الديمقراطية في المراكز الغربية لم تجُبّ الليبرالية بل استوعبتها
الحقوق الليبرالية ظلت محترمة وتعممت، لكنها باتت خاضعة لتعاقد اجتماعي يعطي اهتماما أوسع لحقوق الفئات الأضعف. لم تعد الليبرالية المطلقة أو المحض موجودة في أي مكان، ربما إلا في إذهان وتمنيات مثقفين معزولين، أو في صيغة احتجاج ضد طغيان السلطة، سواء في الغرب نفسه أم في الشرق الشيوعي السابق.
على أن الليبرالية توجد اليوم أيضا، في الغرب ذاته، كعقيدة منتصرة بعد انتهاء المعسكر الاشتراكي الشرقي. وتظهر كل ملامح الرأسمالية المتطرفة غير المقيدة والتوسعية الخارجية وازدراء الحقوق الديمقراطية في الغرب ذاته أيضا.
ودوام الطغيان في مجتمعاتنا العربية يسهم في بعثها وإطالة عمرها لدينا، كأنها الإكسير السياسي المنتظر. هنا تتحول االيبرالية إلى عقيدة خلاصية، تتسم بالتشدد والحصرية والعنف اللفظي والتمركز حول الذات.
هذا مفهوم. فإيديولوجية المجتمعات المنكفئة تجنح كذلك نحو الانكفاء مثلها، حتى لو كان اسم هذه الإيديولوجية هو الارتقاء بالذات. وليس هذا قانونا مطلقا لكنه ميل عام. مقاومة هذه الميل تحتاج إلى ثقافة تتفتح، وطبقة وسطى متوسعة، وعملية تمدن متصلة. هذا غير متاح في بلادنا. لذلك لم تنتج الشرائح التي قد تحسب على الطبقة الوسطى فكرا ليبراليا عضويا. تفتقر إلى الارتياح الذي يدره التوسع، و/أو إلى التقاليد. ولا تزول الليبرالية كإيديولوجية قائمة برأسها مستقلة بذاتها منفصلة عن غيرها إلا حين تتحقق في الواقع. ولأنها محققة لم تعد قادرة على البقاء إيديولوجية مستقلة في الغرب إلا بصور وصيغ مصطنعة.
الحال خلاف ذلك في البلاد العربية كما يمكن أن نتوقع. فالليبرالية العربية الجديدة، ليبرالية ما بعد 11 ايلول بالخصوص، تشبه الماركسية العربية في مرحلة ما بعد الثورة البلشفية، أكثر مما تشبه الليبرالية الأصلية في الغرب، أو حتى ليبراليتنا التي كانت مولعة بالحكم البرلماني وحقوق الملكية قبل زمن الثورات الوطنية والعسكرية. فكما عرف مثقفون عرب ماركسية دولانية، غير نقدية، فاقدة لروحها التحررية؛ يتعرف مثقفون وناشطون اليوم على ليبرالية مفرطة الأنانية، غير نقدية، وفاقدة لقيم السخاء والتسامح التي يفترض أنها تميز الليبرالية. وكما كانت الماركسية ذات تمركز سوفييتي، فإن ليبراليتنا اليوم ذات تمركز أميركي على العموم. وهي ليبرالية منفصلة عن الديمقراطية إن لم تكن معادية لها، كما كانت الماركسية البلشفية (اللينينية والستالينية، والسوفييتية عموما) معادية لليبرالية ومزدرية للديمقراطية. وكما كانت الماركسية عقيدية ومتعصبة ومتمركزة حول ذاتها، فإن الليبرالية العربية الراهنة تظهر نزوعات عقيدية وتعصبية لا تقل شدة. وانتصارية هذه واكتفاؤها بذاتها لا تصمد للمقارنة إلا مع انتصارية واكتفائية تلك. ويبدو لنا أن الليبرالية هذه أوثق صلة بالحاجات الاعتقادية لنخب مثقفة، معزولة وانعزالية، منها بحاجات اجتماعية راهنة وحية. وكما لم تستعد الماركسية كرامتها الفكرية والسياسية إلا بقدر ما حاولت الاستقلال عن المركز السوفييتي، فإن الليبرالية العربية ستبقى متصلة بحاجات فئوية او بأجندات خارجية إن لم تستقل عن سياسات المركز الأميركي(6).
من حيث مضمونها الاجتماعي، تحمل ليبراليتنا المستعادة بحماسة رسولية روح الليبرالية الجديدة بعد الحرب الباردة وانتصاريتها ونزعتها الهجومية ضد دولة الرعاية والضمان الاجتماعي (ضد القطاع العام لدينا)، وكذلك اقتصادويتها وقلة حساسيتها حيال المسالة الاجتماعية المرشحة لدينا للتفاقم، وفوق هذا كله انحيازها السياسي والثقافي الأميركي. وكما وقع الماركسيون الأكثر التصاقا بقيم العدالة والمساواة والتحرر ضحايا للدول التي حكمت باسمهم فإننا نرجح ان الليبراليين الأوفياء بحق لقيم الحرية واستقلال الضمير سيكونون ضحايا لدولة الليبرالية المطلقة التي يحامون عنها باندفاع اليوم، ومن غير المستبعد ان يقتصر الدور الموضوعي لبعضهم على تقديم إيديولوجيا لسلطة القطاعات المافيوزية التي تنهب الدولة والثروة الوطنية في ظل التسلطية الراهنة، القطاعات العاجزة عن "تجميع" إيديولوجية خاصة بها. بعضٌ آخر سيجمع مالا يغنيه عن الليبرالية وحماسته النبوية اليوم كما حاز بعضٌ ماركسي غليظ العقل والقلب على السلطة واستغنى بها عن قيم الديمقراطية الراديكالية التي كان يفترض ان تجسدها شيوعية القرن العشرين.
القصد أن الليبرالية، مثل الماركسية، ومثل القومية والعلمانية والديمقراطية، لا تحمل في ذاتها ضمانة ان لا تتحول إلى عقيدة متعصبة تلبي الحاجات الاعتقادية لمجوعات صغيرة او كبيرة، لكنها مستقلة عن مطالب الأكثريات الاجتماعية الناشطة أو الهاجعة.
• ليبرالية دستورية؟
لم تعد الليبرالية قابلة للبقاء على قيد الحياة إلا ضمن الديمقراطية، حيث تظهر كليبرالية دستورية، إن جاز التعبير، مشروطة برعاية مطالب وحاجات الأكثرية الاجتماعية. دولة الرعاية الاجتماعية، بنسخها الثلاثة الاشتراكية الديمقراطية والدولة الكينزية والشيوعية، إقرار بأن الليبرالية لم تعد قادرة على العيش وحدها، على أنها ستدمر ذاتها إن ظلت نقية أو مطلقة. والفرق المهم بين النسختين الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية يتمثل في أن الليبرالية باتت مستوعبة ضمن الاشتراكية الديمقراطية، فيما اعتبرت مجبوبة ومتجاوزة في الشيوعية. هذا الفارق الثقافي يعكس تاريخين اجتماعيين مختلفين. فالمجتمع الروسي ومجتمعات أوربا الشرقية الأخرى لم تعرف اليبرالية كي تبني عليها. لعله لذلك لا تزال الليبرالية مغرية في أوربا الشرقية. لدينا أيضا. الملابسات الخاصة لتطورنا التاريخي جعلت الليبرالية تبدو طوبى في أعين بعضنا بعد أن استقرت في مملكة الإيديولوجيا في الغرب (وفقا لتمييز كارل مانهايم). أما الدولة الكينزية، في الولايات المتحدة بالخصوص، فهي شهادة بعدم كفاية الليبرالية المطلقة التي ما انفك لها مناصروها في أميركا، وهي، على أية حال، التي أخرجت الولايات المتحدة من أزمة الكساد الكبير في أواخر عشرينات ومطلع ثلاثينات القرن العشرين.
• نمذجة: السلطات والوظائف
الليبرالية تقييد للسلطة وتحرير للاقتصاد. تحرير الاقتصاد من السلطة (ومن الدين) كان شيئا ثوريا في مجتمعات كانت إقطاعية وفلاحوها أقنان أرض، وكانت السياسة والاقتصاد منحلان فيها في روابط أهلية أو عضوية. كانت الديمقراطية الغربية أو البرجوازية تعيد تقوية السياسة على حساب الاقتصاد دون التخلي عن الحقوق والروح الليبرالية. الدولة الديمقراطية تقوم بوظائف أكثر وتحتاج إلى سلطة أكبر على الأشياء والأشخاص. حقوق الأفراد الأساسية تبقى، على العموم، مصانة ومنظمة بالقانون.
يمكننا اليوم نمذجة النظم السياسية، استنادا إلى متحولي الوظائف والسلطات، إلى أربعة نماذج: نظم كثيرة الوظائف مطلقة السلطات (الشمولية الشيوعية)؛ نظم قليلة الوظائف مقيدة السلطات (الليبرالية المحض)؛ نظم كثيرة الوظائف مقيدة السلطات (الاشتراكية الديمقراطية الأوربية)، ونظم قليلة الوظائف مطلقة السلطات (الدولة التسلطية)(7).
إن النظم كثيرة الوظائف يمكن أن تكون كلية الوظائف (لا تترك وظائف اجتماعية خارج سيطرتها) أو متعددة الوظائف؛ بالمقابل يمكن للنظم قليلة الوظائف، أن تكون محدودة الوظائف أو حتى معدومتها من حيث المبدأ. بالمثل تتدرج السلطات من مطلقة إلى قوية فمقيدة ورابعة ضعيفة وخامسة معدومة: حال الحرب الأهلية مثلا. الدولة حل للحرب الأهلية، وهوبس كان يعتبر أن السلطة المطلقة او "اللفياثان" هي حل لصراع الجميع ضد الجميع المميز لـ"الحالة الطبيعية"، لكنها أيضا "حل" لحالة المساواة. دون دولة، نحن متساوون، لكننا متحاربون. بالدولة نكف عن الحرب بثمن التراتب واللامساواة بيننا(8) .
من ناحية أخرى لا تعني نظم كلية الوظائف بالضرورة نظما كثيرة الوظائف. فمن سمات الدولة الشمولية أو الكليانية (كلية الوظائف ومطلقة السلطة) أنها تضيق بتعدد وتنوع الوظائف الاجتماعية، فتحصرها بعدد قليل وتعوق تكون وظائف جديدة. فهي على الدوام، وبصرف النظر عن منطوق إيديولوجيتها، دول محافظة، لا تترك مجالا للفاعلية الاجتماعية المستقلة المنتجة لوظائف جديدة وتقسيم عمل جديد واختصاصات جديدة، ما يعني تاليا سلطات اجتماعية جديدة وحصانات جديدة، أي ما يحد من سلطتها ويقيدها. والفارق بينها وبين الدولة الليبرالية والديمقراطية لا ينحصر، على أية حال، في عدد الوظائف، بل في أن تعدد الوظائف الاجتماعية هذا، في الليبرالية والديمقراطية، يتبادل التأسيس مع الإبداع الاجتماعي والحرية، فيما هو "مخلوق" للدولة في كل أصناف الشموليات. ما لا تسمح به الدولة غير موجود في الشمولية. وهو ذاته ما لا تقوم به الدولة. في الديمقراطية ما تقوم به الدولة موجود اجتماعيا: تقيده أو توجهه أو تحرره أو تحرمه.
مثل ذلك ينطبق على إطلاق السلطة. فالسلطة المطلقة ليست بالضرورة سلطة قوية، ولا بالخصوص سلطة راسخة. ولا ريب ان السلطة المقيدة في المجتمعات الديمقراطية الغربية وغير الغربية ارسخ واقوى من السلطة المطلقة في مجتمعات عربية.
تتمتع الليبرالية بإغراء قوي في النموذجين مطلقي السلطات، أي الأول والرابع، الشمولي والتسلطي. والسبب واضح: الحاجة إلى تقييد السلطة. التزام الدولة بوظائف اجتماعية أكثر مطلوب في النموذجين الثاني (الليبرالية المحض) والرابع (التسلطية). لكنه في النموذج الثاني، الليبرالي، يمر بالضرورة عبر تقوية سلطة الدولة، فيما قد يقتضي في الرابع، التسلطي، تحويل نوع ممارسة السلطة وليس الحد من كمية السلطة ذاتها. الولايات المتحدة تقع بين النموذجين الليبرالي والاشتراكي الديمقراطي، نموذج الدولة الكينزية. لكنها منذ "الثورة الريغانية"، وفي عهد إدارة بوش الحالية، تجنح أكثر نحو النموذج الليبرالي.
الدول العربية كانت على العموم مطلقة السلطة ومتعددة أو حتى كلية الوظائف، أي لا تترك أية وظائف اجتماعية مستقلة عن هيمنتها. سوية أدائها للوظائف مسألة أخرى، في الغالب متدنية. سوريا مثلا دولة مطلقة السلطة في العهد البعثي وشبه كلية الوظائف. لكن سوريا ومعظم الدول العربية تجنح باطراد نحو وضع تكون فيه محدودة الوظائف دون ان تكون مقيدة السلطات. تتحول من الشمولية نحو نموذج تسلطي محدث، مختلط بدرجة من المافيوزية أو خصخصة الدولة ذاتها. تغدو الدولة ضعيفة أمام الأقوياء، لكنها تبقى قوية (بمعنى عنيفة) أمام الضعفاء.
يبقى أن دعم الليبرالية كثقافة وحقوق بالغ الأهمية في البلاد العربية، لكن مع تحرير القوى الشعبية وإتاحة الفرصة لها للدفاع عن نفسها وتنظيم ذاتها ومقاومة التوجه نحو خصخصة الدولة وتفكيك شبكات الحماية الاجتماعية. أي مع عدم الانسياق وراء إغراءات الليبرالية الجديدة التي تعتمد على أصولية السوق داخليا ومحاباة الهيمنة الأميركية عالميا.
• الليبرالية والديمقراطية اليوم
هل ينبغي المرور بمرحلة ليبرالية كي نصل إلى ديمقراطية مستقرة؟ يشبه هذا السؤال نظيرا له طرح في الأوساط الماركسية والشيوعية منذ ثورة أكتوبر 1917 في روسيا حتى سبعينات القرن العشرين: هل ينبغي المرور بمرحة رأسمالية قبل الوصول إلى الاشتراكية؟ الجواب يتعلق بما نقصده بمرحلة ليبرالية (أو رأسمالية). إذا كنا نقصد مرحلة تحاكي تطور أوربا بين الثورة الصناعية وأواسط القرن التاسع عشر، فهذا لا معنى له وغير ممكن. الليبرالية ليست مرحلة من مراحل الحداثة بل هي عنصر جوهري من عناصرها. ويمكن تقوية العنصر الليبرالي في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، لكن دون قمع العنصر الديمقراطي أو التخلي عنه. بالعكس. ففرصة نمو العناصر الليبرالية في اجتماعنا وسياستنا وثقافتنا واقتصادنا مشروطة، في رأينا، ببيئة ديمقراطية مستقرة. بمعنى آخر: ما عاشته أوربا متتابعا في الزمان علينا أن نعيشه متزامنا أو حتى بتعاقب معكوس. الدمقرطة في بلادنا شرط اللبرلة. ونميل إلى الجزم بأن الليبرالية لا يمكن أن تعيش لدينا اليوم دون إطار سياسي ديمقراطي يحمي حقوق مجتمع العمل، اي الطبقات الوسطى والدنيا. تراجع الدول العربية عن وظائفها والتزاماتها الاجتماعية يحتم أكثر الإصرار على الديمقراطية.
في اليابان والهند وكوريا الجنوبية وأميركا الجنوبية ودول أفريقية متعددة.. ثمة ديمقراطيات متفاوتة الرسوخ دون تراث ليبرالي راسخ. لسنا مؤهلين للكلام على الديمقراطية في هذه البلدان، لكن نميل إلى ترجيح أن الليبرالية تحضر في البلدان المذكورة كدستور وفصل سلطات وحقوق إنسان، أي كقواعد وإجراءات لا كثقافة، مندرجة في النظام الديمقراطي. نعتقد أيضا أن قيم التسلطية إما ضعيفة في تلك البلدان أو تعرضت لإضعاف وحصار فكري وأخلاقي، ما يؤهب لنمو الليبرالية في كنف الديمقراطية. قد لا تكون الليبرالية مستبطنة اجتماعيا وثقافيا في ثقافاتها، لكن لا نتخيل كيف يمكن ان تستقر الديمقراطية وتدوم في هيمنة نظم قيم قوية معادية لليبرالية.
تبقى الليبرالية أساسا كما وصفناها في مطلع هذا المقال، أساس بمعنى أن استدامة الديمقراطية تجد أفضل فرصها بقدر ما تنتشر وتترسخ القيم والإجراءات الليبرالية. فالليبرالية، بما هي تعني فصل السلطات والدستور وحقوق الأفراد وحكم القانون وحرية الضمير والاعتقاد والتسامح الديني، وبما هي "حريات سلبية" لا تقبل التقليص، ضرورية لمقاومة الإغراء الشعبوي الذي قد تنزلق نحوه الديمقراطية. مهمٌ أن نتذكر أن الديمقراطية تعني السيادة الشعبية وانتخابات حرة وتصويتا عاما ونظام حماية اجتماعية وتصحيحا سياسيا مستمرا لعمل السوق الحرة. مهم أن نشير أخيرا إلى أن الليبرالية والديمقراطية مفهومان تاريخيان، ما اكتسباه من التاريخ ليس أقل أهمية مما هم مدون في غريزتيهما أو "سجلهما الوراثي". وما يمكن أن يكتسباه في تواريخ مختلفة لن يقل أهمية عما اكتسباه من تاريخ الغرب الحديث. هناك نواة صلبة لكل من المفهومين، شعبية للديمقراطية وفردية لليبرالية. لكن النواة وحدها عقيمة. التاريخ وحده كفيل بالإخصاب.
ولا نستطيع إلا أن نلاحظ أن الديمقراطية التي تلونت في الغرب بلون اجتماعي قوي بعد الثورة الروسية وحتى ثمانينات القرن العشرين، ينصل لونها هذا وتغدو، منذ نهاية الحرب الباردة، عرضة للتلاعب والالتفاف حولها بسهولة. بعبارة أخرى هي اليوم اقرب للقطب الليبرالي منها للقطب الاشتراكي. فإذا نظرنا إلى الاشتراكية الروسية من منظور عالمي وتاريخي، قد نرى أنها كانت دافع الدول الأكثر تقدما إلى تقييد الليبرالية والتوجه نحو صيغة أرقى من الديمقراطية. إن انهيارها يمثل نوعا من "عودة الملكية" على الصعيد العالمي، يشبه ما جرى في فرنسا بعد هزيمة نابليون عام 1815. ومثل ملكيي ما بعد الثورة الفرنسية يبدو أن الملكيين الجدد لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا، يحلمون بالعودة إلى العصر الامبريالي وإلى الليبرالية المطلقة والدارونية الاجتماعية لا أقل ولا.. أكثر.
يبقى أن الشرط الأمثل للديمقراطية والليبرالية هو نمو الطبقة الوسطى واتساعها بما يجعل منها متن المجتمع وأكثريته ومركز توازنه. بحيث يكون نمط حياتها وسلوكها وتفكيرها هو النمط الريادي لطبقات المجتمع الأخرى. ستبقى الطبقات العليا تفضل الليبرالية على الديمقراطية، وستبقى الطبقات الدنيا نزاعة نحو اشتراكية من نوع ما. فرصة الاستقرار الديمقراطي مرهونة باتساع الطبقة الوسطى وباحتلالها موقع رعاية التوازن الاجتماعي والسياسي.
************
(1) هذا مبدأ قابل للتعميم: فالعربة الاشتراكية انقلبت كذلك على ذاتها لأنها افتقرت إلى آليات تعديل ومراجعة. ولا ريب أن العربة الدينية من الصنف المعاصر في بلادنا العربية مرشحة للمصير ذاته. مثل ذلك ينطبق على البعثية وأشباهها أيضا. المشترك بينها انعدام آليات تصحيحية خلافا للحال في الديمقراطيات الحديثة.
(2) يبدو أن النبيل مونتسكيو كان مهتما بتوازن للقوى بين النبالة والملك والبرجوازية الصاعدة أكثر مما باستقلال السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها، وبالخصوص بترسيخ الموقع التوازني للنبالة التي ينتمي إليها. انظر: لويس التوسير: مونتسكيو: السياسة والتاريخ؛ الطبعة الأولى، ت: نادر ذكرى، دار التنوير، بيروت، 1981، ص 87-97. وكذلك: عزمي بشارة: المجتمع المدني: دراسة نقدية، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998، ص 99-111؛ حيث ينبه إلى عدم التطابق بين توازن القوى عند مونتسكيو ومبدا فصل السلطات. ويشير آلان تورين إلى أن مبدا فصل السلطات كان موجها عند مونتسكيو نحو الحد من الديمقراطية وسلطة الأكثرية، من أجل مصالح الارستقراطية"، وفي الجمهورية الأميركية نحو تلبية "مصالح النخبة المتنورة". تورين: ما هي الديمقراطية؟ الطبعة الأولى، ت: حسن قبيسي، در الساقي، بيروت، 1995؛ ص 46.
(3) اللوديون محطمو الآلات لأنها تسببت بالبطالة وخفض الأجور. نسبة إلى عامل بريطاني تزعم حركة تحطيم الآلات أيام الثورة الصناعية اسمه مارك لود. يمكن اعتبار اللودية عنوانا لنهج المعاداة الرومانسية والرجعية للحداثة.
(4) تمييزا عن الحريات الإيجابية التي يربطها برلين بالشمولية: الحريات السلبية تتحدد بالحيز الذي يتعين تركه للفرد، يتمتع فيه بحرية التصرف، دون تدخل من احد. أما الحرية الإيجابية فتصدر عن الرغبة بحيازة سلطة من أجل تأمين حقوق الأفراد، واهتمامها منصرف تاليا إلى تحديد من يحوز السلطة لتحقيق هذا الغرض. إيسايا برلين: حدود الحرية، الطبعة الأولى، ترجمة: جمانة طالب، دار الساقي، بيروت، 1992، ص11. والكتيب أصلا فصل من كتاب برلين الشهير: أربع مقالات في الحرية. وبرلين من أهم الفلاسفة الليبراليين المعاصرين.
(5) يقول جون ستيوارت ميل: "إن مشكلة الحرية تطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية..بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية"، وارد في: عبد الله العروي: مفهوم الحرية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1981؛ ص 43. صدر كتاب ميل عام 1859، وكلامه على الديمقراطية ينطبق على فرعها الاشتراكي الذي لن نتعرف إليه إلا في القرن العشرين. ومن أجل الحساسية الليبرالية الأصلية الحذرة من طغيان الأغلبية وذات النزوع المحافظ اجتماعيا: انظر ترجمة كتاب ميل العربية الصادرة عن وزارة الثقافة السورية عام 2004. طبعة أولى، دون اسم مترجم.
(6) نموذج مبتذل عن الليبرالية العربية شاكر النابلسي. نجد لديه الأمركة والتعصب واللانقدية والهياج والعقيدية، وفوق ذلك كله أسلوب بياني غث. وكان من المؤيدين المتحسمين لاحتلال العراق، ووصف جورج بوش بأنه "رئيس الحرية الإنسانية"! انظر موقعه الفرعي في موقع الحوار المتمدن:
http://www.rezgar.com/search/search.asp?ac...action=save&U=1. وهو واحد من ثلاثة شاركوا في كتابة البيان الليبرالي الأممي الذي يطالب بمحاكمة دولية للشيخ القرضاوي وآخرين. والبيان نموذج لهذه الليبرالية المتعصبة والإرهابية بالفعل. ثمة نماذج أكثر ركاكة ورثاثة في سوريا، لكنها أيضا اقل شهرة.
(7) هذه نماذج بالمعنى الفيبري للكلمة. لا توجد نقية في الواقع. تحتمل أوضاعا بينية كثيرة. ومهما أغنينا النموذج بالتلوينات فإنه لن يستوعب غنى الواقع. نحتاج إلى إدخال متغيرات أخرى ونماذج أخرى. الغرض منه تنظيم التفكير وليس استنفاد الواقع.
(8) من أجل لمحة مكثفة عن أفكار هوبس، أنظر: بول هازار: أزمة الضمير الأوربي، 1680-1715، طبعة وزارة الثقافة السورية بدمشق، ت: جودت عثمان ومحمد نجيب المستكاوي، 2004، ص 309-310.
ياسين الحاج صالح
http://www.alsafahat.net/index.php?option=...=2728&Itemid=36