أود الإشارة لموضوع يطرح تمهيدا عن جودت سعيد و روابط لتحميل معظم كتبه في ساحة قرأت لك:
أعمال المفكر جودت سعيد
سأبدأ في العرض للاعنف (و أنا من المؤمنين بأنه لا يجوز للبشر استخدام العنف) بهذه الفقرات من كتاب
الدين و القانون :
شروط القتال في الإسلام
ربما أسلوب بحثي يصدم القارئ فيقول: كيف تفسر الحث الشديد والمتكرر في القرآن على القتال والجهاد ؟ كيف يمكن الانسجام بين اللاعنف، وبين القتال والجهاد الموجود في القرآن بتكرارٍ وإصرارٍ ؟ لبحث هذا الموضوع لابد من الإحاطة ببعض الجوانب الأساسية وإلا فلن نفهم شيئاً.
أولاً لابد من التفريق بين:
1- المجتمع المبنيِّ على أساس القوة والعنف والإكراه، فهذا المجتمع اللاشرعي واللاقانوني، مجتمع الغاب مجتمع الأظفار والأنياب، فهذا المجتمع هو المجتمع الذي جاء الأنبياء للقضاء عليه وإزالته، لابد من التفريق بين هذا المجتمع وبين:
2- المجتمع المبني على أساس القانون والعدل والشرعية. وليكون هذا المجتمع شرعياً ينبغي أن يتكون بطريق سلمي ليكون شرعياً مبنياً من الأساس على السلام والشرعية والإقناع، وعدم الإكراه فهذا المجتمع هو الذي يحمي أفراده.
وإذا استخدمنا المجتمع على المفهوم الذي يستخدمه (أرنولد توينبي) بمعنى الحضارة وليس الدولة، فإن الحضارات كمجموعات بشرية ضخمة، يمكن فرزها ككائنات متميزة، ينبغي أن نعترف أن الحضارة المسيحية هي التي أبرزت الدولة السياسية الديمقراطية على كل علاتها. مولود جديد في الحياة البشرية ورصيدها الأساسي الوعي الشعبي، وعلى قدر رسوخ هذا الوعي يكون رسوخ الديمقراطية أيضاً، فالدولة الديمقراطية ليس فيها حق (الفيتو) والسلطة للإقناع الفكري وغن كان هناك تلاعبٌ يكون بالإقناع أيضاً، وليس بالإرهاب أو الإكراه.
ومع بروز الديمقراطية داخل الدولة الواحدة فإن العلاقات بين الدول على أساس القوة إلى الآن، ومع أن القوة فقدت مفعولها الواقعي إلا أنها لا تزال تقوم بدورها السحري.
ينبغي أن تتحول العلاقات الدولية إلى الإقناع والقبول الطوعي والتنافس على الإقناع وليس التهديد بالقوة، علينا أن نرفع مستوى وعي الناس حتى تتحول الأمم المتحدة إلى مؤسسة ديمقراطية ؛ مؤسسة كلمة السواء.
إن الأمم المتحدة لا تزال كأي بلد مختلف، يحكمه طاغية وحاشيته ولا قيمة لدستور ولا برلمان. ولكن الأمم المتحدة أسوأ ؛ لأن دستورها لا يوجد فيه حتى المساواة النظرية، بل ينص على حق (الفيتو). الأمم المتحدة ليست شرعية مهما سميت شرعية دولية، لأنها تفقد المساواة، ولا شرعية بدون مساواة. فالذين يقبلون كلمة السواء ينبغي أن ينشئوا مؤسسة السواء، وإلى الآن لم يواجه العالم هذا الموضوع بجدية، حيث أنه إلى الآن لا يوجد في العالم من يثق بكلمة السواء، والناس عادة لا يدخلون في التجارب الجديدة إلا مضطرين، وكأن الظروف العالمية لم تنضج بعد حتى يشعروا بضرورة الدخول إلى التجربة الجديدة.
ولبحث موضوع القتال المأمور به في القرآن، نحاول أن نوضح شروطه التي تجيز القتال أو توجبه.
أولاً -
لا يجوز القتال ولا القتل لأجل فرض دين بالإكراه من أيٍ كان، دولةً أو أفراداً، وأي تهديد أو إكراه لمطالبة إنسان بقبول رأي أو فكر بالقوة مرفوض في الإسلام رفضاً باتاً، ويصف القرآن عباد الرحمن المؤمنين بأن من صفاتهم:
(لَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ] الفرقان: 25/68 [.
(مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) ] المائدة: 5/32 [.
هذا ما جاء به الأنبياء جميعاً والتزموه، وهذا ما وصلت إليه الديمقراطية بعد تجارب التاريخ المريرة في تقرير
حرية العقيدة مبدأً أساسياً في كل دستور ديمقراطي.
ثانياً -
حين يتكون مجتمع حرية العقيدة، وينتج هذا المجتمع مؤسساته السياسية، إن مؤسسة هذا المجتمع ينبغي أن تحمي حرية التدين بين الناس. الحجرات: 49/9 [.
[SIZE=4]
فالقتال من قبل مجتمع العدل لإيقاف الذين يقتلون الناس، ويُهجِّرونهم لأجل أفكارهم أو أعراقهم، واجبٌ. ومجتمع العدل لا يهم ما اسمه - لأن الأسماء لا تغير الوقائع - وإنما أن يؤمن العدل بين الناس هو الهدف النساء: 4/94 [.
لأنه يؤمن بالعدل وهو موحدٌ لله عملياً ؛ لأن التوحيد رفضُ الطاغوت والظلم، فمن يكفر بالطاغوت الذي هو الإكراه، ويؤمن بالله الذي هو اللااكراه، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. والأنفس من يؤمن بالطاغوت وبالإكراه فهو مشرك بالله، وهو الذنب الذي لا يغتفر، لهذا بعد آية اللاإكراه في الدين يقول:
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) ] البقرة: 2/257 [.
فالموضوع ليس بالكلمات والرموز، فالموضوع علم فلك وعلم مجتمع وليس لغات. فإذا سمينا الكفر إيماناً والإيمان كفراً لا يتغير الكفر والإيمان، وإذا سمينا الطاغوت إيماناً والعدل كفراً لا تتغير المسميات. هذا هو القتال المسموح به داخل المجتمع الواحد الذي يسلم بكلمة السواء، فإذا خرج في هذا المجتمع من يريد أن يفرض بالإكراه والعنف، فيوقف - الخارج على القانون وكلمة السواء - بالقتال إن لم يكن إيقافه بغير قتال، من أي دين كان هذا المعتدي. ويطلق عليهم في المصطلح الإسلامي (الخوارج) و (البغاة).
فلهذا سمى المسلمون الخلفاء الأربعة بعد الرسول (راشدين) ؛ لأنهم لم يأخذوا الحكم بالسيف والقهر، ولم يجعلوا الحكم بعدهم لأولادهم بالوراثة. ولم يسمّ المسلمون خلال تاريخهم كله أحداً من الحكام بعد ذلك راشداً، لأنه من ذلك التاريخ إلى يومنا ها، بقي الحكم بالسيف في كل العالم الإسلامي. فهم وإن عجزوا عن إعادة الرشد عملياً في حياتهم الواقعية، إلا أنهم لم يضيعوا معنى الرشد، وفهموا الرشد ليس على أنه صنع إنساني، وإنما على أنه صنع إلهي، أكرم الله به الرسول وأصحابه، فهذا هو خطأ المسلمين وخطأ العالم المعاصر لهم والسابق عليهم. ولم يتحول الرشد إلى صنع إنساني إلا في الديمقراطيات الحديثة المتأخرة جداً، فالقرآن رسخ في أذهان الناس أن الحاكم الذي يأتي بالإكراه لا يكون راشداً، إنما هو طاغوتٌ وغير شرعي، ولكنهم عجزوا عن فهم إمكانية إعادة الحكم الشرعي بغير عنف، فرجعوا إلى قبول العنف في صنع الحكم، ودخلوا في دائرة شريعة الغاب مرةً أخرى، ولم يخرجوا منها إلى يومنا هذا، وربما يمكن أن نقول إن: تركيا وحدها قبلت التحدي الديمقراطي في العالم الإسلامي، وهو البلد الذي قلد الغرب ونبذ الدين بثورة شبيهة بالثورات الغربية، ولكن الآن هذا البلد الذي سبق العالم الإسلامي كله في إلغاء الإسلام والحكم الإسلامي غير الراشد، يعيد نفس هذا البلد الرشد، أو صنع الحكم على طريقة الرشد، ويمكن إذا تعمق هذا الاتجاه أن يعود الرشد إلى العالم الإسلامي كله، كما تدخل أوربا الغربية إلى الاتحاد بالرشد.
هذه الأحداث التاريخية أحداث مهمة ونمو في الحركة الإنسانية. وعلينا أن نستبشر بها لنُسَرِّع من حركتها، لا أن نتوجس منها ونخاف، لأن الذين يخافون منها خشية أن يفقدوا امتيازاتهم، ليست في محلها ؛ لأن هذا التقدم الذي يحصل في العالم لصالح الجميع، ومن لا يفهم هذا ينبغي أن نساعده في فهم ذلك، ومهما كان فهم ذلك صعباً، فعلى أهل الفهم والعلم أن يبينوا حتى لأصحاب الامتيازات أنهم لن يخسروا شيئاً غير الخوف الذي عندهم وسيكسبون الأمن، وليس علينا إلا الفهم والتفهيم.
ثالثاً - علاقة هذا المجتمع ؛ مجتمع العدل وكلمة السواء مع بقية المجتمعات. القرآن لا يريد من بقية المجتمعات في العالم إلا أن يتركوا أمرين اثنين فقط:
1- قتل الناس لأجل دينهم، أي من أجل أفكارهم وعقائدهم وتفسيراتهم وصورهم الذهنية مهما كانت هذه الصور.
2- تهجير الناس من ديارهم للأسباب السابقة نفسها.
فإذا تركت المجتمعات هذين الأمرين فقد استحقت الإحسان والعدل. يقول القرآن:
(لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) ] الممتحنة: 60/8-9 [.
ويقول القرآن أيضاً - مخاطباً مجتمع العدل - عن المجتمعات الأخرى:
(فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً … فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً) ] النساء: 4/90-91 [.
هذا هو دستور القتال والجهاد في القرآن، فكل مجتمع لا يمارس القتل والتهجير لأجل الأفكار، فهذا المجتمع حمى نفسه وماله بحسب شريعة القرآن ومجتمع القرآن. وكل قتال خارج هذه الشروط، فهو قتال الطاغوت وقتال الجاهلية، ليس القتال الذي سمح به القرآن. ويقول القرآن: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) ] النساء: 4/76 [.
وما دام هناك قتل للناس وتهجير لهم من ديارهم لأجل آراءهم، فقد أعطى القرآن لمجتمع العدل - الذي صنع نفسه بالشرعية - سلطاناً مبيناً ليوقف هذا القتل والتهجير بكل الأساليب التي توقف هذا القتل والتهجير بأقل الوسائل كلفة، وبالقتال الشديد إن لم يمكن إيقافه بغير القتال. فهذا هو القتال المشروع في القرآن، فكل الآيات التي تأمر بالقتال متوجهة إلى المجتمع الذي يلتزم بهذه الشروط