"The constitutional freedom of religion [is] the most inalienable and sacred of all human rights." --Thomas Jefferson:
" إن الحرية الدستورية للأديان لا تقبل المساومة و هي أقدس حقوق الإنسان على الإطلاق ". توماس جيفرسون .
الزملاء المحترمون .
الأعزاء
ابن نجد
مواطن مصري .
تتملكني الحيرة من ردود بعض الزملاء ؛ الذين عندما يحاولون نقد النموذج التاريخي الذي قدمته للغزو الإسلامي يؤكدونه بقوة . هذا دفعني للتفكير عن السبب ؛ هل هم حقا لا يدركون أبعاد النموذج الذي قدمته ، و هل هو معقد إلى هذا الحد ؟. و لكني مع تقدم الشريط أصبحت أميل أن السبب كامن في السياق الحواري الذي اعتاده مرتادو الشبكة في مثل تلك القضايا ، هم لم يعتدوا مناقشة التاريخ الإسلامي كتاريخ وفقا لقوانين التاريخ و باستخدام أدواته ، بل هم يعيدون إنتاج الحوارات الدينية .. إزدواجية " مسلم ضد مسيحي " ،و ديني أفضل من دينك و هكذا .
نحن هنا أمام رأيان يدفعان لصالح تنزيه التاريخ الإسلامي و دعوة محمد النبي .
الأول : للزميل مواطن مصري ، و يرى أنه نظرآ لعالمية الدعوة الإسلامية ، لم يكن أمام النبي وسيلة لنشر عقيدته سوى إستخدام القوة فاستخدمها .
الثاني : للزميل ابن نجد ،و هو يرى أن العرب المسلمين لم يفعلوا سوى ما فعله غيرهم ، و أننا غير عادلين لأننا ننتقد العرب و لا ننتقد غيرهم من الغزاة .
أعتقد أني عرضت بوضوح و دقة الرأيين .أزيد أنهما يؤكدان ما أطرحه بكل حماس و بشكل لا يصدق .
ما هو إذا النموذج الذي أطرحه للغزو العربي الإسلامي ( للمرة .... ربما ) .
( إننا ندعوا إلى فهم الغزو البدوي لمصر و حضارات المنطقة في نسقه الطبيعي، فالتاريخ القديم يكاد يكون تكرارا لنفس النموذج . هذا النموذج مبني على فكرة أن معظم الحضارات القديمة قامت على قبائل تعيش حياة البداوة و التوحش ، ثم تتجمع تحت قيادة زعيم تاريخي قوي ، يقودها لغزو الحضارات المجاورة ، و الإحلال محلها ثم تبدأ تلك القبائل الغازية بالمرور بمراحل الحضارة ثم التحلل ، ليتم بعد ذلك غزوها بواسطة شعوب بربرية أخرى ،و هكذا تتكرر الرواية حتى ظهور الدولة الوطنية الحديثة . هناك نماذج عديدة لتلك الدورة منها ؛ غزو الهكسوس لمصر القديمة سنة 1789 ق.م.، غزو البابليين للدولة الآشورية بقيادة نبوبولاسر الميديني سنة 612 قبل الميلاد ،غزو قبائل الإخمينيين الفرس للحضارة البابلية بقيادة كورش الإخميني الفارسي سنة 539 ق.م ، غزو المغول بقيادة تيموجين (جنكيز خان) و خلفائه لإمبراطورية ضخمة في الفترة من 1206 حتى عام 1405 ، حكمت شعوبا تعدادها التقريبي 100 مليون نسمة ومساحة تقترب من ربع اليابسة الأرض !، غزو قبائل الهون بقيادة أتللا Attila ثم غزو القائد الألماني Odovacer للإمبراطورية الرومانية الغربية ، الغزو النورماندى لإنجلترا عام 1066,و هكذا . هذه الإمبراطورية التي صنعها خلفاء محمد سرعان ما سقطت غنيمة في يد الفرس ثم الأتراك بعد ذلك ، بينما توارى العرب في دهاليز الدولة التي صنعوها أو عادوا إلى معتزلهم الصحراوي . لا يختلف أحد أن التمدد العربي هو السبب الرئيس في إنتشار الإسلام ،و لكن هذا الإنتشار جاء في البداية بشكل عرضي تماما ، وفي أحيان كثيرة لم يكن مرحبا به ، و لكن في النهاية كان هذا الغزو هو الذي صنع الإمبراطورية الإسلامية ) .
أذهب إلى المبرر الذي يسوقه مواطن مصري للجوء المسلمين إلى العنف في نشر دينهم ،وهو ( عالمية الدعوة ) و عدم وسيلة أخرى لنشر العقيدة أراه مبررا تلفيقيا لتبرير العنف الجامح المنفلت ، ولا يصمد للمراجعة و التدقيق ، لهذا أريد أن أتوقف عند النقاط الاتية .
1- التأكيد على إنتشار الإسلام بالسيف كحقيقة تاريخية دامغة ، و التوقف عن ترديد خرافة الإنتشار السلمي للإسلام .
2- أنسنة التاريخ الإسلامي ،و رفع القداسة عنه ، فلا يعقل أن يكون الله عاجزآ عن إيجاد بديل أخلاقي و سلمي محترم لنشر دعوة تنسب للخالق مباشرة ، ولا يجد سوى العنف كوسيلة لنشر دينه الحق ، مثله في ذلك مثل أبأس الأفكار و أبعدها عن الحق ، و أنه ينتظر حتى العصر الحديث ليتعلم من الإنسان المعاصر كيف ينشر دينه بشكل سلمي .
3- من يقول أنه لا توجد وسيلة لنشر العقائد سوى العنف ، يتعارض مع نفسه كإنسان متحضر و أيضا كمنتسب مدعي لعقيدة ، فمن المفروض أن العنف يتعارض مع العقائد الدينية خاصة الراقي منها ، و من البديهي أن إنتشار عقيدة بالعنف يسلبها مصداقيتها .
4- أخطر ما يدحض هذا الرأي الشاذ هو أن إنتشار الإسلام بالسيف جاء كنكسة أخلاقية و فكرية ، لأنه كان استثناء في نشر العقائد الدينية الكبرى ، فالمسيحية و البوذية و الزرادشتية والكونفوشيوسية و الجانية و عقيدة الزن ، و غيرها من العقائد و المذاهب الكبرى انتشرت سلميا ، على النقيض من إنتشار الإسلام ، و كلها كانت سابقة أو متزامنة مع الإسلام ، أكثر من ذلك فالإسلام نفسه إنتشر سلميا في زمن متأخر و خلال التجار المسلمين في شرق آسيا !. أي أن اللجوء إلى القوة كان نقيصة أخلاقية ولا ضرورة لها .
5- الإعتذار عن العنف بالرغبة في نشر العقائد الدينية المقدسة ، أو المذاهب السياسية الفاضلة ، أو الحضارة الرائعة ، هو أسلوب نمطي تلجأ إليه كل القوى الشريرة في التاريخ لتبرير جرائمها . لجأ المستعمر الغربي ، لتبرير جرائمه الإستعمارية ، برغبته الخيرة في نشر الحضارة الغربية بين الهمج . لجأ النازيون لتبرير إقامة الرايخ الثالث بالقوة ، بتجميع الشعب الآري الممزق . لجأ ستالين لتبرير ضم أوروبا الشرقية بنشر الماركسية- اللينينية و مصالح الطبقة العاملة ، لجأ الأمريكان لتبرير غزو العراق ،بنشر الديمقراطية و تحرير الشعب العراقي . لجأ اليهود لتبرير جريمتهم في فلسطين ، بتنفيذ الوعد الإلهي لبني إسرائيل .
6- هناك أكذوبة أن الغزوات العربية كانت تهدف إلى نشر الإسلام ، و إلا فكيف نفسر أن هناك غزوات إسلامية عديدة لمصر حتى بعد أن تحولت إلى الإسلام !، غزاها العباسيون و الفاطميون و الأيوبيون و العثمانيون ، بينما كان الشعب مسلمآ ! ، هل كان استيلاء العثمانيون على البلاد الإسلامية لنشر الإسلام ؟!.
7- سلوك العرب في البلاد التي غزوها ،و التي تسعى إلى الإستعمار و السلب و النهب و ليس التحرير و نشر العقيدة .
أما عن الرأي الثاني .. أكرر أنني أريد أن نرى الغزو الإسلامي بشكل تاريخي عقلاني بعيدا عن الأيديولوجيا أو التحيزات السلبية ، إنني أقول ببساطة أن " القوانين التاريخية تعمل على العرب و المسلمين كما تعمل تماما على غيرهم من الشعوب ، بدون محاباة ولا تدخل من قوى غيبية " ، فهل قال ابن نجد شيئا مختلفا ؟، لا يشين العرب أبدآ أن يتجمعوا تحت قيادة محمد و خلفائه و أن يتغلبوا على القوى الكبرى التي استعبدتهم ، بل هذا مدعاة لفخرهم ،و لكن هذا كله تاريخ بشري و ليس دينا . لا يمكن أن نرتب نتائجا عقائدية على إنتصار العرب ثم إنكسارهم بعد ذلك !، يعني .. لا يمكن أن نرى إنتصار الغزو العربي إنتصارا إلهيا ، لأن ذلك يعني أن نرى انهزام العرب هزيمة إلهية أيضا !. حسنا أن يقارن ابن نجد بين غزو الإسكندر و غزو العرب ، لا أريد أكثر من ذلك ، أنسنة التاريخ الإسلامي و رفع القداسة المنتحلة عنه .
يبقى هناك فروق في النموذج التاريخي للغزو العربي و أعمال الغزو التي قامت بها الحضارات القديمة للحضارات المنافسة ، للإستيلاء على ممتلكاتها ، فالغزو الروماني لمصر زمن البطالسة أو الغزو الإغريقي للفرس ، يختلف في سياقه عن غزو العرب للفرس أو غزو المغول للصين ، النموذج الأول صراع الأكفاء ،و الثاني غزو الأقل حضارة للمتحضر . هذا بالطبع خلاف في السياق و ليس حكما أخلاقيا .
علينا أن نلاحظ أيضا الأثر المدمر للغزو العربي ، و الذي فاق أي تدمير حضاري آخر في الشرق الأوسط خلال التاريخ القديم و الوسيط ، باستثناء الغزو المغولي .
هناك تفصيل بسيط آخر ، فالمصريون لم يعبدوا الإسكندر ، بل على النقيض تماما فالإسكندر هو الذي هجر إلهه القديم و نسب نفسه إلى آمون إله المصريين ،و الأسكندر لم يحتل مصر بل حررها من الفرس في العام 332 ق.م ،و اعاد لها استقلالها حتى فقدتها مرة أخرى على يد الرومان في زمن كليوباترا ، عندما هزمها الإمبراطور أوكتافيوس في معركة "اكتروم" على ساحل اليونان الغربى عام31 ق.م، !.
أحب في النهاية أن أؤكد أننا ( العلمانيون ) لسنا منحازين لتاريخ أو لشعب بعينه ، ولا نفضل رع أو آمون آلهة المصريين القدامى عن إيل أو الله أو يهوه آلهة الساميين القدامى ، كما لا نرى المسيح أو الآلهة الهيلينستية الإنسانية الرائعة أفضل الجميع ، ليس لأننا طيبون و طاهرون كالثلج أو لأننا " أولاد حلال" ، و لكن لأننا نعلم جيدآ أن قوتنا تكمن في عقلانيتنا ، و نعلم أنه كلما كنا أكثر موضوعية سنكون أقدر على الفهم و بالتالي أكثر قوة ، لهذا فالعلمانية هي عقيدة الحضارة المعاصرة وروحها .