مما لا شك فيه أن جل الحكومات العربية تتمتع بفساد فاحش ينخر جسد الأمة و ينهش عظامها و يقضي على أحلامها و يهين مشاعرها و يسلب ارادتها. فالحكومات العربية قد سدت كل القنوات الحزبية و حبست الأقلام الحرة, وبالتالي فأنت لن تجد وسيلة أو طريقة لمعرفة رأي الأمة في اي حكومة عربية, ولن تستطيع أن توصل رأيك للحكومة المعصومة..

في المقابل نجد أن هناك تيار ديني يتفاقم و يتضخم و يحارب الدولة بعنف. وهذا التيار لا يقبل ايضا أي حزب ليبرالي أو ديموقراطي, وضد التطور الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي. أيضا هو يعاني كثيرا من ذكر أمريكا و بريطاننيا ولا يؤيد قبام علاقة مع هاتين الدولتين رغم أن لهذين الدولتين تأثير مباشر لاقتصاد اي بقعة في العالم..!

نحن كشعوب أمام مصيبة لا أعتقد أنها ستزول قريبا. فاما أن نرضى بالفساد القائم أو نقف مع التطرف الاسلامي وهو مرعب و كئيب وليس لديه حقيبة مطمئنة على المدى القصير أو البعيد..!

فالحاكم فاسد تعضده أمريكا و ترسم له برامج القمع على الأمة وتناهض الفكر الحر. و الاسلاميين يحاربون الحاكم ولكنهم أيضا ضد الفكر الحر دون شروط أمريكية: اي أن النتيجة واحدة..

و النتيجة الواحدة تقلقني كثيرا. لأن المستفيد واحد وهي بالطبع أمريكا. أي قد يكون لأمريكا دور مباشر في قيام هذا التيار الديني الذي قضي على كل حر في الأمة. وهذه السياسة الأمريكية خيرت الأمة بين سيئين لا ثالث لهما. اما الدولة الفاسدة واما الاسلاميين. والعاقل يرى أن الفساد المنظم أفضل من فوضى الاسلاميين: وهذا ما تريده أمريكا لحماية أزلامها في الشرق الأوسط..

فما الحل..؟!!


حسام راغب..

اقتباس:  حسام راغب   كتب/كتبت  
 
الحاكم فاسد تعضده أمريكا و ترسم له برامج القمع على الأمة وتناهض الفكر الحر. و الاسلاميين يحاربون الحاكم ولكنهم أيضا ضد الفكر الحر دون شروط أمريكية: اي أن النتيجة واحدة..

و النتيجة الواحدة تقلقني كثيرا. لأن المستفيد واحد وهي بالطبع أمريكا. أي قد يكون لأمريكا دور مباشر في قيام هذا التيار الديني الذي قضي على كل حر في الأمة. وهذه السياسة الأمريكية خيرت الأمة بين سيئين لا ثالث لهما. اما الدولة الفاسدة واما الاسلاميين. والعاقل يرى أن الفساد المنظم أفضل من فوضى الاسلاميين: وهذا ما تريده أمريكا لحماية أزلامها في الشرق الأوسط..

فما الحل..؟!!
حسام راغب..

عزيزي حسام ،
أرى بان امريكا اليوم هي غير امريكا التي لطالما قلنا عنها ما تقوله انت اعلاه !
أمريكا اليوم ترفع شعار القضاء على الارهاب و المقصود به الارهاب الذي يقوم به الاسلاميون ن قبل غيرهم . و امريكا ما عادت تدعم الحاكم العربي كما كانت تفعل في السابق بل بشروط تكاد تقصم ظهره . فما موافقة مبارك على تقدم الاسلاميين للانتخابات الا بضغط امريكي و ما موافقة عباس فلسطين بتقم حماس الى الانتخابان الا بضغط امريكي و ما تطوير الانظمة الخليجية المتسارع الا بضغط امريكي و ما تطوير المناهج العربية في الدين و الاجتماع الا نتيجة للضغط الامريكي ... الخ .
فهل بعد كل هذا تقول بان امريكي تشجع على ظهور الارهاب السلفي و الحكم السلفي !! افلا تقرا ما يتكرر عن دعم امريكا للمعتدلين من العرب !!!

اما عن الحل فاراه حاليا بيد امريكا ، تماما كما كان منذ خمسين سنة . و ما علينا الا تنسيق الفعلاقة معها لانها تبقى اهون الشرور بعد الحكام الفاسدين و السلفيين الرجعيين و علينا ان نستغل الشعار الامريكي الحالي و الذي ينادي بدعم الديموقراطية و القضاء على الارهاب !

تروى يا عزيزي في حكمك ، و لك كل التقدير من آورفــاي :97:

الحل هو الإصلاح الديني .... اولا ....

و سيليه لاحقا الاصلاح السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي .....

حازم صاغيّة
الجمعة 5 كانون الثاني (يناير) 2007
وسط الكلام الشائع والمتكرّر عن «أزمة» العرب و«محنتهم» و«تخلّفهم»، يتراءى أن سببين اثنين، لا يحظيان بما يستحقّان من تركيز، يلعبان في هذا التردّي دوراً مفتاحيّاً: أوّلهما أننا، تبعاً لمركزيّة الدين في حياتنا العامّة، لم ننتج مفهوماً زمنيّاً وحديثاً لفكرة الشرعيّة السياسيّة، والثاني أننا لم نتصالح، حتّى اللحظة، مع مفهوم الدولة ـ الأمّة Nation-State.

فنحن، العرب، لا نزال في حاجة الى سند دينيّ يبرّر أخذنا بالقيم الحديثة، أكانت قوميّة واشتراكيّة أم ديموقراطيّة ورأسماليّة وليبراليّة. حتّى في ذروة الحقبة القوميّة، إبّان الناصريّة وانتصاراتها، ظلّ اعتناق القوميّة أو الاشتراكيّة أو غيرهما من المفاهيم مشروطاً بالبرهنة على جواز هذه المفاهيم في القرآن والسيرة المحمّديّة. وهذا حتّى لا يُشار الى المرحلة الحالية التي كانت دشّنتها الثورة الإيرانيّة في ,1979 واجدةً تتويجها الراهن في تنظيمات يبلغ اللبس فيها بين السياسيّ والدينيّ مبلغاً أقصى. وإذ لا تزال الحرب تُعتبر «جهادا»، ولا يزال الحاكم الصالح «حبيب الله»، والحاكم السيّئ «عدوّ الله»، يلوح تطوير مفهوم زمنيّ للشرعيّة وللسياسة شرطاً شارطاً لعدم الارتداد الى الماضي أمام كلّ ما يواجهنا من مشكلات الحداثة وتحدّياتها. فكأنّنا، والحال هذه، لا نملك في مواجهاتنا مع المشكلات المذكورة إلاّ ما جرّبه الأسلاف وأورثونا إيّاه، فورثناه طائعين نعود اليه المرّة بعد المرّة، نستنطقه ونذعن إليه، متبرّعين بسبب وجيه من الأسباب التي يقتات عليها النموّ الأصوليّ.

وهي مهمّة تنقلنا فوراً الى موضوعة الإصلاح الدينيّ ذات الإلحاح القاهر، والتي ستكون البند الحاكم لعمليّة الإصلاح السياسيّ نفسه، ما دام الأخير لم ينتزع شرعيّته من الحقل الدينيّ بعد ولم يستقلّ عنه. وعلى النحو هذا يصحّ القول إن الإصلاحين الدينيّ والسياسيّ يكادان يكونان، في بلداننا، وجهين للعملة ذاتها.

فالراهن أن القيم التي واجه بها المسلمون تغيّرات عالمهم، مع وفادة أوروبا، لم تمسسها يد التغيير عميقاً. هكذا تُرك المجال للخرافة تتكدّس في وعينا، الجمعيّ منه والفرديّ، ناسبةً نفسها الى الدين، وراقيةً بذاتها الى المقدّس، مثلما حوفظ على تأويل النصّ الدينيّ بحَرفيّة جامدة وقاتلة. فمع أواخر القرن التاسع عشر، حدث الانقلاب الكونيّ الذي زلزل العالم القديم، مُثيراً من المسائل، وموجداً من الحاجات، ما لم يكن مسبوقاً. آنذاك ابتدأ الاحتكاك مع نظريّات الشرعيّة السياسيّة، على ما تدلّنا كتابات أحمد لطفي السيّد، مثلاً لا حصراً، مطالع القرن التالي. والسيّد كان واحداً من تلامذة الشيخ محمّد عبده، صاحب النقد الأعنف والأعقل لثورة أحمد عرابي وضيق أفقها ونازعها الاستبداديّ.

لكنّ الاستجابة للجديد بقيت، في معظمها، تغلّب التمسّك بالموروث، والانكفاء عن معانقة الجديد، لمجرّد أنه من محمولات الاستعمار البغيض. وقد انطلق عدّ عكسيّ بعد البدايات الإصلاحيّة المتواضعة لعبده، فلم يكن بلا دلالة أن أحد تلاميذه، الشيخ رشيد رضا، ارتدّ الى نهج متشدّد فيما تأسّست، عام ,1928 حركة الإخوان المسلمين بزعامة حسن البنا. وفي الخمسينيات والستينيات انتهت الحركة هذه، وهي الأبكر والأكثر تأثيراً بين مثيلاتها، الى ذروة تطرّفها مع سيّد قطب الذي عُدّ لاحقاً الأب الروحيّ للاتّجاهات الأشدّ سلفيّة وراديكاليّة. ولمّا كان التطرّف دينيّاً وسياسيّاً معاً، أكّد قطب، كما هو معروف، اننا نعيش في جاهليّة لا تعود حاكميّتها الى الله، فيما لا ينبغي للمسلم أن يعيش في غير الحاكميّة الالهيّة، مجدّداً الربط بين الدينيّ والسياسيّ، وباعثاً على تجديد الإلحاح على الطابع التكامليّ لإصلاحهما معاً.

وعلى يد قطب حصل التلاقُح مع تعاليم ابو الأعلى المودودي وتلميذه أبو الحسن الندوي، لكنه تلاقحٌ ضاعف التردّي القائم أصلاً. ذاك ان الإسلام الآسيويّ أقلّ تعرّضاً من الإسلام العربيّ لاتّجاهات الاصلاح والتحديث. وهو، أيضاً، أشدّ توتّراً وعداءً للآخر (الهندوسي والغربي)، بنتيجة تجربته الأقليّة الخاصّة في شبه القارة الهنديّة، ومزاودته من موقع الغريب على الثقافة العربيّة ولغتها بالموقع الذي تحتلّه اللغة في كتابها المقدّس.

والحال أن الاستعمار والرضّة العميقة التي أحدثها ليسا السبب الوحيد وراء ضعف الاصلاح وميوله. وهذا ما تكشفه مصائر مشروع محمد عبده الذي اعتبر أن تجديد المؤسّسات الدينيّة مُحتّم الوجوب، وهي مصائر تحكّم بها الاستبداد وكيّفها بموجب حاجاته. فقد أعاد الشيخ المصريّ النظر في وظائف المؤسّسات المذكورة، واضعاً خطّته لإصلاح الأزهر، أقدمها وأهمّها في العالم الإسلاميّ. وكان من تأثيرات هذا المناخ، أن أقدم تلميذه سعد زغلول، كوزير للتربية بين 1906 و,1910 على تأسيس مدرسة القضاء الشرعيّ الخاضعة لسيطرة الدولة. وغالباً ما قيل إن المدرسة تلك كانت أشدّ الإجراءات التي اتّخذها زغلول دراماتيكيّة قبل تأسيسه «حزب الوفد» ثم قيادته الى الاستقلال. وبالفعل لم يكتم يومها الأزهريّون المحافظون اعتراضهم ومخاوفهم التي ذهبت بهم بعيداً.

وفي العهد الناصريّ قطعت الاصلاحات، وجذرها البعيد مقيم في تعاليم عبده، شوطاً. ففي 1956 ألغيت المحاكم الدينيّة، وأحيلت الأحوال الشخصيّة الى محاكم مدنيّة، على أن تُطبّق فيها الشريعة بعدما عدّلتها القوانين. وإبّان تولّي الشيخ محمود شلتوت (توفي في 1964) مشيخة الأزهر، استُبدل المنهج الدينيّ والتقليديّ بمنهج معاصر، وحُوّل الجامع جامعةً تدرّس الموادّ العلميّة والطبيّة وغيرها. بيد أن الاصلاحات لم تؤدّ غرضها، لسبب بسيط مصدره الطبيعة العسكريّة للناصريّة: فهي إنّما فُرضت من منصّة السلطة من دون أن يتاح للمجتمع نفسه التفاعل معها، كي لا نقول إنتاجها. وكنّا رأينا، مع الاختلافات والفوارق، المصاعب التي واجهت مشروعي أتاتورك ورضا شاه في تركيا وإيران، والإخفاق الذي انتهى اليه مشروع أمان الله خان في أفغانستان، في عشرينيات القرن العشرين. ورأينا، كذلك، النجاح المحدود لمشروع الحبيب بورقيبة في تونس، هو الذي أغلق الزيتونة لتعود، في ,1990 بعد إزاحته، جامعة مدنيّة على غرار الأزهر. ومن هذا القبيل شاهدنا مؤخّراً كيف أقدم الرئيس الباكستانيّ برويز مشرف، والرئيس اليمنيّ علي عبد الله صالح، على وضع المساجد والمدارس الدينيّة وخطب الجمعة تحت سيطرة الدولة، وهي حالة معروفة و«طبيعيّة» في معظم الدول العربيّة. إلا ان هذا لا يؤدّي الى إصلاح دينيّ، فيما قد يفضي الى تمكين قبضة السلطة على المجتمع، على ما هي الحال في أوضح صورها في سوريا، وتحويل الدين، تالياً، ذريعةً للحاكم، وجعل رجاله موظّفين لديه. ولمّا كان أغلب السلطات مكروهاً، ضعيف الشرعيّة، انتهى الأمر تعزيزاً للتيّارات الدينيّة الأشدّ راديكاليّة وسلفيّة، التي بدا أنها وحدها من يصون التقاليد ويُديمها. هكذا توصّل علي عبد الله صالح الى تسوية مع صاحب «جامعة الإيمان»، الشيخ عبد المجيد الزنداني، تقاسما بموجبها مصادر التأثير في عقل المجتمع، وهو شبيه بالتنازلات المتواصلة التي تقدّمها السلطة البعثيّة في دمشق للمرجعيّات الدينيّة في ميادين الثقافة والتعليم. وعلى العموم، أُفرغت الاصلاحات من مضمونها، خصوصاً أن القطيعة السياسيّة مع الغرب وتراجع المعرفة باللغات الأجنبيّة في معظم البلدان التي حكمتها النُظم القوميّة ـ العسكريّة، أثّرا سلباً على تعليم المجتمع بأكمله، وكان من تحصيل الحاصل أن يتضاعف تأثيرهما على المؤسّسات ذات الأصول الإسلاميّة، كالأزهر، التي يقصدها أبناء طبقات اجتماعيّة مأزومة اقتصاديّاً تتمكّن منها التقاليد الشعبويّة. في المقابل، ظلّ النسج على منوال الاصلاح الأوروبيّ أمنية تداعب مخيّلات قبضة من المثقّفين العرب والمسلمين. والاصلاح المقصود هو ما هزّ الحياة الدينيّة لأوروبا ابتداء بالقرن السادس عشر، مؤدّياً الى ولادة الكنائس البروتستانتيّة، بعدما تشكّل في القواعد المجتمعيّة التي مثّلها أفراد من داخل المؤسّسات الدينيّة شاؤوا إصلاحها قبل أن يخرجوا عليها.

فالكنيسة الكاثوليكيّة الدائرة حول الفاتيكان، مارست تأثيرها السلبيّ المديد على القوانين وأفكار السيادة السياسيّة والبُنى المؤسسيّة والذهنيّة للمجتمعات المعنيّة. أمّا دورها المهيمن فاستند الى رفض كل نسبيّة أو انشقاق «هرطوقي» أو فكر حرّ ومستقلّ. وهذا، بالأحرى، نابع من الكاثوليكية نفسها بوصفها تعني، لغةً، الصلاح الكونيّ والمطلق الذي لا يقبل التجزئة.

فلما استحال الاصلاح من الداخل خرج المصلحون عن الكنيسة، مستفيدين من تطوّرات موضوعيّة جعلت انشقاقهم قابلاً للحياة. فالكنيسة المصابة بالجمود، ما عاد يسعها التعايش مع توسّع التعليم الذي حمل الناس على التفكير بطرق جديدة. وبدوره، قرّب اختراعُ الطباعة المسافة بين المعارف، مثلما باتت ممكنةً دراسة كتابات آباء الكنيسة المبكرين ومقارنتها بكنيسة ذاك العصر. ولئن كشفت المقارنة أن التحوير قد لازم عمل الكهنوت، سمح انتشار الانجيل بالمعرفة الشعبيّة للدين، فضلاً عن التعدّد في تأويله. وفي الاتّجاه نفسه دفعت بواكير الوعي الوطنيّ، وانشقاقُ اللاتينيّة الى عدد من اللهجات الأوروبيّة التي تحوّلت لاحقاً لغاتٍ قوميّة. وبالنتيجة، آثرت شعوب أوروبا وضع الكنائس في عهدة كهنة محليّين بدلا من هيمنة الفاتيكان «الغريب». وبطبيعة الحال، تعاظمت تحفّظات المتعلّمين على عجز الكنيسة عن مواكبة العصر ومسائله. وترتّب على التحوّل هذا تحوّل آخر طاول تصوّر السياسة والسلطة بوصفهما يقعان ضمن نطاق الخيار وفي حيّز ما هو مرئيّ ومباشر ومقروء، بقدر ما نُزع عنهما التسحير بوصفه مصدراً للشرعيّة المستقاة من المقدّس.

وكان مما علّمه رائد الاصلاح الألمانيّ مارتن لوثر أن السلطات العليا يمكن أن تخطئ، وأن كلّ مسيحيّ كاهن أمام الله، فيما البابويّة، عنده، خالفت تعاليم المسيح في الجوانب المعتقديّة نفسها. ورأى لوثر أن ضمير الانسان وعقله والكتاب المقدس هي مجتمعةً المرجع الذي يحتكم اليه المؤمن. والأهمّ، ربّما، أنه طوّر نظريّة «المملكتين»: أبرز مداخلات البروتستانتيّة في السياسة. والمملكتان المقصودتان هما الكنيسة والدولة حيث تنبع ضرورة الأخيرة من عدم وجود الإيمان أو عدم شموله.

والحقّ أن النظريّة هذه تغاير مثيلتها الكاثوليكيّة التي أقرّت بالحاجة الى السلطة السياسيّة (Potestas Coactiva) بوصفها نتيجة من نتائج الخطيئة الأصليّة، بينما قبلت بوجود الدولة الإداريّة وحدها (Potestas Directiva) في معزل عن الخطيئة. وكانت حجّة لوثر أنه، كائنة ما كانت طبيعة الحكم الزمنيّ ونوعيّته، ينبغي عدم الخلط بين المملكتين. فلا يجوز، بالتالي، تسييس المقدّس كما لا ينبغي تقديس المُسيّس.

وما لبثت أن ظهرت حركة مماثلة في سويسرا قادها أولريش زوينغلي، فيما وقعت مدينة جنيف تحت تأثيرات الكاهن الاصلاحيّ الفرنسيّ، الهارب من بلده، جون كالفن. وعمل الأخير، وهو الأكثر تشدّداً، على تحويل اللاهوت مادّةً للدراسة الأكاديميّة، ما جعل من الممكن إنتاج رجال دين مثقفين. وما لبثت الكالفينيّة أن عبرت الى اسكتلندا عبر جون نوكس، ثم انتشرت في معظم أوروبا.

وحدها الاصلاحات الانكليزيّة خلال 1529ـ1536 بدأت سياسيّة وسلطويّة أكثر منها دينيّة وقاعديّة، اذ وجدت ذريعتها في زواج هنري الثامن الذي رفضه البابا، فيما توافقت تاريخيّاً مع صعود الاستبداد السلاليّ المطلق في بلد أوروبيّ مركزيّ. ووراء تلك الإصلاحات كان الهدف الفعليّ توحيد المصدرين الدينيّ والزمنيّ للسلطة في حاكم سيّد أوحد. وللغرض هذا، صير الى حلّ الأديرة، فاستولت السلطة والملك على أملاكها التي أُنفق بعض عوائدها على التعليم. ولاحقاً قامت الكنيسة الانكليكانيّة بالاصلاحات الجذريّة التي حوّلت قرار هنري الى واقع مجتمعيّ. ففي عهد ادوارد السادس أصدر الانكليكان إنجيلاً خاصّاً تفرّع عنه ما عُرف بـ«كتاب الصلاة»، وهو تلخيص عمليّ للكتاب المقدّس ممزوج بمصادر وطنيّة وفولكلوريّة وبلدياتيّة من خارج المسيحيّة التقليديّة.

باختصار، كان الاصلاح التحدّي الذي واجه الكنيسة الكاثوليكيّة في سلطتها ومعتقدها وطقوسها، من موقع حريّة التفكير والتجاوب مع الحاجات المستجدّة. إلا ان التحدّي هذا سريعاً ما تلقّفته الكاثوليكيّة وحاولت أن تتكيّف على ضوئه. وقد بدا من علامات الاستجابة الأولى ظهور اليسوعيّين الذين أسّسهم الراهب الاسبانيّ اغناطيوس لويولا في القرن السادس عشر. فهؤلاء، على اختلاف التقويمات اللاحقة لدورهم الـذي يبقى رجعيّاً في عمومــه، جمعــوا بين النشاطين التبشيريّ والتعليمـيّ اللاهث للحاق بالجديد. وقد استمرّت محاولات كهذه الى أن ظهر في نيــويورك، أواخـر القرن التاسع عشر، كاهن كاثوليكيّ إصلاحيّ هو جيمس أوكونّور، فدمج بعض تعاليم البروتستانتيّة في الجسم الذي بات يُعرف بـ«الاصلاحيّة الكاثوليكيّة».

لكن النقلة النوعيّة حصلت مع المجمع الفاتيكانيّ الثاني (1962ـ1965) في عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين. فقد فُتح الباب لعلمنة بعض الوظائف الاداريّة للكنيسة، ولمراجــعة طقــوسها. وهذا فضلاً عن تنــازلات ما زالت تتــتالى في مسائل اجتمــاعيّة وجــنسيّة، وفي بعض القراءات التاريخيّة التي تتّصل بالكنيســة وأدوارها. وقد انطوت هذه العملية التسوويّة مع العصر، ومع غير الكاثوليك، على اعتذارات متفاوتة لشعوب وأديان ومثقّفين وعلماء ذهبوا ضحايا محاكم التفتيش الكاثوليكيّة، أو ضحايا مواقف مشينة أخرى وقفتها الكنيسة في تاريخها الطويل. هذه الخضّة في صلب الجسد الداخليّ ما نحتاجه، بحيث تغدو المؤسّسة الدينيّة هي المطالَبة بالبرهنة على شرعيّتها واللهاث وراء ما تأتي به الحياة، بدلاً من أن تلهث السياسة، في تبرير شرعيّتها، وراء الدين فيما يُسحَل، باسمه وباسم تأويله، كلّ فكر نقديّ وحرّ.

(٭) كاتب لبناني مقيم في بريطانيا

مسألتا مسائل التقدّم العربيّ (2) من دون الدولة ـ الأمّة لا سياسة ولا تحرّر
حازم صاغية
السبت 6 كانون الثاني (يناير) 2007
بعد أن تناولت حلقة الأمس إنتاج شرعيّة زمنيّة للسياسة بالتوازي مع الإصلاح الدينيّ، هنا الحلقة الثانية والأخيرة:

إذا شكّلت موضوعة الإصلاح الدينيّ ـ السياسيّ، وانتزاع شرعيّة من خارج الدين تستند اليها الحياة العامّة، المسألة الأولى التي يرتهن بها التقدّم العربيّ، فإن المسألة الثانية هي، حصراً وتعريفاً، الرسوّ على إدراك واضح وقاطع للدولة ـ الأمّة.

والواقع ان الاختلاط المفهوميّ لم يضربنا كما فعل ويفعل على الجبهة هذه. فمراتٍ كثيرة نقرأ تعابير من نوع «أمّة عربيّة»، و«وطن عربي»، و«مجتمع عربي»، يسهو مردّدوها عن حقيقة بسيطة من حقائق الحداثة السياسيّة هي أنه: لا أمّة ولا وطن ولا مجتمع من دون... دولة. حتى الأوروبيّون الذين فكّروا في بناء اتّحادهم، المتعثّر راهناً، انطلاقاً من توحيد العملة، لم يقولوا مرّة: «وطن أوروبي»، أو «أمّة أوروبيّة»، أو «مجتمع أوروبي»، إذ في أوروبا، كما في العالم العربيّ، ثمّة أمم وأوطان ومجتمعات يساوي عددُها عددَ ما هو قائم من دول.

والحقّ ان دور الموضوع الفلسطينيّ، واعتباره «قضيّة العرب الأولى»، ومن ثمّ ظهور «وحدة النضال العربي» شعاراً ومهمّةً يستجيبانه، لعب دوراً فائقاً في تمويه الدولة ـ الأمّة بوصفها الوحدة Unit التي يقوم عليها التبادل السياسيّ في العالم بأسره، تماماً كما أن العملة هي وحدة التبادل النقديّ في العالم إيّاه. فما دام لا يوجد جواز سفر عربيّ أو إسلاميّ، ولا تمثيل دبلوماسيّ عربيّ أو إسلاميّ، فإنّه لا وجود لوطن عربيّ أو إسلاميّ إلاّ في السيناريوهات الايديولوجيّة النسبيّة جدّاً والخلافيّة كثيراً، وهو ما لا تستطيع «قضيّة» واحدة، مهما كانت مهمّة ومهما أُسبغ عليها من صفات «القداسة» و«التوحيد» إحداثه. فنحن، في آخر المطاف، لا نعيش وحدنا في معزل عن سائر الكون، ولا يمكن لوحدات التبادل بيننا أن تختلف الى ما لا نهاية عن الوحدات المعمول بها كونيّاً، وعن الفكر السياسيّ الذي ألهم تشكّلها وطرق اشتغالها.

والحال أن اكتشاف «الدولة ـ الأمة»، وهو بذاته ليس تعبيراً قليل الدلالة، كان من أهمّ اكتشافات الحداثة السياسيّة، ومن أهمّ أعمدتها كذلك. فتاريخ أوروبا مسكون بالدولة، منذ التمرين الأوليّ عليها في صيغة الدولة ـ المدينة Polis اليونانية. لكن هذا الكيان المكتفي ذاتيّاً، ارتبط بوجود عدد ضئيل من السكان، وبنزاعات متواصلة مع الجوار القريب، فضلاً عن دور العوامل القرابيّة والدمويّة في سياسته. مع ذلك، عامل أفلاطون وأرسطو الدولة ـ المدينة بوصفها الشكل النموذجيّ للاجتماع، الذي يوفّر إشباع حاجات الجماعة، دينيّاً وثقافيّاً، سياسيّاً واقتصاديّاً. ووصل الأمر بأرسطو الى أن يراها أداةً لتنمية الأخلاقيّة وتعزيزها في الطبع الانسانيّ.

وقد تطوّر الفكر السياسيّ الأوروبيّ كلّه في موازاة الانكباب على مسألة الدولة. ففي القرن السادس عشر اعتبرها الإيطاليّ نقولا مكيافيللي والفرنسيّ جون بودان القوّة المُمركِزة التي تحفظ الاستقرار وتضمنه. هكذا شدّد الأوّل على مواصفات الحاكم، والتخلّص من ازدواجيّة السلطة بين الهيئات الزمنيّة والفاتيكان، واهتمّ الثاني بمقوّمات السيادة التي ذهب بعيداً في تنزيهها حتى أُخذ عليه أن أفكاره برّرت للحكّام الاستبداديّين استبدادهم. وهذا ما واكبته أفكار جون لوك وثوماس هوبز في انكلترا، وجون جاك روسّو في فرنسا. وفعلاً استمرّ التنظير السياسيّ في موازاة الدولة وانبنائها وصولاً الى القرن التاسع عشر، حين اعتبر الألمانيّ غيورغ هيغل ان حيّز الحريّة هو الدولة التي هي التتويج الأكمل لتطوّر الفكرة وللجهد الأخلاقيّ في آن معاً.

أمّا قابلة ولادة الدولة ـ الأمّة في أوروبا، فكانت معاهدة وستفاليا التي وضعت في 1648 حدّاً لحرب الثلاثين عاماً. والحرب هذه كانت، بالأحرى، حروباً عدّة بين دول وأديان وجماعات وعائلات سلاليّة متداخلة. فكان لتسوية وستفاليا أن أنهت عمليّاً الامبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة، مع ان الأخيرة ظلت تترنّح حتى إعلان وفاتها في صورة رسميّة عام .1806 فقد اعترفت بالسيادة الكاملة لكلّ من الإمارات الألمانيّة من ضمن الامبراطوريّة، فضمّت أراضي الى بلدان معينة، وثبّتت سيادات بعض الدول على أراضٍ مُتنازَع عليها. وبدا من «الطبيعي» أن تعارض البابويّة اعتراف المعاهدة بالسيادة الترابيّة الكاملة للدول الأعضاء في الامبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة التي غدت سلطتها بالغة الشكليّة.

أمّا عندنا فاختلفت التجربة التاريخيّة من غير أن نستطيع اشتقاق بديل من الدولة ـ الأمّة يستخلص ذاك الاختلاف أو يبلوره. ذاك أن السلطنة العثمانيّة بقيت دولة خارجيّة تقتصر عنايتها بسكّان أراضيها الشاسعة على تأمين الضرائب منهم، وتجنيد المقاتلين من بينهم، آخذةً بضرب مبكر من التعدديّة التراتبيّة التي تمتّن ازدواج الجماعات مع الدولة، من غير أن تعمد الى إنشاء نسيج اجتماعيّ على قدر من التوصيل والانسجام. هكذا تُرك سائر الوظائف المنوطة بالدولة، تعليماً واقتصاداً ورعايةً، خارج نطاق اهتمامها، منوطاً بسادة المناطق المحليّين.

كذلك ظلّ الموضوع بعيداً نسبيّاً عن اهتمامنا الثقافيّ. حتّى ابن خلدون الذي عُدّ مؤسّس ما ـ قبل علم الاجتماع، واهتمّ اهتماماً غير مسبوق بها، ظلّت الدولة تعني له حكم أسرة بعينها، أو الديمومة الزمنيّة والمكانيّة لسلطة عصبيّة، أو أخرى، من العصبيّات، على النحو هذا رأيناه يتحدّث عن دولة «بني» كذا، وعن دولة بني كذا داخل دولة بني كذا.

فالدولة، في موروثنا الثقافيّ، عادلت إمّا القوّة والسطوة، ما يسهم في إنشاء السلطة والسيطرة، لا الدولة والهيمنة، أو التقلّب والتغيّر تبعاً لجذرها العربي «دوْل»، وهو ما يعني الدوران والتحوّل والانصرام، أو العهد الذي ينقضي فيما يلعب الحظّ دوره في انقضائه ذاك. وهذا، على ما لاحظ مرّة جورج طرابيشي، ما عناه ابن المقفع في «الدنيا دول»، أو ما حمله البيت الشهير لأبي البقاء الرنديّ:

«هي الأمور كما شاهدتها دولٌ/ من سَـرّه زمنٌ ساءته أزمان». فالتقلّب الذي ينطوي عليه معناها (دال، يدول) هو، تعريفاً، عكس الثبات القائم في الأصل اللاتينيّ لكلمة دولة، وهو Status التي تعادل معنى الوضعيّة الدائمة التي لا يعوزها الرسوخ والتوطّد. وإنّما عن الأصل هذا تفرّعت State الانكليزيّة، وEtat الفرنسيّة. فحين وفد الاستعمار إلينا حمل معه هذا الشكل التنظيميّ الذي عرفه من تجربته، فحاول جعل الدولة ـ الأمة وعاءً لهذا الكمّ من الشعوب التي خلّفها انهيار السلطنة العثمانيّة وراءه. ومفهومٌ يومها أن يتمرّد سكّان المناطق المتعرّضة للاستعمار على الكيانات هذه بوصفها ثمرة إرادة غازية تأخذ في اعتبارها مصالحها، وهو من طبيعة الحال، أو بوصفها نتاجاً للتجزئة، علماً بأن هذا «المُـجزّأ» لم يكن مرةً موحّداً حقّاً بالمعنى السياسيّ، وإن كان موحّداً كمعطى طبيعيّ ـ جغرافيّ. أمّا أن يستمرّ عدم التكيّف مع الدولة ـ الأمة رغم انقضاء عشرات السنين من العيش فيها، والخضوع لأنظمتها الاقتصاديّة والتعليميّة، ولطرق مواصلاتها، ولتبادل عملتها، وللاشتراك في رموزها، وللاستفادة من مصالحها، فهذا بمثابة إعاقة كاملة لعمليّة معاصرة عصرنا والاندراج فيه وفي تشكيلاته السياسيّة.

والمسألة، كما بيّن الغزو العراقيّ للكويت في 1990 وإعادة «الفرع» الى «الأصل»، ليست ترفاً ثقافيّاً. فهي، حتّى وإن ضمرت في سطح الكلام السياسيّ، تبقى تداعب مخيّلة أعداد ضخمة من الجماهير والنخب، على السواء، في العالم العربيّ. وقد رأينا فجأة يومذاك كيف استلّ هؤلاء حججهم عن الكيانات «الاصطناعيّة» التي لا تستحقّ الحياة، علماً بأن أكثر من 90 في المئة من البلدان الأعضاء في الأمم المتّحدة كيانات مولودة في القرن العشرين، إما بعد الحرب العالميّة الأولى أو بعد الحرب الثانيّة.

لكنّ الكارثة التي رأيناها مُـجمّعةً في فعلة صدام حسين عام ,1990 نراها مُـفرّقة على نحو يوميّ: فبأقلّ من دعوة وحدويّة ناجزة، وهو ما سُمّي «الأخوّة»، رُهن التطوّر اللبنانيّ تبعاً لمصالح السلطة السوريّة وتطلّعاتها، وأُحكم ضمّ جنوب اليمن الى شماله من دون أن يستطيع مرور الزمن توسيع القاعدة الشعبيّة في الجنوب لخطوة كتلك. وقد استُخدمت «الأخوّة»، كحدّ أدنى، و«الوحدة»، كحدّ أقصى، لتخجيل الجماعات الصغرى من معارضة الجماعات الكبرى، علماً بأن الحروب الحدوديّة التي تشكّل الغالبيّة الساحقة لنزاعات كوكبنا لا تحدث إلاّ بين «أشقّاء» يربط بينهم غير رابط في الماضي والثقافة الموروثة. وفي هذا جميعاً نوع من الخديعة الايديولوجيّة التي تتيح لفرانكشتاين الذي نصنعه أن يبتلعنا. ذاك أن العرب يبنون دولهم ويوطّدونها ماديّاً وتعليميّاً واقتصاديّاً، وينفقون على تنميتها، لكنّهم يقوّضونها أيديولوجيّاً حين يتحدّثون عن «الوطن العربي» و«الأمّة العربيّة»، فكأنّ الذي يبنونه بيدٍ يهدمونه بالأخرى. وغالباً ما نجد أن عصبيّات أهليّة، عشائريّة ودينيّة، مغبونة في بلدانها، أو ليست في متن السلطة، تتوسّل الدعوة الوحدويّة لتقويض الدولة القائمة، حتى اذا حصل الانهيار غرق الجميع في وحول العصبيّات هذه، وتُركت الوحدة للنسيان.

فبالعودة الى تكوين بلدان كالعراق والسودان ولبنان والمغرب واليمن وغيرها، نجد ان الدعوة الوحدويّة هي دائماً أقرب الطرق الى إخافة أجزاء واسعة من السكّان وتهديد نسيج الوحدة الوطنيّة أو ما هو متوافر منه. وبدل إنفاق الجهد والوقت لتمتين رابطة الدولة ـ الأمّة، وتعزيزها بالدستور والقوانين، تدفع الدعوة الوحدويّة في اتّجاه معاكس تماماً.

حتى مصر، وهي أكثر البلدان العربيّة تجانساً سكانيّاً وتجذّراً في التقليد، كما أنّها أقلّها عصبياتٍ بالمعنى المشرقيّ للكلمة، زاغت أبصارها في العهد الناصريّ عن حقيقتها كدولة ـ أمة. هكذا رأيناها، تحت وطأة وعي قوميّ ولّى زمنه، تقيم في 1958 وحدة مع سوريّا لم تعمّر الا ثلاث سنوات. واذا استثارت هذه الوحدة توتّراً في المنطقة رافقه الحذر من «توسّعيّة مصر»، فإنها أضعفت النسيج الوطنيّ المصريّ نفسه تبعاً لتمسّك الأقليّة القبطيّة بوطنيّتها غير الممزوجة بأي بُعد آخر.

وكنا رأينا كيف آلت مشاريع التخلّص من الحدود الاستعماريّة في أفريقيا الى حروب أهليّة كلّفت وتكلّف الكثير انسانيّاً واقتصاديّاً. كما شاهدنا كيف تراجعت أميركا اللاتينيّة عن الدعوة الوحدويّة المبكرة لسيمون بوليفار وجيله، كي تستقرّ في وعاء الدول القائمة.

ذاك ان الدولة ـ الأمة التي نرفضها في الخطاب الأيديولوجيّ، وقد نعمل على تصديعها، هي عمليّاً أقوى من رفضنا وتصديعنا لها: أقوى لأنّها تصنعنا يومياً على مستوى النظام التعليميّ والسوق الاقتصاديّة ودورة الحياة السياسيّة وعدد لا يُحصى من المشاعر والعادات والرموز والميول والأذواق والأطعمة. ثم إنّها أقوى لأنّه لا بديل لها غير الفوضى المطلقة والتفكّك الشامل.

وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، ان الدول ـ الأمم العربية مدعوّة الى التنكّر لرابطتها العربيّة، أو رابطتها الإسلاميّة. غير ان الرابطة الثقافيّة والحضاريّة تلك لا تترعرع الاّ في أجواء استبعاد الخوف من هيمنة الأقوى والأكبر. فبعد الوحدة المصريّة ـ السوريّة حلّ نفور دام سنوات بين الشعبين، علماً بأن السوريّين كانوا هم من طلب الوحدة أصلاً وبحماسة منقطعة النظير. وبعد حرب اليمن مطالع الستينيات، تغيّرت صورة المصريّ في عين اليمنيّين، تماماً كما انتكست العلاقة بين الشعبين اللبنانيّ والسوريّ حينما ذهبت هذه العلاقة بين الدولتين أبعد مما يجب. أمّا التجربة العراقيّة ـ الكويتيّة، وما تأدّى عنها من علاقات مصريّة ـ عراقيّة وفلسطينيّة ـ كويتيّة، فبالغة الدلالة على انقلاب العواطف في اتّجاه ليس من المبالغة وصفه بالعنصريّة الخام والمبتذلة.

وما تقدّم ليس افتراحاً بسدّ الطريق الى ما لا نهاية أمام الوحدات بين بلدين أو أكثر. بيد أن ذلك ينتظر، أوّلاً، توطيد النسيج الوطنيّ في كل واحد من البلدان المعنيّة. كما يتطلّب، ثانياً، حياة ديموقراطيّة حرّة في البلدان المذكورة يصدر عنها مثل هذا القرار الوحدويّ، استناداً الى معرفة ووعي كاملين بأبعاده ومعانيه. ولهذا لا يستوي التماهي السياسيّ مع دولة بعينها مجرّد شرط من شروط الحداثة، بل هو أيضاً من شروط الرجاحة الذهنيّة الجماعيّة التي يستدعيها الاستقرار، بسبب حيلولتها دون الميول العسكريّة والعنصريّة تتبادلها جماعات مذعورة في ما بينها، فيما يفتح الاطمئنان الى العيش في دول مستقرّة أبواب التعاون بين شعوب تجمعها قواسم عدّة.

ذاك أن الوحدتين الألمانيّة والايطاليّة اللتين غالباً ما استوحاهما القوميّون العرب، ما عادتا قابلتين للتكرار تبعاً لتحقّقهما أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل أن يتشكّل العالم الحديث بدوله وطبقاته وثقافاته ومصالحه. وقد اختلف الأمر، بحيث لم تعد البسماركيّة او الغاريبالديّة الا عدواناً صريحاً على طريقة حياة مستقرّة في دولة ـأمة تشكّلت توازناتها ومصالحها وأنماطها السياسيّة.

وربّما كانت صلاحيّة الدولة ـ الأمّة بعض أهمّ ما برهنته حرب أفغانستان الأخيرة بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وردّاً عليها. فأفغانستان، كما بات معروفاً جيّداً، أحد أضعف بلدان العالم في تعرّضه لتقليد الدولة. كما ان بعض البلدان التي شكّلت مسرحاً للنشاط الارهابيّ، كاليمن والصومال، تتّسم بالعجز إيّاه عن نشر الدولة على امتداد المجتمع كلّه. وقد سبق للبنانيّين أن اكتشفوا، بأكلاف رهيبة، كيف أن الهمجيّة هي البديل للدولة ـ الأمة حتى حين تنطوي تلك الدولة ـ الأمّة على عناصر تلحّ في استدعاء النقد والاصلاح.

فما لم يتصالح وعينا السائد مع المعطى هذا، بقينا نتنقّل من بربريّة الى بربريّة، وأجيالنا بقيت توالي الهرب من تلك المواضيع الملحّة فتتقلّب، جيلاً بعد جيل، بين محرقة نسمّيها «سياسة» وأخرى نرصّعها «نضالاً ضدّ الاستعمار والامبرياليّة».

(٭) كاتب لبناني مقيم في بريطانيا