نحو مراجعة نقدية للسياسة الخارجية السورية
عدنان علي الحياة 2005/03/19
منذ ما يزيد على 40 عاماً، ظل البعد القومي هو الحامل الأساس للسياسة الخارجية السورية. لكن هذا البعد كان أقرب الى مفهوم الوصاية المتمثلة في وجود تابع ومركز مع رفض المركز (السوري) أي درجة متقدمة ومستقرة من العلاقات المتكافئة، فلا تتحقق مصالح الطرف الآخر إلا من خلال ما يفيض عن مصالح المركز، أو تجري مواءمة قسرية لمصالح الطرفين وفق الرؤية التي يحددها المركز، ومن دون الاكتراث بالاضرار التي قد تلحق بالآخر، أو الفرص التي قد تفلت منه نتيجة هذا «التحالف الأخوي».
لقد مثلت العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية خلال السبعينات والثمانينات نموذجاً، لكن توجه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات نحو خيارات بعيدة من السياسة السورية، ورفعه شعار «القرار الوطني المستقل» أوجدا افتراقاً مبكراً وتسببا بما هو معروف من جفوات ومناحرات بين الجانبين لم تتعاف منها السياسة السورية حتى وقت قريب وتحت ضغط عوامل خارجية فرضت أمراً واقعاً بدأت دمشق تتقبله على مضض خلال السنوات الأخيرة.
أما في شأن العلاقات مع لبنان التي بدأت كما يبدو تقطع الرحلة الفلسطينية ذاتها، فإن سورية تظهر ممانعة أكبر للتخلي عما تعتبره استثماراً كبيراً لها في الساحة اللبنانية على مدار عقود، وهي الساحة الخارجية الأخيرة للسياسة السورية، والتي كانت تعتبرها محصنة على الاختطاف من أي جهة، خصوصاً ان الدور السوري في لبنان كان منذ البداية مستنداً الى تفاهمات دولية وإقليمية، فضلاً عن التفاهمات مع القوى اللبنانية الرئيسة التي منعت المعارضات المتقلبة من تهديد شرعية الوجود السوري.
غير ان ما لم يلحظه بدقة صناع السياسة السورية ازاء لبنان هو أثر البيئة الاقليمية والدولية التي تشكلت بفعل الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب وأحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وغزو العراق، ودخول فرنسا على الخط، خلافاً لقوى المعارضة اللبنانية، المعلنة منها أو الكامنة، والتي أدركت ان المسرح الدولي والاقليمي بات مهيأً لتصعيد المطالبة بإنهاء هذا النمط من العلاقات مع الشقيقة الكبرى بدءاً بخروج قواتها وصولاً الى علاقات من نوع مختلف.
فوتت القوى المحافظة التي تدير السياسة الخارجية السورية فرصاً عدة لإجراء قراءة واقعية للمتغيرات الاقليمية والدولية التي برزت خصوصاً منذ العام 2000 بحيث تعمل جدياً على إعادة ترتيب العلاقات مع لبنان، بما في ذلك سحب القوات، وفق توافقات واسعة تأخذ في الاعتبار مصالح كل الفرقاء اللبنانيين، من دون انتظار اكتمال كل حلقات الضغط على الوضع السوري في لبنان الذي سيظهر الآن في موقف المتراجع، وقد يخسر نقاطاً كان يمكن ان يربحها لو انه بادر باتخاذ خطوات استباقية لتصحيح علاقاته مع لبنان في وقت مبكر.
وأمعنت تلك القوى في الرهان على بدائل خاسرة لتفادي مواجهة ما ترتبه المتغيرات الاقليمية والدولية على مجمل التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية السورية وعلى الأخص في شأن العلاقة مع لبنان استناداً الى اطمئنان زائف بأن هذه العلاقة في منأى عن تلك المتغيرات. وتجلى التحدي للبيئة الدولية الجديدة في دعم التمديد للرئيس لحود وهي خطوة تعني في الوقت نفسه الاصرار على نمط مهترئ من العلاقات حيث التحالف مع طبقة سياسية بدأت تفقد شعبيتها وبعضها متورط في الفساد، فيما ظل الحديث المستمر من جانب الرسميين في دمشق وبيروت عن ضرورة تصحيح العلاقات مجرد شعار يفتقر الى خطة او اجراءات محددة على الأرض.
وتحت يافطة مواجهة أخطار خارجية لم يتم توضيحها في شكل مقنع، نجح الفساد والجمود السياسي المتحالف داخل كل منهما، وفي كلا البلدين معاً، في تمرير التمديد للرئيس لحود مديراً ظهره لكل الأخطار التي بدت واضحة للعيان لجهة أن هذه الخطوة ستكون منطلقاً أو ذريعة لقوى خارجية بالتناغم وربما بالتفاهم مع قوى داخلية في لبنان لتصعيد الضغوط على سورية التي تمر وفق تشخيص تلك القوى في مرحلة ضعف غير مسبوقة. وبذلك التقت مصالح القوى الخارجية (اسرائيل ومن خلفها أميركا) والتي ترمي أساساً الى تجريد دمشق من الورقة الرابحة الرئيسة لها في لبنان وهي «حزب الله»، مع مصالح بعض القوى اللبنانية التي تشعر بالتهميش أو تطمح للوصول الى السلطة.
وجاء نقل «الملف اللبناني» من عهدة الاجهزة الأمنية الى الخارجية السورية خطوة متأخرة، وقد يمر، كالعادة، وقت أكثر من اللازم قبل ان يتم استخلاص العبر في شأن تحديد الخطوة التالية.
وتجلت الرهانات الخاسرة أيضاً في الملف الضاغط الآخر وهو العراق والتي أوصلت السياسة السورية اليوم الى مأزق حقيقي مع الولايات المتحدة ومع القوى الحاكمة الجديدة في العراق. وقد بدا أولاً، أي قبل الغزو العسكري للعراق، وكأن هناك رهاناً على ان الولايات المتحدة ستكتفي بالتهديد ولن تخوض الحرب، ثم كان هناك رهان على هزيمتها في الحرب، ثم على فشلها في إدارة مرحلة ما بعد الحرب. وبسبب انكشاف موقفها، لم تستطع سورية الإفادة حتى من الارتباك الأميركي الأمني والسياسي في العراق، بل ان الضغوط الأميركية كانت تتزايد عليها كلما تعرضت القوات الأميركية الى المتاعب على رغم لجو الأميركيين في بعض المراحل الى الاستـــعانة بالسوريـــين من أجـــل تهدئة بعض المناطق الملتهبة في العراق.
وفي اطار هذه الرهانات لم تنجح كما هو واضح المحاولات مع الولايات المتحدة لمقايضة العراق بلبنان، ولا تزال واشنطن تلاحق دمشق في كلا الملفين معاً، فضلاً عن الموضوع الفلسطيني الذي تأمل دمشق في اطار استجابة براغماتية للمعطيات الجديدة بأن تلج منه عبر ورقة منظمات المقاومة، والتفاهمات الهشة مع القيادة الفلسطينية الجديدة، الى وضع جديد يعيد الاعتبار الى مكانتها الاقليمية، ويفتح أفقاً على التسوية مع اسرائيل، من دون أدنى طموح لإطلاق عملية سياسية جادة مع الأخيرة، وإنما الاكتفاء بالعودة الى المسرح الاقليمي كلاعب رئيس غير مطارد بشبهات تهدد النظام أو تجبره على التقوقع من دون أي تأثير خارج الحدود.
وخلاصة القول، إن السياسة السورية لا تزال تمارس اسلوب الممانعة حتى آخر لحظة تهرباً من تقديم تنازلات تعتقد أن في الإمكان تجنبها، وهو اسلوب يقوم على الترقب وانتظار ان يقع الخصم في اخطاء أو ينشغل في أمور أخرى، وصولاً الى لحظة يكون ممكناً فيها اجراء مقايضة او مساومة ما تلبي مصالح كلا الطرفين. وربما أن صناع السياسة الخارجية السورية لا يزالون يعتبرون ان هذه السياسة هي الحال المقابلة لسياسة التسليم السريع بمطالب الخصم، وهو ما قد يسمى في القاموس السوري تنازلاً وتفريطاً، ومن دون ان يمحصوا جدياً الخيارات الأخرى التي قد تكون أكثر جدوى للتعامل مع أوضاع تتطلب القيام بكل المبادرات الضرورية والاستباقية لتجنب الوصول الى مواجهة غير متكافئة، خصوصاً اننا نعيش زمناً تتراجع فيه أهمية المبادئ السياسية والمعايير الأخلاقية الى درجة يكون من العبث معها التمترس عند خطابات مثالية تعتمد المحاججة المنطقية المجردة ومعايير الحق والعدل التي، للأسف، لم تعد تفيد كثيراً في غياب عناصر القوة الكافية لإسنادها وتثبيتها.
ولعل أبرز مثالين طازجين لنتائج مثل هذه المواجهة غير المتكافئة هو ما جرى ويجري مع العراق وليبيا، والنتيجة التي آلت اليها المواجهة في هاتين الحالين يراد لها ان تكون عبرة لكل من يعتبر، بل ان مسؤولاً أميركياً رفيعاً نصح سورية ان تختار بين هذين النموذجين.
وسياسة الممانعة حتى آخر لحظة والتي تقوم على لعبة عض الأصابع قد تحمل بعض الفوائد في ظروف معينة لكنها تحمل في الوقت نفسه مخاطر شديدة إذا ما جرى خطأ في الحسابات وحيث يكون من المتعذر ارجاع عقارب الساعة الى الخلف. ولعل أشهر من جرب هذه السياسة مراراً وتكراراً الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين خلال مواجهاته المتكررة مع الولايات المتحدة وكانت النتيجة وبالاً عليه وعلى العراق والمنطقة. أما أبرز من مارس هذه السياسة بنجاح نسبي فهو الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي ظل على الدوام ممسكاً بصمام الأمان بحيث يستطيع التراجع في اللحظة المناسبة بعد ان يثبت أقدامه في موقع جديد، ومن دون أن يتكبد خسائر ذات مغزى استراتيجي عميق.
والسؤال الأساس في هذه اللعبة هو: متى يكون عامل الوقت لمصلحتك؟ وهل رفضك اليوم سيوفر لك وضعاً أفضل غداً أم انه سيضيع فرصاً ويجعل الموقف أكثر صعوبة، وستضطر حينئذ الى الموافقة على ما كنت ترفضه اليوم أو تدفع ثمناً أكبر مما يمكن أن تدفعه الآن.
والإجابة الدقيقة عن هذه الأسئلة هي التي تحدد ما هو الخـــيار الأنـــسب، وهذا يعتمد بدوره على القراءات المخـــتلفة للحظة الراهنة وكيفية حساب نقاط القوة والضعف لديك ولدى الخصم.
والغريب ان بعض «قراء اللحظة» في سورية لا يزالون يظهرون في شأن العلاقات مع الولايات المتحدة قدراً غير مفهوم من الثقة بالنفس بحيث يبدون وكأنهم يميلون الى المواجهة على الطريقة الصدامية المشؤومة. وفي حين من المتعذر على سورية ولأسباب كثيرة تبني النموذج الليبي، فإنه بات لزاماً البحث عن خيار ثالث يحفظ البلاد ولا يفرط بالحقوق، [SIZE=6]
وهذه مهمة يجب ألا تكون من مسؤولية أهل الحكم وحدهم، بل من الضروري ان يشترك فيها أوسع ما يمكن من شرائح المجتمع وقواه الفاعلة.
كاتب وصحافي سوري.
:nocomment:
http://www.daralhayat.com/opinion/03-2005/...a1ac/story.html