بقلم إسماعيل باشا / مجلة العصر
كيف بدأت الأحداث؟
إن معرفة خلفية الأحداث تساعد كثيراً على فهمها، بل في بعض الأحيان لا يمكن فهمها إلا بها. ولذلك، يجب أن نعرف خلفية مشكلة الأرمن وكيف ومتى ولماذا بدأت؟.. حتى تتضح الصورة أمام أعيننا دون أن يبقى أي جانب من جوانبها مظلماً أو مجهولاً.
أ- الأرمن... الملة الصادقة
عندما سمح السلطان الفاتح محمد خان للبطريركية الأرثوذكسية بالبقاء في الآستانة[1]بعد سقوطها في أيدي العثمانيين ومنح اليونانيين عدة من الحقوق تسمى "الامتيازات الدينية"، أنشأ أيضا بطريركية أرمنية في عاصمة مملكته.[2]
وقد منح السلطان عبد العزيز في سنة 1863 الأرمن نوعاً من الحكم الذاتي جعل المسائل الأرمنية من اختصاص مجلس وطني عام يجتمع مرة كل سنتين في إسطنبول برئاسة البطريرك الأرمني مع وجود مجلسين صغيرين أحدهما للمسائل الدينية وكان أعضاؤه من القساوسة الأرمن، والآخر للمسائل المدنية وأعضاؤه من المدنيين. وكانت هذه الأجهزة الثلاثة مع البطريرك والكنيسة الأرمنية الرمز المجسد للقومية الأرمنية في الدولة العثمانية. وارتفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للأرمن وأصابوا نجاحاً ملحوظاً في نشاطهم الاقتصادي المتعدد الصور والأشكال.[3]
وكان العثمانيون يطلقون على الأرمن قبل ظهور الأحداث "الملة الصادقة" (Millet-i Sâd?ka) لولاءهم الصادق للدولة العثمانية، لأنهم كانوا يعيشون في وئام مع العثمانيين متجاورين متعاونين.
وتقلد الأرمن المناصب العالية في الحكومة العثمانية ووصل بعضهم إلى مناصب الصدارة العظمى -أي رئاسة الوزراء- وإلى مناصب الوزراء ووضعتهم الدولة على بعض المصالح الهامة واشتغل بعضهم في السلكين الدبلوماسي والقنصلي العثمانيين ودخل بعضهم البرلمان. والتاريخ العثماني يسجل من الأرمن 22 وزيراً، و33 نائباً، و29 باشا، و7 سفراء، و11 قنصلاً.
ومنحت الدولة العثمانية لغير المسلمين حريات في أديانهم ولغاتهم وسائر ثقافاتهم، فإنهم كانوا أحراراً في ممارسة حياتهم الدينية كما شاؤوا. ولم تضغط عليهم في معتقداتهم رغم قدرتها كما أشار إليه داديان آرتين باشا (Dadian Artin Pasha) المستشار الأرمني للخارجية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني حيث قال إن السلطان محمد الفاتح عندما فتح إسطنبول كان بإمكانه أن يقتل جميع النصارى الموجودين فيها بالسيف، ولكنه لم يسلك هذا الطريق المخالف للشريعة الإسلامية.[4]
وكان عدد الأرمن الذين طالبوا باستقلال أرمينيا استقلالاً داخلياً في نطاق الدولة العثمانية قليلاً أول الأمر، ولقوا معارضة من الأرمن الأرثوذكس من أصحاب المهن والحرف وبعض الأغنياء ومن الموظفين الأرمن الذين كانوا يشغلون مناصب رفيعة في الحكومة العثمانية. وعلى ذلك كان تأثير الأرمن الكاثوليك والبروتستانت محصوراً في طبقة قليلة العدد ولكنها تتمتع بثقافة رفيعة. وبقيت الأغلبية الساحقة من الأرمن الأرثوذكس على ولائها للدولة العثمانية حفاظاً على أوضاعها الاقتصادية أو مركزها الاجتماعي المرموق.[5]
ب- الأيادي الأجنبية في إثارة الفتنة
يقول السلطان عبد الحميد الثاني كأهم شاهد على بداية الأحداث: "لم تكن المشكلة الأرمنية مشكلة الأرمن أنفسهم وأستطيع القول -وأنا مرتاح القلب- إن الأرمن أفضل من يتبنون العثمانية[6]وأفضل من يمثلونها، لقد خدموا حضارتنا وعملوا على الحفاظ على دولتنا، وظهر فيهم عثمانيون ممتازون بخدماتهم وحسن صداقتهم ولم تكن للأرمن منا شكوى قط، ولكن الروس –لكي يصلوا إلى آمالهم في بلغاريا، ولكي يقطفوا من الإمبراطورية العثمانية قطعة جديدة- لفوا الأرمن حول إصبعهم احتواءً. أرسلوا جواسيسهم بصحبة قساوستهم ومعلِّميهم إلى الأرمن، فألّبوا علينا، وانغمس هؤلاء في المغامرة."[7]
ونقطة التحول في العلاقات بين الأتراك والأرمن هي الحرب العثمانية-الروسية (1877-1878)، وأراد الأرمن أن يستغلوا هزيمة الدولة العثمانية أمام الروس، وبدأوا يفكرون بأن دورهم في الاستقلال أتى عليهم بعد أقوام حصلوا على استقلالهم.[8]
ومع أن الأرمن يدينون للمسلمين العثمانيين بحفظ عقيدتهم ولغتهم وتراثهم، إلا أنهم عندما رأوا ضعف الدولة العثمانية أرادوا اقتطاع جزء منها، واستغل الروس الأرمن في أول الأمر في هذا الموضوع ثم تحولوا عنه، ولكن بريطانيا تبنت الحركة الأرمنية لمصالحها الخاصة لا سيما بعد وصول الليبراليين إلى الحكم بعد هزيمة المحافظين.[9]
ومشكلة الأرمن في الحقيقة جزء من خطط الدول الأمبريالية لهدم الدولة العثمانية وتقسيم ميراثها، فكانت روسيا تطمع في بث نفوذها على شرقي الأناضول والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.
وأما بريطانيا فتخلت من سياسة الحفاظ على وحدة الأراضي العثمانية وتبنت سياسة إيجاد دولة أرمنية موالية لبريطانيا تقف أمام الانتشار الروسي، كما أنها بذلت أقصى ما في وسعها لإثارة المشكلة الأرمنية لكي تبعد عن الأذهان أعمال تدخلها في مصر. وكانت تعمل جاهدة على تركيز انتباه العالم على الدولة العثمانية.[1]
ج- تدويل مشكلة الأرمن
تحولت المشكلة الأرمنية بعد الحرب العثمانية-الروسية من مسألة محلية إلى مسألة دولية وذلك بإدخال مادة خاصة في معاهدة سان ستفانوس عام 1878. وجاء في المادة السادسة عشرة أن جلاء القوات الروسية عن أرمينيا العثمانية وإعادة هذه البلاد إلى الحكم العثماني قد يؤديان إلى وقوع خلاف بين الحكومتين العثمانية والروسية، ولهذا يتعهد الباب العالي بإدخال إصلاحات طبقاً للاحتياجات المحلية في المناطق التي يسكنها الأرمن، ويتعهد الباب العالي أيضاً بتأمين السكان المسيحيين من اعتداءات الأكراد والشراكسة.[11]
ولكن معاهدة سان ستفانوس لم تنفذ لاعتراض الدول الكبرى عليها لانفراد روسيا بالمكاسب الهائلة ودعت الدول الأوروبية الكبرى إلى عقد مؤتمر لتعديلها وعُقد المؤتمر في برلين 13 يونيو 1878. وفي نهاية المؤتمر وقعت الدول الأعضاء بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والنمسا والمجر، وروسيا، والدولة العثمانية على معاهدة برلين.
لم تكتف معاهدة برلين بتغيير رقم المادة المتعلقة بالأرمن فقط، بل أضافت إليها فقرة جديدة، جاء فيها أن الباب العالي يقوم بإبلاغ الدول الكبرى المرة بعد الأخرى بالإجراءات التي اتخذها لهذه الغاية، وعلى الدول الكبرى أن تراقب تطبيقها.[12]
يقول نورياس تشراس (Nurias Çeras) الذي قدم مع البطريرك مغرديتش حريميان (M?g?rd?ç Hrimyan) مطالب الأرمن إلى الدول الأوروبية المشاركة في مؤتمر برلين، معلقاً على المادة الحادية والستين: "إن مؤتمر برلين لم يكتف بتبديل المادة السادسة عشرة لمعاهدة سان ستفانوس بالمادة الحادية والستين، بل وضع أسس البناء الوطني الذي سنقيمه في المستقبل." ويقول أيضاً: "مع أن أوروبا لم تعطنا حكماً ذاتياً، ولكنها أهدت إلينا مادة ستوصلنا بما نتشوق إلى وصوله. الباب العالي وعدنا بإجراء الإصلاحات اللازمة في الأماكن التي يسكنها الأرمن وستتحول هذه الإصلاحات يوما ما إلى الحكم الذاتي. وضعت أوروبا في أيدينا الأسلحة ولنستخدم هذه الأسلحة قبل أن يصيبها الصدأ."[13]
د- تأسيس الجمعيات الإرهابية
أنشأ الأرمن في الدولة العثمانية جمعيات عديدة؛ منها اجتماعية وخيرية، ومنها مسلحة، وأهم هذه الجمعيات جمعيتا هنتشاك وداشناقسوتيون.
وتكونت جمعية هنتشاك[14]في أغسطس 1887 في جنيف قوامها طلاب أرمن من أبناء الأثرياء يدرسون في فرنسا ولم تطأ أقدامهم الدولة العثمانية وترعرعوا بقراءة قصص معاناة الأرمن في الأناضول. وقد اعتنق هؤلاء الطلاب بالماركسية ولذا لم تحظ آراؤهم الاقتصادية والاجتماعية بالقبول بين الطبقتي الوسطى والعليا من الأرمن، ولكنها حظيت بالقبول في أوساط الشباب.
وكان من أهداف جمعية هنتشاك استقلال الأرمن عن طريق الدعاية والتحريض والتخويف والعصيان. ونظمت الجمعية مظاهرة قمقابي وعصيان صاصون ومظاهرة الباب العالي وعصيان زيتون.[15]
وقد نشرت لجنة جريدة هنتشاك في لندن سنة 1889 رسالة جاء فيها: "من الواضح قبل كل شيء أننا فوضويون، ولنا رغبة وطيدة منصوص عليها في لوائحنا ألا وهي نشر مبادئ الفوضى في الأناضول بإحداث الاضطرابات."[16]
وأما جمعية داشناقسوتيون فهي في الحقيقة اتحاد مجموعات أرمنية معظمها من روسيا تحت اسم الاتحاد الثوري الأرمني (The Armenian Revolutionary Federation).
وتكونت الجمعية في صيف 189 في روسيا وكان برنامج عملها تكوين مجموعات عمل يتسلل أفرادها الفدائيون إلى داخل الأراضي العثمانية ويثيرون الذعر في نفوس الموظفين العثمانيين المسلمين والموظفين الأرمن على حد سواء، ويرتكبون مذابح عامة بين المسلمين اعتقاداً منهم أن هذه الجرائم تؤدي إلى تصعيد الموقف وتدخل الدول الأوروبية لصالح القضية مما يساعد في النهاية على إنشاء جمهورية أرمنية اشتراكية مستقلة تشمل بصفة مبدئية الولايات الست في شرقي الأناضول[17]حيث يتم طرد جميع سكانها المسلمين أو يكون القتل مصيرهم المحتوم.
ونظمت هذه الجمعية مهاجمة البنك العثماني وعصيان صاصون في سنة 194 ومحاولة اغتيال السلطان وعمليات إرهابية أخرى.[18]
--------------------------------------------------------------------------------
[1]أي إسطنبول
[2]أورخان محمد علي؛ مصدر سابق؛ص8
[3]عبد العزيز محمد الشناوي؛ الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها؛ ج3 ص1537
[4]M.Hanefi Bostan;Birinci Dünya Sava?? S?ras?nda Ermenileri ?skân Meselesi ve Baz? Gerçekler; Bkz. Ermeni Meselesi Üzerine Ara?t?rmalar, sf.167-168
[5]عبد العزيز محمد الشناوي؛ مصدر سابق؛ ج3 ص1543
[6]أي المواطنة ووحدة الدولة العثمانية. هنا ألفت نظر القارئ إلى ثناء السلطان عبد الحميد الثاني على الرعايا الأرمن وهو يتهم بارتكاب المذابح، فهل يرتكب رجل ضد قوم يثني عليهم هكذا؟!.
[7]مذكرات السلطان عبد الحميد؛ ص 123-124
[8]Erhan Afyoncu؛ مدصر سابق؛ ص VI
[9]أورخان محمد علي؛ مصدر سابق؛ص216-217
[1]مذكرات السلطان عبد الحميد؛ ص 126
[11]Ali Karaca; Tehcire Giden Yolda Ermeni Meselesi’ne Bir Çözüm Projesi ve Reform Müfetti?li?i (1878-1915); Bkz. Ermeni Meselesi Üzerine Ara?t?rmalar, sf.1
وانظر: محمد فريد بك المحامي؛ تاريخ الدولة العلية العثمانية؛ ص 659
[12]انظر للمادة الحادية والستين من معاهدة برلين: Ali Karaca؛ مصدر سابق؛ ص9 ومحمد فريد بك المحامي؛ مصدر سابق؛ ص 696-697
[13]Ali Karaca؛ مصدر سابق؛ ص 1-11
[14]كلمة هنتشاك بمعنى الناقوس في اللغة الأرمنية
[15]Kamurân Gürün; Ermeni Sorunu; sf. 169-172
[16]عبد العزيز محمد الشناوي؛ مصدر سابق؛ ج3 ص1565
[17]وهي ولايات وان وبتليس وأرضروم ودياربكر ومعمورة العزيز (خربوت) وسيواس
[18]Kamurân Gürün ؛ مصدر سابق؛ ص 172-175؛وعبد العزيز محمد الشناوي؛ مصدر سابق؛ ج3 ص1566