحدة يعرفها العلم الحديث باسم منظومة الاستبداد الشرقي .
و النظرة الأكثر فحصاً و تدقيقاً لابد أن تصل إلى أن قمة السقيفة لم تغير خط سير التاريخ ، إنما هي أعادت هذا الخط إلى مساره الطبيعي الذي سبق و صنعته ظروف البيئة و ظروف السياسة العالمية ، عندما أصبحت مكة بقيادتها القرشية أهم محطة تجارية مالية ، نتيجة للحرب بين الفرس و الروم ، عندما لم يعد في العالم طريقاً آمناً للتجارة سوى الطريق الصحراوي القادم من اليمين في رحلة الشتاء ميمماً نحو الشمال حيث عالم الإمبراطوريات في رحلة الصيف . و ما كانت يثرب في ذلك إلا حلقة في السلسلة الكبرى التي تم استخدامها في انحرافة تاريخية لضرب تجارة مكة ، و قيام يثرب بغزواتها الإسلامية على الطريق التجاري و حصاره اقتصادياً لإخضاع مكة للسيادة الإسلامية ، و ما حدث في السقيفة إذن هو عودة الاعتدال لخط سير التاريخ نحو نتائجه المنطقية ، فكان أن أصبحت يثرب نفسها مقراً لأول حكومة قرشية عربية بالمعنى الواسع لفيدرالية قبلية موسعة في جزيرة العرب .
فماذا أبقت السقيفة للأنصار ؟
في خطابه بالسقيفة يتوجه أبو بكر للأنصار قائلاً : " نحن المهاجرون و أنتم الأنصار ، إخواننا في الدين ، و شركاؤنا في الفئ ، و أنصارنا على العدو " .
هنا تبدو حكمة أبي بكر و حنكته في توجيه الاهتمام لما يحب العربي و يهوى ، نحو الحروب و السبي و الفئ و الغنائم ، مع تضمين التوجيه نحو الفتوحات طمأنه للأنصار على حفظ حقوقهم المالية في الفيئ ، إنه الإشارة الهامة التي تهدئ الروع و تطمئن الفؤاد ، و لا شئ هنا عن واجب الصحابة في نشر الدعوة الإسلامية ، كل الحديث عن فئ مضمون لأصحابه / الطبري 11 / 220 / هيكل / حياة محمد / ص 403 " و العدو المقصود هنا هو غير المسلم ، فمجرد وجوده هو عدوان على المسلم يجب رده ، و غير المسلم العدو سيكون هو محل تفعيل الحلف القديم " أنصارنا على العدو " و هو مصدر الفيئ الذي سيكون منه نصيب " لشركائنا في الفيئ " .
و لا يفوت الصديق أن يقدم للأنصار التقدير و الثناء فيقول لهم : " و أنتم معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين و لا سابقتهم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصاراً لدينه و رسوله ، و جعل إليكم الهجرة ، و فيكم جلة أزواجه و أصحابه ، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم ، فنحن الأمراء و أنتم الوزراء ، لا تُفتاتون بمشورة ، و لا تُقضى دونكم الأمور " .
في عالم العرب كانت اللغة قادرة فعالة ، قوم فخرهم اللغة ، فخرهم أنهم يتكلمون ، و لقبوا غيرهم بالعجم و لقبوا الحيوانات بالعجماوات أي التي لا تُفصح فصاحة العرب بكلام مفهوم للعرب !! وأن من يتكلمون لغات أخرى إنما يصدرون مجرد أصوات كبقية الحيوانات العجماوات ، و هذه الفصاحة قامت بتحويل تضحيات الأنصار العظمى و إيوائهم النبي و المهاجرين و محاربة العرب من أجله ، حولتها إلى منّة من الله لينصر بهم دينه ، فليس لهم أي فضل على الدعوة ، لأن الحقيقة أن الفضل هو على الأنصار و ليس لهم ، و يكفيهم أنهم كانوا المختارين إلهياً للقيام بهذه المهمة وحدها ، لذلك مّن الله عليهم بهذا الفضل ، فشرفهم بذلك و كرمهم ، و رغم هذا التكريم الإلهي فلا يزالون أمام القانون القبلي في الدرجة الأدنى ، فهم بعد المهاجرين ، لذلك فالعدل يفرض الأمراء ( الآمرين ) من قريش ،و الوزراء من الأنصار .
و القارئ المدقق لتفاصيل قمة السقيفة سيرى أول الملحوظات البارزة ، و هي العادة العربية الجاهلية في التفاخر بالنسب و عدد أفراد القبيلة و قوتها و منعتها ، و درجة القرابة من الرسول ، و التعامل مع الأمر باعتباره ميراثاً ، دون إي إشارة تفيد بمعرفتهم لمبادئ الحقوق و الواجبات سواء كانت تلك المتعلقة بالمحاكم أو بالرعية ، و عدم المعرفة هو التفسير الوحيد لعدم تعرض أياً من الطرفين لها في المنافسة التي دارت بالسقيفة و سجلتها لنا كتب السير الإسلامية بكل دقة . أما الملحوظة النافرة الناتئة تكاد تعمي البصر ، هو أن أحد الفريقين لم يتعرض لما سيحرص عليه من أجل نشر الإسلام و تثبيته كهدف رئيسي . لقد تركوا جثمان نبيهم لأهله الهاشميين يغسلونه و يكفنونه و يلحدونه ، و راحوا إلى السقيفة يتصارعون على الإمارة ، و لم يحضر الدين إلا لدعم كل طرف على الآخر ، أما هو في ذاته فلم يكن هدفاً واضحاً في هذا الاجتماع التاريخي الفاصل .
لذلك لم يقبل الأنصار أن يكونوا الوزراء و قريش الأمراء ، فتقدموا باقتراح آخر هو : " منا أمير و منكم أمير " فكان رد عمر بن الخطاب الحاسم الحازم : " هيهات ، لا يجتمع إثنان في قرن ، و الله لا ترضى العرب أن يؤمروكم و نبيها من غيركم ، و لكن العرب لا تمتنع أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم و ولي أمورهم منهم ، و لنا بذلك على من أبي من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين ، من ذا ينازعنا سلطان محمد و إمارته و نحن أولياؤه و عشيرته ، إلا مُدل بباطل ، أو مُتجانف لإثم و متورط في هُلكه " .
يقدم عمر هنا القانون العربي ، سيرفض العرب أن يحكمهم أحد من خارج القرابة النبوية ، و هو القانون الذي يرى أن محمداً كان صاحب سلطان و إمارة ، و أن هذا السلطان و تلك الإمارة هما ميراث لأهله و عشيرته دون غيرهم .
الطريف أن الهاشميين الذين قاطعوا السقيفة و البيعة ، قال زعيمهم على بن أبي طالب فاضحاً الموقف كله : " لقد احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة " ، أي أن المهاجرين القرشيين من غير بني هاشم احتجوا لللإمارة بكونهم شجرة النبي ، بينما الحجة مردوده عليهم ، لأنه وفق هذا المنطق كان الأحق بالإمارة هو علي بن أبي طالب ، فهو الثمرة على تلك الشجرة . أما الأنصار فلا نالوا إمارة و لا حتى وزارة كما وعد أبو بكر .
إن قول الأنصار : " منا أمير و منكم أمير " يعني معرفة العرب الإمارة بمعنى الرئاسة ، لكن أبو بكر تخير لنفسه لقب " خليفة رسول الله " ، و رفض لقب الإمارة ، لأنه أراد أن يطمئن الأنصار بعدم رغبة المهاجرين في التأمر عليهم ورئاستهم ، و أن الأوضاع كما كانت عليه لم تتغير بوفاة النبي ( ص ) لأن القائم مقامه هو خليفته ، و إذا كان الأنصار قد ناصروا النبي ( ص ) و آووه و أيدوه حتى أظهر الله أمره و نشر دينه بين العرب ، فعليهم الاستمرار على نفس العهد مع خليفته إخلاصاً للنبي و لدينه ، و أن يؤدوا لخليفة النبي ( ص) ما كانوا يؤدونه للنبي ، هذا ناهيك عن اكتساب الخليفة قدسية النبي و الدين بخلافة النبي في الدنيا و الدين .
من جانب آخر كان اختيار لقب خليفة رسول الله ( ص ) إعلاناً عن مسئولية هذا الخليفة عن كل المسلمين و ليس المهاجرين وحدهم ، و هي طمأنة إضافية للأنصار . فوأد الفتنة و منع قيام صراع بين المهاجرين و الأنصار على إمارة مرفوضة ، و ليتمكن بسيوف الأنصار من استعادة المضارب الانفصالية و المرتدة . ثم أن لقب الخليفة أغنى من لقب الإمارة ، فالإمارة سلطة زمنية أو عسكرية ، أما الخلافة عن النبي فهي لقب يجمع إلى جانب الزعامة الدنيوية الزعامة الروحية أيضاً .
و عندما تولى عمر ( رض ) و أحب اختيار لقب ، فقالوا ليكن خليفة خليفة رسول الله ، فقال و الله إنه لشأن طويل ، و اختار لقب " أمير المؤمنين " بدلاً من " أمير العرب " أو " أمير الحجاز " ، و هو اختيار في وقته موفق إلى حد عظيم ، فهو ما يعني أنه ليس أميراً لفريق دون فريق ، فهو أمير كل المؤمنين ، و المقصود بالمؤمنين هنا هم أهل الجيل الأول من الدعوة مهاجرين و أنصارا و قوادا و عسكرا ، و هم من قام الدين الجديد على سواعدهم ، فكان لقب أمير المؤمنين طمأنة أنهم تحت الرعاية القصوى ، و أنهم الأولى برعاية الأمير ، هو أميرهم و هم المؤمنون .أمير المؤمنين تعني أنه لا يحكم على إمارة و لا على مملكة و لا على إمبراطورية و لا على دولة ، إنما إمارته هي للمؤمنين وحدهم بعوائدها الجزيلة الآتية جباية و خراجاً و جزية من غير المؤمنين ، و اتسعت رقعة البلاد المفتوحة و كان أغلب سكانها من غير المؤمنين ، و كان المؤمنون هم الأقلية الحاكمة ، لذلك جاء لقب أمير المؤمنين كعطاء عهد أمان للعرب النازحين من الجزيرة إلى البلدان المفتوحة ، فأميرهم الحاكم الأعلى لللإمبراطورية مسئول عن رعايتهم و عن مصالحهم دون غيرهم أينما كانوا ، فهم وحدهم رعية أمير المؤمنين ، و هو ما يفسر موقف الخليفة عمر عندما طلب الغوث زمن الرمادة من والي مصر عمرو بن العاص ، فعرض عليه إعادة حفر قناة سيزوستريس لإيصال المعونة ، لكن ذلك سيعني خراب مصر عدة سنوات ، فقال عمر قولته المشهورة : " إعمل فيها و عجل ، أخرب مصر في عمران مدينة رسول الله " ، لم يكن المصريون من رعية عمر، إنما هم مجلب الفئ للأمير ورعيتة ، و خراب مصر في عمار مدينة رسول الله هو قيمة عُليا عُمرية و قُربة منه إلى الله .
.....................................................
هذا هو عدل عمر .