Monsieur Ibrahim
فيلم السيد إبراهيم وزهور القرآن .
إنتاج فرنسي عام 2003 .
إخراج المخرج الفرنسي فرانسوا دبيرون Francois Dupeyron.
بطولة : عمر الشريف – بيير بولانجير.
الرواية عن قصة إيريك إيمانويل شيمت " "Eric-Emmanuel Schmitt بعنوان " مسيو إبراهيم و زهور القرآن Monsieur Ibrahim et les fleurs du Coran . ملحوظة : القصة مترجمة للعربية بواسطة محمد سلماوي " دار الشروق ".
الفلم حائز على عدة جوائز منها جائزة سيزار ( فرنسية تعادل الأوسكار) لأفضل ممثل "عمر الشريف" عام 2004 م.
من بين أفلام عمر الشريف ربما يكون هذا الفيلم أفضلها و أكثرها نضجا ، أثبت فيه عمر الشريف أنه ممثل حقيقي . الفيلم ينتمي إلى مجموعة أفلام كبار السن coming-of-age ، و لكنه يمضي بشكل فائق النعومة و السلاسة ، فلا يغرق في الإسهال العاطفي ،و لا يركن إلى المبالغات المعتادة في مثل تلك الأفلام .
ربما يرى البعض أن الفيلم ليس فيلما استثناءا في تاريخ السينما ، خاصة عندما نقارنه بفيلم يعمل في نفس المنطقة كفيلم زوربا اليوناني لأنتوني كوين و ألان بيتس ، و لكنه يبقى واحدا من الأفلام بالغة الإبهار التي تتناول موضوعها برؤية عميقة داخل النفس البشرية .
ما جذبني للرواية ثم الفيلم ليس تيمته و لكن روحه الإنسانية فائقة السمو ، فهو يتناول علاقة إنسانية فريدة بين روحين أحدهما عجوز تركي مسلم ،و الآخر شاب فرنسي صغير يهودي الديانة ، لا يجمعهما شيء سوى الإنسانية و السكن في نفس الحي الفرنسي في الستينات . و لكن على مستوى آخر يمكن أن نرى في الفيلم تكامل الحضارات تحت ظل الإنسانية الواحدة و ليس تصارعها ، نرى فيه اتحاد الجنس البشري في مواجهة الألم و الأقدار الرديئة ، و رغبة الإنسان في المضي قدما كتفا بكتف و يدا بيد في مواجهة العالم. تلك الروح الإنسانية الدافئة و النبيلة التي تنساب بنعومة خلال الرواية ، فتنتقل إليك خلال عباراتها البسيطة بالغة الإقتصاد إلى حد أن تصبح لغة تلغرافية . نجح الفيلم في أن ينقل روح الرواية ،و أن يتغلغل إلى أرواحنا دون ضغط أو ابتذال ،و أيضا بدون ملل .
تعودت عندما أقرا عملآ أدبيا أن أتخيل أبطاله ، و عادة ما أراهم مجسدين في أشخاص أعرفهم ( ممثلين غالبا ) ، و عندما قرأت الرواية لأول مرة قبل مشاهدة الفيلم كنت أتخيل " أنتوني كوين " في دور مسيو إبراهيم ، بينما كنت أتخيل " ليوناردو ديكابريو " في دور " موييس" الشاب اليهودي الصغير . بالطبع لم يكن ممكنا أن يقوم أي منهما بالدور في السينما ، فأنتوني كوين متوفي منذ عام 2001 م!. لهذا عنما شاهدت الفيلم استغرقت وقتا في قبول عمر الشريف في دور مسيو إبراهيم . عمر الشريف من الممثلين الذين يمثلون من الداخل ، فيكون تأثيرهم قويا في دائرة ملاصقة ،و لكنه يشحب عندما يكون التأثير واسعا ، لهذا استطاع أن يكون مقنعا بالفعل في علاقته بالصبي الصغير ، فالفيلم في طبيعته نفساني و إنساني .
تدور القصة ( الفيلم ) في شارع " بلو " بباريس في الستينات من القرن 20 ، و هي تجري من وجهة نظر الشاب الصغير " موييس" وهي تعنى موسى بالفرنسية . موييس شاب صغير ( 16 سنة ) إبن لمحامي يهودي يعيش مع والده فقط في شقة واسعة كئيبة ، و يقوم الشاب الصغير بالأعمال المنزلية بما في ذلك إعداد الطعام لوالده الإنطوائي . لا نعرف الكثير عن والد مومو سوى أنه محامي يعاني من اكتئاب مزمن ،و يعيش حياة خالية من أي نوع من المتع سوى القراءة الطويلة ، غير ذلك هو بعيد تماما عن ابنه مومو . هناك عبارة تكررت أكثر من مرة تعبر عن شخصية هذا الوالد فهو يقول لمومو عندما يسأله عما يعني يهودي " أنه إنسان له ذكريات قوية و حزينة " ، كان والد مومو دائم المقارنة بينه و بين أخيه " بوبول " المثالي و الذي ذهب مع والدته عندما تركتهم .
على النقيض من هذه العلاقة المجدبة بين مومو ووالده ، يجد مومو سعادته و راحته في علاقته مع العاهرات في شارع " باراديس " المجاور ، و من جانب آخر مع " مسيو إبراهيم " صاحب محل البقالة على ناصية الشارع . في الحي الذي معظم سكانه من اليهود يطلقون على مسيو إبراهيم لقب "العربي" ، رغم أنه تركي من أصول فارسية ، و لكنهم يعرفون العربي في المنطقة بأنه البقال الذي " يعمل من الثامنة صباحا حتى منتصف الليل بما في ذلك آيام الأحاد" . لهذا فمسيو إبراهيم " عربي" تركي !. تتطور علاقة مومو بمسيو إبراهيم ببطء شديد ،و لكنها تتحول في النهاية إلى علاقة إنسانية فريدة . في البداية يسرق مومو بعض المعلبات خلسة من مسيو إبراهيم ،و يتعرف عليه ( بالقطاعي ) فيعلم أنه تركي و ليس عربيا ،و أنه متزوج و لكنه يعيش في باريس وحيدآ . يفاجئ مومو بأن مسيو إبراهيم يعلم من البداية بسرقاته الصغيرة ،و يطالبه بألا يسرق شيئا من غيره !. تتطور العلاقة بين الشيخ و الشاب ، فيعلمه مسيو ابراهيم بعض الحيل الصغيرة كي يوفر بعض النقود و يختلسها بهدف الدفع للعاهرات !.
يلاحظ مسيو إبراهيم أن مومو لا يبتسم أبدآ ، فيعلمه أن يبتسم دائما كما يفعل هو تماما ،و هكذا يبدأ مومو في إقامة علاقات ودودة بالآخرين ،و لكن تلك الإبتسامات تفشل في كسر جبل الثلج بينه و بين والده . عندما يتسائل مومو كيف يعرف مسيو إبراهيم كل تلك الأشياء عن الحياة دون أن يغادر كرسيه في البقالة ، يجيبه أنه يعلم كل شيء من كتابه " القرآن " . يصطحب مسيو إبراهيم مومو للتنزه في شوارع باريس ،و يكتشف أن مومو الذي يعيش في أحد شوارع باريس لم ير شيئا منها خارج شارعه الضيق . أثناء هذه الجولة يكتشف مومو أن مسيو إبراهيم ليس مسلما تماما ، فهو يشرب الخمر أحيانا ،و يتابع النساء بعينه . عندما يبدي مومو دهشته من سلوك مسيو إبراهيم ، يجيبه أنه " صوفي " لهذا يشرب الخمر أحيانا . يعتقد مومو أن صوفي هو مرض ما ،و عندما يسأل والده ، يبحث في الموسوعة و يخبره أن صوفي هو إنسان يهتم بجوهر الإيمان وليس بظواهره .
في أحد الأيام يخبر والد مومو ابنه أنه فصل من عمله ، ثم يختفي بعد ذلك تاركا له خطابا يخبره فيه أنه غادره للأبد لأنه غير قادر على إعالته ، و يترك له قائمة بأربعة أشخاص عليه إخبارهم بذلك و قليلآ من النقود . يستمر مومو في حياته العادية ،ولا يخبر أحدا باختفاء والده حتى صديقه العجوز مسيو إبراهيم . كي يقيم أوده يبيع مومو كتب والده تباعا ، و رغم عوزه يستمر مومو في تجهيز طعاما لإثنين ، ثم يلقي بطعام والده الهارب في البالوعة . في أحد الأيام يأتي رجال الشرطة و يخبرون مومو بأن والده انتحر بإلقاء نفسه من القطار ، و يطالبونه بالمضي معه للتعرف على والده ،و لكن مومو يرفض و تنتابه حالة عصبية فيصرخ . يأتي مسيو إبراهيم و يمضي مع الشرطة للتعرف على المحامي مجنبا صديقه الشاب موقفا عصيبا .
بمساعدة مسيو إبراهيم يطلي مومو شقته بطلاء جديد مبهج ، و يفاجئ بسيدة قادمة تسأل عن موييس ،و لما سألها مومو عن هويتها أخبرته أنها أم موييس ، يخبرها موييس أن ابنها غادر المكان ،و لما تسأله عن اسمه يخبرها أنه مومو ، وهذا يعني أنه محمد !. يبدأ مسيو إبراهيم في إجراءات التبني لمومو ،و بعد صعوبات ينهي الإجراءات ، و لما يسأله موييس إذا كانت زوجته تقر التبني ، يخبره مسيو إبراهيم أنهما سيشتريان سيارة و سيذهبان لمقابلتها في موطنه الأصلي على شاطئ البحر .
يشتري مسيو إبراهيم سيارة ،و ينطلق مع موييس في رحلة أشبه بالحج إلى الشرق . خلال تلك الرحلة المقتضبة و لكن عميقة الأثر ، يتحدث إلينا مسيو إبراهيم بحكمته البدائية النافذة ، بما يذكرنا بزوربا اليوناني الحكيم الوثني !. يقول إبراهيم أنك تستطيع أن تحكم عن الغنى من صناديق القمامة !، فعندما لا تكون هناك صناديق ولا قمامة فتلك بلاد شديدة الثراء ،و قد صادفا ذلك في سويسرا ،و عندما تجد صناديق القمامة بدون قمامة ، فتلك بلاد غنية ،و عندما تجد الصناديق و القمامة فتلك بلاد سياحية ،و لكن عندما تجد قمامة بلا صناديق فتلك بلاد فقيرة ، أما إذا وجدت الناس يعيشون بين القمامة فتلك بلاد بائسة ، و قد صادفاها في ألبانيا ( كانت الرحلة في الستينات) و لم يمرا على القاهرة في القرن 21 ! .
إبراهيم المتسامح كان يحج في رحلته إلى كل دور العبادة ،و قد علم مومو كيف يميز بينها و هو مغمض العينين ، فعندما يشم رائحة الشموع ، فتلك كنيسة كاثوليكية ، أما إذا كانت الرائحة للبخور فهي كنيسة أرثوذكسية ، أما عندما تشم رائحة الأقدام فهو مسجد ، و يرى مسيو إبراهيم أن ( عطر) الجوارب يشعره بأنه في مكان صنع من أجل الإنسان ،و أنه يملؤه ثقة و تواضعا ( تعبير راقي بشكل استثنائي ) ، أما إذا شممت رائحة السعادة فتلك هي اليونان .
ابتداء من وصولهم إلى إسطمبول أصبح مسيو إبراهيم أميل للصمت و أكثر تأثرا و حزنا . في الطريق يتوقف مسيو إبراهيم عند قرية في الجبل ،و يخبر مومو أنه سعيد ، فبجواره ابنه الحبيب ،و هو أيضا يعرف ما في قرآنه ! ، ثم يصحب مومو إلى الرقص . يجب أن ترقص بالتأكيد " إن قلب الإنسان محبوس داخل قفص الجسد "، حين ترقص فالقلب يغرد مثل العصفور الذي يتوق إلى الذوبان في الذات الإلهية .هكذا يصحب مومو إلى التكية ، هي مكان للتعبد و أيضا مكان للرقص ، هناك شاهد مومو الدراويش وهم يرقصون بجلاليبهم الفضفاضة الطويلة ،و يدورون حول أنفسهم كالدوامة ،و يخبره مسيو إبراهيم أن كل منهم يدور حول قلبه الذي هو مكان وجود الرب . عندما بدأ مومو يدور مع الآخرين ، شعر أنه أكثر خفة و تعاليا ، و بدأ يتحرر من ماضيه ، و يتسامح مع أبيه و يتفهم مأساته ،بل و يتسامح مع أمه التي هجرته طفلآ .
عندما اقتربا من ساحل البحر كان مسيو إبراهيم شديد الإضطراب و أصر أن يستكشف الطريق وحيدا ،و طلب من مومو أن ينتظره تحت شجرة زيتون . عندما جاء المساء و لم يحضر مسيو إبراهيم ، انطلق مومو باحثا عنه حتى وصل إلى قرية صغيرة ،و هناك صحبوه إلى بيت صغير ليجد مسيو إبراهيم راقدا مصابا ، فقد اصطدم بسيارته في مبنى و تهشمت السيارة . في هدوء مضى مسيو إبراهيم ليلحق بالاتساع اللانهائي ،و يخبر مومو أن زوجته ماتت من زمن طويل ،و لكنه ظل يحبها دائما بنفس القدر ،و أنه كان سعيدا بعمله ، بالشارع الأزرق رغم أنه لم يكن أزرقا ،و أيضا بابنه مومو و صديقه عبد الله الذي كان يراسله ،و أنه ليس خائفا لأنه يعرف " ما في قرآني ".
يقابل مومو عبد الله و يتذكران معا مسيو إبراهيم و يرقصان مع الدراويش . ثم يعود مومو إلى باريس ،و يقابل أمه من جديد ،ويؤكد لها أنه محمد ابن مسيو إبراهيم ووريثه ،و لكنه لا يمانع في التعرف عليها و على زوجها ، و يصحب معه أولاده الذين ينادونها بجدتي ، بينما لا يمانع " محمد " فهو مثل مسيو إبراهيم يتقبل روح الدعابة .
بالنسبة للناس جميعا هو محمد العربي الذي على الناصية ،و عربي في عالم البقالة تعني " مفتوح في المساء و في أيام الآحاد " .
في هذا الفيلم لم يحاول دبيرون أن يقوم بدور الواعظ الأخلاقي ،و لكنه يكتشف معنا صيغا جديدة للحياة ، و بدائلآ ربما تكون او لا تكون ملائمة لنا نحن ،و لكنها جديرة بالمحاولة و البحث . استطاع عمر الشريف ان يعطي للدور كل روحه و خبرته ، ربما أيضا بسبب تجربة عمر الشريف نفسه كرجل أصبح جدا لأتباع الأديان الثلاث ؛ اليهودية و المسيحية و الإسلام . في كل مشهد لعمر الرشيف يأخذنا لعالمه الهادئ الجميل المتسامي ، لنرقص معه حول قلوبنا التي يسكنها الرب ذاته .
خلال مشاهد الفيلم يقدم عمر الرشيف يده بمحبة و كرم إلى الشاب الصغير بيير بولانجر ،و يحمله معه إلى مستوى الموقف ، هذا السلوك القائم على الحب يعمق الروح التي ألهمت العمل كله أدبيا و فنيا . إننا أصبحنا نشعر خلال الرحلة ، أن مومو لم يعد ضحية الظروف التي مرت به ، بل هو منتصر استطاع أن ينجو و يطفو فوق حيل و مقالب الأيام . لقد تعلم من إبراهيم أن يحسب لنفسه ولا ينتظر أحكام الظروف و الآخرين .
لعبت الكاميرا دورا بارعا في تطور الفيلم ، فمن الزوايا الضيقة القريبة التي تعكس ازدحام شارع بلو ، إلى الزوايا الواسعة و المناظر البعيدة التي تعكس اتساع الأناضول و صفاء السماء فوقها . لعبت الموسيقى المصاحبة دورا لا يقل اهمية ، فمن موسيقى البوب في باريس إلى النغمات التقليدية للصوفيين في الأناضول .
رائع .. هكذا أرى الفيلم .
أكثر من رائع أرى القصة .