ثلاث نساء فقيرات
'الدوّاحة' يفضح قمع المرأة
فيلم التونسية رجاء عماري بيان سينمائي فني يعالج جوهر صراع المرأة العربية المسلمة مع ذاتها ومع محيطها.
ميدل ايست اونلاين
تستحق المخرجة التونسية رجاء عماري تحية خاصة على هذا الفيلم "الدوّاحة" الذي جاء ناعماً كحد السكين، وبياناً سينمائياً فنياً كالسحر، إنني أرغب في أن أطبق على لغتها السينمائية القول الشهير "إن من البيان لسحراً"، فبيانها جاء سحراً، عالجت لب جوهر صراع المرأة العربية المسلمة مع ذاتها ومع محيطها، ما يضرم داخلها من نيران الصمت إزاء هذا السجن الكبير العريق في تاريخه.
ثلاث نساء فقيرات؛ أم وابنتاها راضية وعائشة، أو جدة وابنتها راضية وابنة ابنتها الشابة الصغيرة عائشة، باعتبار أن هناك التباساً، المهم أنهن يعشن منزويات متخفيات بلا عائل أو أهل أو رقيب في غرفة خلفية لقصر مهجور، يأكلن ما تجود به أمتار من الأرض الملاصقة لغرفتهن، البصل، الخس، النعناع، تقوم راضية بأعمال تطريز تبيعها لأحد محال الأقمشة، تكتشف "سارة" صديقة "علي" حفيد صاحب القصر ـ وهي فتاة تقارب عائشة في العمرـ مكانهن، فيقمن باحتجازها عنوة.
عائشة شخصية ملتبسة، شابة متوهجة ومنطفئة في آن معاً، فتاة ناضجة وطفلة ساذجة بريئة، مسجونة وفي سجنها مقموعة، سجانتاها الجدة والأم، أو الأم والأخت، توقها للحرية هائل، لذا ما أن تنطلق حتى تصبح كفراشة ناعمة ورقية، كطيف، ولكن حضورها يتجلى طاغياً.
ويفتح الفيلم على استيقاظها، وتسللها إلى القصر والصعود إلى حمامه، تمسح حاجبيها، وتتخيل إشعالها لسيجارة، ثم تمسك بماكينة الحلاقة ـ تلك التي يستخدم فيها الموس ـ لتبدأ في حلاقة شعر ساقها، تفاجئها السيدة/الأم باعتبار أن راضية تقول لها في أحد المشاهد سأقول لأمك، أو الجدة باعتبار أن عائشة تمسك صورة عائلية فتسألها "سارة"، أين أنت في الصورة، فتشير إلى بطن "راضية" التي كانت حبلى.
نفس الصورة التي أمسكت بها عائشة وأشارت إلى نفسها في بطن "راضية" الحامل، أمسكتها السيدة/ الأم أو الجدة عندما أتى "علي" وبصحبته "سارة" التي تم احتجازها، وتلصصوا عليه جميعاً من النافذة، وأشارت إلى طفل في الصورة، الأمر الذي يدعونا للتساؤل: هل هن أصحاب القصر؟ هل كن يعشن فيه وحدث أمر دفعهن للاختفاء؟.
تتسلل عائشة بعد حضور "علي" و"سارة" لتراهما يمارسان الجنس وتقترب منهما حتى تكاد تلامس "علي"، تقترب اقتراباً يحمل الكثير من الدلالات، وقد برعت الممثلة في أن تجعل من هذا المشهد مشهد تساؤلات محيرة عن علاقتها بالجسد، بممارسة الجنس، هل رأت جسد رجل من قبل؟ هل مارست الجنس؟.
عندما تلتقي عائشة وتلك "سارة" التي أصبحت الرابعة، ويستكملان حوارهما عن الأب، تشير عائشة إلى أن قبر الأب والطفل هنا، الطفل هنا، وتبدأ في حفر المكان لتري "سارة" الطفل، وتخرج لفافة تحملها مهدهدة، الطفل، لكن"سارة" التي كانت بدأت في تعليمها، تكشف لها أن ما تمسك ليس طفلا ولكن كلبا، وتشرح لها الأمر.
وهنا يتحول هدوء عائشة وبراءتها إلى حالة جنونية، وتبدأ في حفر الموضع بيديها وتنزل برأسها فيه مستمرة في النبش، تصرخ: الطفل، الطفل، تصرخ كأم مذبوحة لتوها بفقد ابنها، تصرخ عائشة في مشهد الذي تم تأديته ببراعة وصدق منقطعة النظير، هذا المشهد يطرح سؤالاً مهماً: ترى هل حملت عائشة عبر علاقة ما وأنجبت، وتم قتل وليدها وأبو وليدها هنا في حديقة القصر؟ وأن هذا سر تخفيهن، إن الفيلم ينتهي بقتل الجدة أو الأم، وقتل راضية الأخت أو الأم.
نأتي إلى "راضية" التي تمارس العادة السرية في الحمام، وتنشد رجلاً، حتى لتتسلل إلى القصر لترى هذا الشاب عارياً في فراشه، وفي عينيها نظرة اشتهاء عميقة، لكنها تقبض على ذاتها وتحزمها باعتبارها حارساً وعائلاً.
تقول راضية وهي تتحدث إلى "سارة" التي تعرضت فجأة للقيء واشتبهت في كونها حبلى، وبعد أن تكشفت العلاقة وبينها وبين"علي"، تقول لها من باب التخفيف عنها ـ في حوارهما أثناء تحميم "راضية" لـ "سارة" ـ أنها حملت وأسقطت جنيها، دون أن تبوح باسم الفاعل أو مصيره.
أما الفتاة "سارة" فهي طالبة جامعية تعيش حريتها والدليل علاقتها الجنسية بزميلها في الصف "علي"، الذي لا يكلف نفسه عناء جدية البحث عنها، ليعود بعد يومين وفي رفقته فتاة جديدة، ويمارسان الجنس، وتشاهدهما عائشة، بنفس دهشتها الغامضة.
السيدة الجدة أو الأم، رغم صرامتها كسجان لا يعرف الرحمة، نراها في مشهد في الحمام وقد عرت شعرها وأطلقت له العنان، وأخرجت من صدرها علبة سجائر وعود ثقاب، لتأخذ أنفاساً قصيرة وتلقي السيجارة.
حالة فقد داخلية معقدة تلف الشخصيات، وقد نجحت المخرجة في أن تستخدم الحركة الجسدية والتعبير البصري ببراعة عبر أداء بطلاتها، فهذا الغموض الجمالي الذي يغلف هؤلاء البطلات، يفتح باب التساؤلات حول حياة كل واحدة منهن، حول سرهن حول قتل "عائشة" لهما: الجدة، والأم وانطلاقها ملوثة بالدم، الأمر الذي يعد بمعاني متعددة حول ما تتعرض له المرأة في عالمنا العربي والإسلامي ويظل غامضاً ومختفياً ومخفياً.
نساؤنا هنا سلبن المواجهة بفعل القمع الذي يمارس خفية وعلانية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ضد المرأة، فكان غيابهن قسراً، الحرية تقابلها الموت، لذا كان الحل هو الاحتفاء القسري، أليس ذلك ما تعيشه المرأة الآن في مجتمعاتنا.
وفعلت رجاء عماري ذلك برؤية فنية عالية، وببساطة متناهية، مقاربة المكان توافقت كلية مع الرؤية، القصر الفخيم التليد، الذي يتحول ذات ليلة إلى صالة ديسكو/مرقص، الغرفة الخلفية الوضيعة، أيضا الفقر الجاهل السجين في مقابل التعليم والحرية والانفتاح، الجسد الطليق في مقابل الجسد السجين، مقاربات كثيرة، وكاميرتها تفتح عينيها على اتساعهما لترصد وتقرأ ما يخالج الروح والجسد من تجليات، بهدوء ودون صراخ أو ضجيج، وبطلاتها كن يمثلن أدوارهن بعمق الحياة والواقع المؤلمين اللذين تعيشهما المرأة في كثير من بلداننا العربية والإسلامية.
تستحق رجاء التحية وتستحق بطلاتها خاصة بطلتها الفنانة الفذة حفصية حرزي التي لعبت دور عائشة أن نهنئهن على هذا الأداء المتميز والأكثر من رائع.