{myadvertisements[zone_3]}
بيلوز
عضو متقدم
   
المشاركات: 533
الانضمام: Mar 2005
|
مخاطر الدولة الدينية
مخاطر الدولة الدينية
بقلم : جابر عصفور
الدولة الدينية هدف لمجموعات الإسلام السياسي من ناحية, وشعار لمجموعات التطرف الديني من ناحية موازية, وتتفق المجموعة الأولي والثانية علي أن كل حلول مشكلات المجتمع مشروطة بإقامة هذه الدولة التي تعدل بين الناس, وتحكم بالقسط, وتقضي علي البغي والعدوان, ففي نصوص الدين ما يقدم العلاج الناجع لكل أنواع الفساد, والترياق الشافي لكل أمراض الظلم وكوارث الأزمات الاقتصادية, فالحاكمية لله عند هذه الجماعات, والحاكم هو شرع الله وكتابه هو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه. وقد أخذنا نسمع عن الهدف, ونري الشعار علي نحو ملحاح, لم يتوقف عن التصاعد والانتشار منذ هزيمة1967 التي أسقطت دولة المشروع القومي بتسلطيتها التي كان لها أبلغ الأضرار, وأهمها أزمة الوعي الجمعي المحبط الذي أصابه اليأس من كل حل مدني, وأخذ يبحث عن خلاصه في نوع من الإيمان الديني التعويضي.
وارتفع صوت الدعوة إلي هذه الدولة مع بداية تحالف السادات مع الإخوان المسلمين, بعد أن قام بما أسماه ثورة التصحيح في مايو1971, وذلك في السياق الذي وصل إلي ذروته الأولي في يناير1979 حين أطاح الملالي بحكم بهلوي في إيران, وأعلنوا قيام الجمهورية الإسلامية التي وعدت بأن تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا, حسب مفردات الخطاب الشيعي, ووصل إلي ذروته الثانية مع تزايد قوة المجاهدين الذين أخذوا علي عاتقهم مواجهة التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان, مع نهاية السنة التي أعلنت فيها الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد وجد المجاهدون الذين رفعوا شعار الدولة الدينية الإسلامية, في مواجهة النظام الشيوعي المتحالف مع موسكو, الدعم اللوجستي من دول عربية, تحالفت والولايات المتحدة في عملية القضاء علي المد الشيوعي الذي وصل إلي أفغانستان, وأصبح قريبا من منابع النفط, وهو الأمر الذي دفع كارتر إلي إعلان مبدأ حق اللجوء إلي القوة في حالة تهديد أمن الخليج, وكان ذلك في يناير1980.
وبقدر ما قدمت بعض الدولة العربية المعنية الدعم المالي, وتسهيل مهام مكاتب التطوع للجهاد ضد الكفار في أفغانستان, قامت الولايات المتحدة بتدريب أعداد لا يستهان بها من المجاهدين في صحراء أريزونا, ولم تبخل بالسلاح والمال في سبيل القضاء علي المد الشيوعي, ومن ثم التحالف مع الدعاة الأفغان للدولة الدينية, ومعهم الدعاة العرب الذين عادوا إلي أوطانهم العربية, بعد الانتصار علي النظام الشيوعي الأفغاني وإقامة الدولة الدينية الأفغانية. وسعي المجاهدون العرب, بدورهم, إلي إقامة الدولة الدينية الإسلامية الجديدة بالقوة, خاصة بعد أن أعلنوا أن الجهاد لن يتوقف ضد الأنظمة الجاهلية العربية التي تحكم بغير شرع الله من ناحية, وضد الولايات المتحدة التي أصبحت الشيطان الأكبر الذي انقلبوا عليه بعد أن تحالفوا معه لتحقيق مصالحهم المشتركة التي لم تعد قائمة بعد تقلص المد الشيوعي وقيام البروسترويكا من ناحية مقابلة.
واقترن ذلك بتداعيات الثمانينيات, ثم التسعينيات التي شهدت نهاياتها بداية عولمة الإرهاب الديني الذي أخذ يخترق القارات, حاملا راية الجهاد الإسلامي الذي يسعي إلي القضاء علي الأنظمة الجاهلية في كل مكان, واستبدال الدولة الدينية بالدولة المدنية, وإحلال العصبية الدينية محل التسامح الذي يحكم- أو يفترض أن يحكم- علاقات مؤسسات المجتمع المدني وطوائفه.
وكانت النتيجة قرينة تصاعد الدعوة إلي الدولة الدينية والقضاء علي الدولة المدنية التي قيل إنها أحدثت من الشرور والمفاسد ما أعاد زمن الجاهلية إلي ضراوته التي أصبح القضاء عليها فرض عين علي كل مسلم يريد الجهاد في سبيل الله. وازداد الأمر تعقيدا بسبب ما انطوي عليه العديد من الأنظمة المدنية العربية, خصوصا ذات الطبيعة العسكرية أو التسلطية, من مفاسد اقترنت بأزمات اقتصادية طاحنة, دفعت الناس إلي البحث عن خلاص. وكان وعد الخلاص, ولايزال, جاهزا عند دعاة الدولة الدينية, أولئك الذين وجدوا في مفاسد الأنظمة القائمة وتسلطيتها ما ساعدهم علي الانتشار, ووجدوا في الثقافات التقليدية السائدة ما أعانهم علي النجاح. والنتيجة هي كسب تعاطف الآلاف المؤلفة من البسطاء الذين أضناهم الفقر, وأوجعهم الظلم, ودفعتهم بشاعة الأجهزة القمعية للدولة التسلطية إلي رفضها والبحث عن بديل لها. وكان البديل جاهزا, صيغ في تخييلات مغوية, قائمة علي وعود لا تفارقها أنواع من العون المادي للمحتاجين في مجالات التعليم والصحة والإسكان,
وغيرها من أشكال الرعاية التي لا تزال تقوم بما تعجز الحكومات عن النهوض به. وأصبح للمجموعات الداعية للدولة الدينية, علي اختلاف طوائفها وتياراتها, حضور متزايد, بواسطة أجهزة إيديولوجية قوية, موازية لأجهزة الإعلام الحكومية ومتفوقة عليها, سواء بواسطة وعاظ المساجد والزوايا, وأئمة الدعوة, وأمراء الجهاد الذين ملأوا الجامعات, وحاضروا, ولا يزالون, في النوادي الاجتماعية والرياضية, ونجحوا في اختراق العديد من مؤسسات المجتمع المدني التضامنية التي تضم النقابات والاتحادات, كما نجحوا في التسلل إلي مواقع عديدة, منها القضاء وأجهزة إعلام الدولة التي أصبح لها ما يوازيها من أجهزة إعلام خاصة بهذه الجماعات, ابتداء من القنوات الفضائية وليس انتهاء بالإذاعات أو الصحف والمجلات, أو مواقع الإنترنت. وحققت المجموعات الداعية للدولة الدينية أكثر من انتصار نتيجة فساد الخصوم, ولا داعي للأمثلة فهي معروفة. ولكنها أدت في الأقطار التي تكاثرت فيها إلي كوارث وخيمة, حسبي الإشارة إلي المذابح التي حدثت في الجزائر, واتساع دوامات الاغتيال للمسلمين الذين أصبحوا موصومين بالكفر, لا لشيء إلا لأنهم لم يقبلوا بفكرة الدولة الدينية, خصوصا من المثقفين الذين أصبحوا هدفا للاغتيال في الجزائر ومصر وغيرهما من الأقطار العربية
الواقع أن مثقفي المجتمع المدني والمدافعين عن الدولة المدنية هم أكثر الناس رفضا لمفهوم الدولة الدينية والدعوة لها, وهم الأكثر تنبيها إلي مخاطرها وكوارثها الممكنة, ولذلك تترصد لهم المجموعات الداعية إلي الدولة الدينية, ساعية إلي استئصالهم, أو قمعهم ماديا ومعنويا, بما يزيحهم من طريق الدعوة التي لا يزالون عقبة في طريق تحقيق هدفها. والخطر الأول الذي ينبه إليه هؤلاء المثقفون الواقعون, للأسف, بين مطرقة مجموعات الإسلام السياسي ومفاسد الكثير من الحكومات,هو الخطر المقترن بالصفة البشرية لا الدينية لمفهوم الدولة الدينية, فهي دولة بشرية, لو أمكن قيامها, تحكمها مجموعة من البشر, تتحدث باسم الدين, وتنوب عنه, وتحتكر تأويله وتفسيره, وادعاء معرفته, ومن ثم تقيم تطابقا تخييليا بينها وبينه, فتصبح هي إياه, أو يصبح هو إياها علي سبيل التخييل لا التحقيق, أقصد إلي أن شرع الله ليس هو الذي يحكم في حالة الدولة الدينية, وإنما مجموعة البشر التي تدعي الإنابة عنه واحتكار المعرفة به, رافضة أن يشاركها غيرها في الإنابة أو الحكم أو المعرفة,
ولذلك فهي المصدر الوحيد لتفسير النصوص المقدسة للدين, والناطق الأوحد لمقاصدها, وقولها أو حكمها هو الحق وما عداه الباطل, ما ظلت محافظة علي هذا التطابق التخييلي بينها ونصوص الدين التي تدعي احتكار الفهم لها, ولذلك ينبني خطابها علي نوع من الوثوقية والجزم والحسم في اقترانه بأنواع الأمر والنهي والتحريم أو الإباحة التي يؤديها هذا الخطاب الذي لا يخلو من عناصر القمع الخاصة به, خصوصا حين يتوعد المخالفين بعذاب الدنيا والآخرة, ويسن خطابهم المضاد بالبدعة المقترنة بالضلالة المفضية إلي النار.
والاختلاف مع خطاب هذه المجموعة يعني الكفر والخروج علي الثابت المعلوم من أمر الدين الذي تحدده هي ولا يحدده غيرها, والذي تغدو إياه في علاقتها بالآخرين الذين لها عليهم حق السمع والطاعة والتصديق وعدم المساءلة, ومن ثم الإذعان والاستجابة إلي كل ما يقال, مهما كان هذا الذي يقال. وبقدر ما تتحول العلاقة بين هذه المجموعة وغيرها إلي علاقة أعلي بأدني, قامع بمقموع, آمر بمأمور, ينتفي حضور حق الاختلاف الذي يغدو معصية. ولا مجال للاجتهاد المغاير الذي يغدو خطيئة,
ولا سبيل إلي المجادلة بالتي هي أحسن ما بين هذه المجموعة( الأعلي علي نحو مطلق) وغيرها( الأدني علي نحو مطلق), فالمجادلة بالتي هي أقمع هي الأصل الملازم لاحتكار المعرفة الدينية, والناتج عن التطابق التخييلي بين الدين والمجموعة التي توهم الآخرين أنها تنوب عنه, أو تتحد معه كأنها إياه. ولا ينفصل عن نتائج ذلك إلغاء الاجتهاد الذي يحل محله الاتباع, وإحلال النقل محل العقل, والتقليد محل الابتكار, وسيطرة التراتب( البطريركية) بدلا من المساواة, والتعصب بدلا من التسامح,
فيحل التمييز محل التكافؤ, ونخبوية المعرفة الدينية بدلا من تعميمها الذي يؤكد حق الجميع فيها أو الوصول إليها بطرائق مغايرة, فتتحول المعرفة بوجه عام إلي معرفة مضنون بها علي غير القلة التي تحتكرها, أو النخبة التي بيدها مفاتيح المعرفة المحرمة علي غيرها. ولا يؤدي ذلك إلي التضاد بين علم القلة بوجه عام وجهالة الكثرة فحسب, بل يضيف إليه انحطاط معارف الكثرة( بإطلاقها) بالقياس إلي علو مقام معارف القلة المضنون بها علي غير أهلها في كل الأحوال. والنتيجة هي كثرة المحرمات المعرفية الموازية لشيوع التراتب ومنطق الاحتكار وإلغاء المغايرة.
وإذا نقلنا هذا المبدأ من المعرفة بوجه عام, والدينية بوجه خاص, إلي الممارسة السياسية كانت النتيجة متماثلة, فإلغاء حق الاختلاف يبدأ من المعرفة وينتهي بالسياسة التي لن تعرف, في حالة الدولة الدينية, تعددية الأحزاب, أو تنوع قوي المعارضة وحريتها, بل تعرف الصوت الواحد الأحد الذي لا يطلب سوي الإجماع, ويحارب التنوع والتعدد وحق الاختلاف من حيث هي نقائض لحتمية الإجماع الذي يقترن بالطاعة الواجبة( دون مساءلة) لقمة الهرم المتراتب دينيا ومعرفيا وسياسيا واجتماعيا, حيث تهبط الأوامر المنزلة( كأنها الوحي) من إمام المجموعة إلي النخبة المحيطة به, بوصفها أدني بالضرورة, كي تنقلها إلي غيرها الأدني منها.. وهكذا إلي سفح الهرم السياسي الاجتماعي المعرفي, مستعينة علي ذلك بعمليات تخييل إيديولوجي, يبرر احتكار النخبة ورأسها الأعلي لكل شيء من ناحية, ويشيع أفكارها ومبادئها بما يقنع بسلامتها من ناحية موازية, وذلك في حجاج إيديولوجي يقسم المجتمع إلي فرق متعددة, كلها في النار, ما عدا فرقة واحدة ناجية, مآلها الجنة والسعادة في الدارين,
هي فرقة النخبة الحاكمة التي يخلع عليها رأسها ما تخلعه هي علي غيرها من صكوك الإيمان والرضوان, والبركة والغفران, في أحوال الإيجاب, أو صكوك' الكفران' أو اللعنة الأبدية, في أحوال السلب, فالفرق الضالة مضلة هالكة, موعودة بعذاب الدارين, واستئصال أفرادها واجب وجوب استئصال الزوان من الحنطة, فيما يقول متطرفو الحنابلة المتأخرون.
والنتيجة هي شيوع العنف, مقرونا بالقمع في المجتمع, وتغدو الأجهزة الأيديولوجية الدينية ودعاتها, في علاقتها بالمواطنين الذين يتحولون إلي رعايا, أدوات إرسال ذات بعد واحد, يتجه من الأعلي إلي الأدني دائما, أو من المركز القامع إلي الهوامش المقموعة, فارضا السمع والطاعة والتصديق والإذعان في كل الأحوال, هادفا إلي تحقيق الإجماع الذي يتم استئصال الخارج عليه, أو النظر إليه بوصفه الشاة الضالة التي خطفها الشيطان وسكنها. وعندما يصل القمع إلي ذروة ممارساته يتحول إلي عدوي, تحيل المقموعين إلي قامعين بدورهم, أو مقتولين قتلة, أعني أن المقموعين الواقع عليهم القمع يعكسونه كما تعكس المرايا ما يقع عليها وتسقطه علي غيرها الذي يسقطه علي غيره بدوره, وذلك في دورة جهنمية, لا يكف فيها القمع عن توليد القمع, ويتبادل فيها المقموع والقامع الوضع والمكان, خصوصا حين يتحول المقموع إلي قامع يمارس فعل القمع علي غيره الذي يمكن أن يقع تحت سطوته, فيتحول المجتمع كله إلي قامعين مقموعين في زمن لا يمضي إلي الأمام بل يعود إلي الخلف, وجماعة لا تتطلع إلي مستقبل واعد, بل إلي ماض تخييلي تسجنها أوهامه.
__________________
:9:
|
|
03-03-2007, 12:36 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
بيلوز
عضو متقدم
   
المشاركات: 533
الانضمام: Mar 2005
|
مخاطر الدولة الدينية
متابعة :
مخاطر الدولة الدينية
بقلم: جابر عصفور
رفض المفاهيم التي تربينا عليها عن القومية والوطنية سمة أساسية من سمات الدولة الدينية التي ينفر دعاتها من القومية الوطنية علي السواء الأولي بوصفها الرابطة التي تجمع بين أقطار عديدة علي أساس من المصالح المشتركة والتاريخ المشترك والثقافة الواحدة والتطلع إلي الأماني التي تصوغها شعارات متفق عليها, كالحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة التي لا تزال أماني وشعارات عزيزة في حركة القومية العربية, تلك الحركة التي جمعت ما بين العرب في السعي وراء الاستقلال, والخلاص من الاستعمار, وبناء مجتمع جديد لا يخلو من وحدة التنوع التي تمتد من المحيط إلي الخليج, وكما كانت الدعوة الي القومية العربية قائمة علي أسس مدنية وسياسية, لا تخلو من وضع عامل الأديان في اعتبارها, بوصفه عامل قوة تحفز علي التقدم,
كانت هذه الدعوة قائمة علي نزعة إنسانية, معادية للنزعات العرقية أو العنصرية المغالية, ساعية إلي تحقيق مبدأ الحوار المتكافئ والتفاعل الكامل والتعاون البناء بينها وغيرها من القوميات التي تؤمن بالمبدأ نفسه, ولا يزال الأساس الإنساني هو الوجه الآخر للأساس المدني في حركة القومية العربية, سواء في أهدافها النبيلة أو صياغاتها الأصيلة الداعية إلي التقدم الواصل ما بين الخاص والعام, القومي والإنساني, بعيدا عن محاولات تشويهها أو الانحراف بها عن أهدافها.. وينطبق الأمر نفسه علي مفهوم الوطنية التي تردنا دلالاته إلي معاني المواطنة, خصوصا من حيث هي عقد اجتماعي بين المواطنين من الأفراد الذين لا يتمايزون في الحقوق والواجبات, ويتراضون علي دساتير وقوانين تبدأ من واقع حياتهم لتستبدل به واقعا أفضل, وإمكانات أنضر, فاصلة دائما بين السلطات, محترمة دائما كل الأديان والمعتقدات, سواء بمعناها الجمعي الذي يصل بين أغلبية وأقليات, أو معناها الفردي الذي يؤكد حرية الإنسان ـ أو المواطن الفرد الحر ـ في اعتناق ما يشاء.
هذا التصور للقومية أو الوطنية مرفوض دائما عند دعاة الدولة الدينية والجماعات السياسية الساعية إلي اقامتها, فالقومية شر ومنبع للمفاسد والشرور وعداء للإسلام والمسلمين, كالوطنية والمواطنة وغيرها من البدع التي أتي بها الغرب الكافر الفاجر, وذلك عند دعاة لا يزال لهم تأثيرهم, مثل أبي الأعلي المودودي ومن سبقه أو لحق به أو تبعه من مجموعات الإسلام السياسي, وهي مجموعات يجمع ما بينها التعصب للعقيدة الدينية التي تنقض القومية, والأصولية التي تسعي إلي استئصالها, ولا ينفصل التعصب والأصولية عن الإرهاب الديني الذي يسعي, بدوره, إلي استئصال القيم والمبادئ الوطنية, والهدف هو استبدال رابطة العقيدة برابطة المواطنة,
وبالوحدة القومية الوحدة الدينية العابرة للقارات والثقافات, ويتفق مع أبي الأعلي المودودي في كذلك كثيرون غيره في تأكيد أولوية العقيدة الدينية وتفضيلها علي أي عقيدة مغايرة, قومية أو وطنية أو حتي إنسانية, خصوصا من حيث هي عقائد من صنع البشر الذين يتميزون بالنقصان والفساد, ولا عاصم لهم إلا بالعودة إلي خالقهم, وتسليمهم بأن الحاكمية له وحده دون بقية خلقه الذين لا يفارقهم الشيطان ويسري في نفوسهم اللوامة مسري الدم في الأوردة والشرايين, ولكن الحاكمية لله لا تعني ـ في النهاية ـ سوي الحاكمية لبعض البشر الذين يتحولون إلي وسطاء لله في الحكم, أونائبين عنه, ولا عصمة لهم بالقياس إلي غيرهم من البشر, فقد انتهي إلي الأبد زمن العصمة الذي اختص به الله انبياءه, في تتابع الديانات التي ختمها الإسلام.
ولذلك لم يعد لأحد مهما يكن ـ بعد الله وانبيائه ـ سلطة علي أحد من البشر الذين توافقوا فيما بينهم علي عقد اجتماعي ارتضوه أساسا لمعيشة تحقق لهم, جميعا, دون تمييز, الحق والعدل والمساواة, وتدفعهم جميعا إلي ذري التقدم والحرية, بعيدا عن شروط الضرورة والتخلف التي شقي بها البشر عبر عصور الظلم وأزمنة الإظلام, والإيمان بضرورة عقد اجتماعي له صفته المدنية التي لا تحمل معه القداسة الدينية, أو العصمة لأي فئة بشرية أو تمييزا لها علي غيرها, يعني حتمية الإيمان بالدستور والقوانين التي يتعاهد عليها المواطنون. ويرون فيها حماية لهم في عالمهم الدنيوي الذي هم أدري بشئونه, وأقدر علي صنع أنظمته وأشكال حكوماته, ما ظلت هذه الأنظمة والحكومات محكومة بدورها بما يضمن الفصل بين سلطاتها, ويصون حرية الأفراد المتساوين في الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم علي أساس من جنس أو عرق أو طائفة أو دين.
ولذلك لا يختلف معني المواطنة المدنية عن الوطنية في دوائرها المدنية الخالصة أقصد إلي تلك الدوائر التي يجسدها المجتمع المدني في تعدد مؤسساته وتباين مجموعاته, خصوصا في حرية الحركة التي تظل محكومة بالمبدأ العام الذي يؤكد حقوق الإنسان من ناحية, وعدم التمييز بينها وحقوق المواطنة من ناحية ثانية, فالأولي هي الثانية, والثانية هي الأولي في تطبيقها علي فضاء جغرافي بشري بعينه, له خصوصيته الثقافية والحضارية بالطبع, لكن بما لا يتناقض ومبدأ وحدة التنوع الخلاق في الحقوق والواجبات الإنسانية التي تصونها المواثيق والتشريعات الدولية التي تؤكد البعد الإنساني العادل في الممارسات الوطنية والفردية المقترنة بالمواطنة أو القومية, ولا يفارق ذلك, بالضرورة,
احترام المعتقدات الفردية وعدم التمييز بينها, فالكل سواء أمام الدساتير والقوانين التي لا تفارق العقود المدنية التي ارتضاها المواطنون أساسا لحياتهم, في وطن حر, لا يتوقف عن التقدم, مدركا أهمية التراث الروحي والديني لكل من الأغلبية والأقلية, في تحقيق معني الإيمان بأن الدين لله والوطن للجميع, وأن الحاكمية للدستور والقانون وليست لفئة من البشر, تدعي الإنابة عن هذا الدين, أو ذاك, فتحيله من قيم ومبادئ روحية أخلاقية عادلة, ثابتة, قائمة علي المساواة والحرية, إلي مبادئ سياسية نفعية, متغيرة ومتحيزة معادية ـ في النهاية ـ للوطن والمواطنة والوطنية والقومية علي السواء. وهذا هو السبب الجذري في رفض جماعات الإسلام السياسي, وما يوازيها من أصوليات مسيحية أو يهودية, مفاهيم المواطنة والوطنية والقومية, وما يصاحبها من مؤسسات وتنظيمات حديثة, مقترنة بالتعددية والتنوع, وحق التعبير أو الاختلاف في كل المجالات.
__________________
أتصور ان الثقافة التي تشيعها الدولة المدنية, عندما تكون مدنية وحديثة بحق, بعيدة عن التسلط والفساد, هي الضمان الوحيد لكي لا يتحول الدين إلي شعائر شكلية أو شعارات من حكام الجور الذين ظلموا باسم الدين, واستباحوا حريات الافراد والمجموعات, وظلموا شعوبهم التي لاتزال تئن من وطأة القمع الواقع عليها, وقد ساعد حكام الجور علي ذلك انه لم يكن هناك دستور مكتوب أو عقد اجتماعي تترتب عليه قوانين حاكمة للجميع, ولا معني حقيقيا للشوري مع هؤلاء الحكام, حتي لو احتاجوا إلي بعض الفقهاء أو العلماء ليزخرفوا لهم امسيات المنادمة, اما الحكم النهائي فللحاكم الذي يرفع ذهب المعز وسيفه, ولاحرية لاحد من رعاياه إلا باذن منه, وذلك بما ينفي حضور الحريات المدنية بمعناها المعاصر, وسيتأصل وجودها.
وقد عرفنا فقهاء السلاطين الذين زينوا لهم الظلم قديما, ولايزالون يبررون لهم الاستبداد حديثا, فيدفعونهم إلي منافسة مجموعات الإسلام السياسي في ادعاء احتكار التأويل الإسلامي, واشاعة اللوازم التي توهم بأنهم لايقلون حرصا علي الإسلام من خصومهم, واقعين بذلك في شراك الخطاب النقيض, وداعمين تحول الإسلام الذي لاسلطة دينية فيه إلي سلطة كهنوتية تمارسها مؤسسة دينية, تسعي إلي توسيع نفوذها, ومشاركتها السلطة الحاكمة في الهيمنة والسيطرة, ويحدث ذلك في إطار من علاقات تبادل المنافع والمصالح, والنتيجة احدي اثنتين: إما تحول المؤسسة الدينية الرسمية إلي سلطة اكليروس من نوع جديد, ما ظلت علي تحالفها مع الدولة الاستبدادية,
وما ظلت تعيد انتاج الخصائص نفسها علي المستوي الديني, أو ممارسة هذه المؤسسة دورا اشبه بدور محاكم التفتيش التي كانت كارثة علي الحريات الفكرية والابداعية, وفي كلا الحالين تعكس المؤسسة الدينية صفات التسلط في الدولة, فتبدو كأنها اياها, أو تنسرب إليها من صفات جماعات الإسلام السياسي ما يجعل الفارق بينهما كميا وليس كيفيا, والاستثناء الممكن, والحادث بالفعل, لاينفي القاعدة العامة التي نري شواهدها في علامات كثيرة, اهمها عدم تقبل المؤسسة الدينية لاي اجتهاد مغاير لاجتهادها, واستخدامها المنطق القمعي في وصف ما تنتهي إليه علي أنه من ثوابت الإسلام وفرائضه, ومن هو المسلم الذي يفكر في الخروج علي ثوابت الإسلام وفرائضه, أو يعلن اختلافه مع السلطة الدينية فيها, وأوضح ما انتهي إليه موضع المساءلة؟! وهو أمر يدني بهذه السلطة إلي حال من الاتحاد مع جماعات التطرف الديني التي تدعي احتكار معرفة الحقيقة الدينية والإنابة الحصرية عنها, وهو الأمر الذي يصل بين الطرفين اللذين يبدوان متناقضين للوهلة الأولي.
ولاشك ان نشوء تيار إسلامي مدني, يؤمن بفصل الدين عن الدولة, ودعم الدولة المدنية التي ترعي كل الاديان وتصون مقدساتها, هو أمر بالغ الأهمية في زماننا الصعب الذي لابد فيه من دعم مؤسسات الدولة المدنية القائمة علي مبدأ المساواة في المواطنة, وهو أمر بالغ الحيوية والأهمية لتطوير المفاهيم الدينية, وتحديث المؤسسة الدينية المدنية, علي السواء, ولكن بشرط الايمان بدنيوية الممارسة السياسية, ولوازم الدولة المدنية من الديمقراطية الحقيقية والتعددية, وتداول السلطة, واستناد البرامج السياسية إلي اسس مدنية ومعايير عقلانية, بعيدا عن المزايدات الدينية, والتدخل في حيوات الناس الشخصية, ولاتكتمل وعود هذا الهدف إلا بأن تكف الدولة عن منافسة الجماعات الدينية بادعاء انها دينية أكثر منها حرصا علي الدين والتزاما بشريعته, فالدولة المدنية القوية لاتزايد علي احترامها الاصيل للاديان, كل الاديان, وعلي حمايتها لكل المعتقدات والحريات بلاتمييز, ولايختل ذلك إلا في دولة مدنية هشة, ينخرها الفساد والضعف, أو الاستبداد والتسلط, بما يؤذن بخرابها وانهيارها.
وللأسف فنحن لم نفصل فصلا حاسما, إلي اليوم, بين الديني والدنيوي, ونتمسح بالديني الذي ليس مقصورا علي الاغلبية المسلمة نفسها, ونتتنازل سريعا تحت ضغط الغوغائية الدينية التي تعود بنا إلي الوراء في كل مجال اخترقته, ونتبني منطق جماعات الإسلام السياسي في غير حاله, فنقع في شباك خطابها النقيض, ولانتوقف عن مجاراتها ـ دون وعي ـ حتي في الباطل الذي تدعيه, ومحاكاتها في الاتجاهات الخطرة التي تقودنا إليها, وما دعوي اسلمة التشريع الذي لايزال, من بقايا الزمن الماضي مطروحا إلي اليوم, إلا مثال علي ما أقول.
ولاتزال نقابات واتحادات مهنية مهمة مخترقة من مجموعات الإسلام السياسي التي هيمنت عليها واخطر من ذلك لاتزال الساحة السياسية مقصورة علي الاستقطاب بين حزب الاغلبية والجماعة المحظورة للاخوان المسلمين, ولا ندعم الأحزاب المدنية القائمة, ولانسمح بوجود احزاب مدنية أكثر جدة وقوة, يمكن ان تزيد الدولة المدنية عافية والمجتمع المدني صلابة, ولذلك تقوي جماعات الإسلام السياسي ويتزايد نفوذها علي الجماهير عاما بعد عام, نري ذلك في شعاراتها التي اصبحت اكثر ترددا علي الالسنة, وأكثر تأثيرا في قيم المجتمع المدني.
__________________
|
|
03-14-2007, 06:39 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
|