إبراهيم العريس ألف وجه لألف عام
ألف وجه لألف عام - «يوسف وإخوته» لتوماس مان: رواية أم نص تاريخي؟
ابراهيم العريس الحياة - 24/03/08//
توماس مان (1875 – 1955)
ليست رباعية «يوسف وإخوته» أشهر أعمال الكاتب الألماني توماس مان، هي – في نظر كثر من النقاد ومؤرخي الأدب - أقوى هذه الأعمال. لكنها في الوقت نفسه العمل الذي لم يكن احد يتوقعه من هذا الكاتب الروائي، الذي كان قبل ذلك أصدر معظم روائعه الكبرى لتدور غالبيتها في أجواء القرن العشرين. أما هذه العودة الى العصور القديمة، القرن الرابع عشر قبل الميلاد تحديداً، وإلى إعادة رواية فصول معينة من سفر التكوين، فمسألة حيرت المؤرخين كثيراً، خصوصاً ان مان كتب أجزاء الرباعية خلال ست عشرة سنة كانت الأصعب في تاريخ ألمانيا وتاريخه الشخصي، بل حتى تاريخ العالم بادئاً مع استيلاء النازيين على أذهان الشعب الألماني ثم على الحكم، منتهياً، مع بدء هزائم جيوش هتلر خلال الحرب العالمية الثانية (أي بين 1926 و 1943). ولعل أغرب ما في هذا الأمر هو أن توماس مان، كي يكتب وجهة نظره في حكاية يوسف استند الى المراجع اليهودية، في وقت كان اليهود بدأوا يعيشون حقبة اضطهاد فكري ثم جسدي طويلة تحت ربقة النازية. فهل كان هذا من صاحب «الجبل السحري» و «موت في البندقية» طريقته في الوقوف ضد النازية وفكرها في شكل موارب تماماً. أم كان الأمر مجرد مصادفة؟
بادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة هنا الى ان «يوسف وإخوته» ليست رواية تماماً، كما انها ليست رواية تاريخية في الشكل المتعارف عليه. إنها تاريخ متصور من كاتب ذي خيال واسع، لم يضف من عنده الى التاريخ، لكنه حاول ان يعيد تفسيره، انطلاقاً من الاطلاع على كل وجهات النظر، بما فيها تلك المتناقضة كلياً في ما بينها، كما انطلاقاً من الأسطورة التي صيغت، شعبياً، من حول يوسف، ثم من الرؤى الدينية للحكاية، وصولاً الى العقلنة التاريخية التي حاولها كتّاب أرادوا أن يقرأوا حكاية يوسف على ضوء نظرة الشعوب إليها، وضمن إطار سيكولوجي – سوسيولوجي. ومن هنا أتت الرباعية حاوية لكل هذا في الوقت نفسه، مضافاً إليه المتعة المعتادة في لغة توماس مان.
كما أشرنا يحدد توماس مان القرن 14 ق. م. زمناً للرواية وهو بهذا يجعل من أخناتون – الذي سيعرف لاحقاً بأبي التوحيد – فرعوناً على مصر يتخذ من يوسف حين يلجأ إليه نائباً له. ويكون يوسف بلغ الثامنة والعشرين من عمره حين وصول أخناتون الى السلطة. لكن هذا لن يحدث إلا في الجزء الثالث من الرباعية، وعنوانه «يوسف في مصر». أما الجزءان الأولان فيحملان العنوانين التاليين: «حكايات يوسف» و «يوسف يافعاً» أما الجزء الرابع والأخير فعنوانه «يوسف المعيل». من الناحية السردية، يبدو واضحاً ان توماس مان يتبع هنا التطورات الحدثية الواردة في سفر التكوين بين الفصل 27 والفصل 50، إذ ان أحداث الجزء الأول تشمل الفصول من 27 الى 36، والثاني الفصل 37 بأكمله، بينما يشمل الجزء الثالث الفصول من 38 الى 40، ويمتد الجزء الرابع من الفصل 41 الى الفصل 50. غير ان التغييرات والتبدلات الأساسية تتم داخل مجرى الأحداث وفي علاقات الشخصيات. إذ من الواضح أن ما أراد توماس مان التركيز عليه إنما هو – بحسب مفسري أعماله – سبر أغوار وضعية الأسطورة وتفسيراتها خلال الحقبة الأخيرة من عصر البرونز، وصولاً الى دراسة مدى الحقائق التاريخية التي تنطوي الأسطورة عليها، والانطلاق من هذا الأساس لدراسة بروز التوحيد. ومن هنا نرى الكاتب يربط الحكايات التي «يستعيرها» من سفر التكوين بأساطير مزامنة لها، تنتمي الى شعوب أخرى وثقافات أخرى لا علاقة لها – من الناحية المبدئية – بالعهد القديم والأديان التي جاء بها أو مهّد لها. وعلى هذا الأساس نجد توماس مان يقيم توازياً، متخيلاً، بين فكرة نزول يعقوب الى العالم السفلي وفكرة هرب ابنه يوسف الى مصر. وعلى هذا تصبح بلاد وادي النيل للابن، ما كانت عليه بلاد الرافدين للأب. وكذلك، على صعيد اصغر – ودائماً بحسب مفسري عمل توماس مان – تصبح حكاية انغلاق يوسف في البئر، موازية لحكاية عزل اينانا – عشتار وديمتري كما هو مروي في أسطورة تموز البابلية، ليخلص توماس مان من هذا معتبراً حكاية اسر اليهود في بابل، مجرد محاكاة على نطاق أوسع لكل حكايات الانغلاق والعزل هذه.
في هذا الإطار، يتفق توماس مان، مع واضعي التراتبية في مسار الأنبياء والرسل، جاعلاً من ابراهيم، مؤسس الأحناف، أي الموحدين، ثم من يعقوب وريثاً له، مكلفاً بأن يتبعه في تركيز دين التوحيد. وفي هذه الحكاية نفسها، يصبح يوسف على علم بالدعوة الإبراهيمية التوحيدية. ومن هنا، إذ يصل الى مصر، وينضم الى حاشية الفرعون اخناتون يصاب بالدهشة إذ يجد هذا الأخير داعياً، بدوره، الى التوحيد، متعاطفاً مع النبي ابراهيم ودعوته. والحقيقة ان هذا الاقتراح الفكري التاريخي، لم يكن توماس مان أول من وضعه، بل سبقه الى ذلك عدد من العلماء، ومنهم فرويد، خصوصاً في كتابه «موسى والتوحيد» الذي شكل أول ربط علمي بين توحيدية اخناتون وتوحيدية ابراهيم. علماً بأن فرويد ضم الى اقتراحه فكرة أن موسى كان معاصراً لأخناتون، وهو شيء لا نراه عند توماس مان واضحاً في «يوسف وإخوته» لكنه سيرد لديه لاحقاً في رواية وضعها عام 1944. ولعل من الأمور الملفتة للنظر في رواية توماس مان هذه، ان يوسف بعدما أنقذ من البئر الذي رمي فيه، غيّر اسمه الى اوزارسيف، ملحقاً بأول هذا الأسم، أول اسم اوزيريس، ما يوحي برابط بين الاثنين يقترحه توماس ايضاً، من دون ان تكون لديه الرغبة في الذهاب بهذا الاقتراح بعيداً... أو بالأحرى، لمجرد ان يوحي بأن يوسف صار الآن في العالم السفلي كما كانت حال أوزيريس. والطريف ان هذا التبديل في الأسماء هو – بحسب مفسري رواية توماس مان – معادل لتبديل اخناتون اسمه من امنحوتب الى اخناتون.
إن هذه التفسيرات كلها توحي هنا بأن توماس مان، انما سعى من هذا العمل الى إعطاء صدقية أدبية ما، للنظريات العديدة و «الغريبة» في ذلك الحين، التي كان سيغموند فرويد قد جاء بها من حول مثلث ابراهيم – اخناتون- موسى، غير ان هذه الفرضية لا تبدو لنا هنا دقيقة تماماً. الأرجح ان توماس مان، أراد في نهاية الأمر ان يكتب رواية تاريخية لا سابق لها، من دون ان يبدو على روايته انها تدنو حقاً من الشؤون الدينية أو من الشؤون العلمية – التاريخية. وفي يقيننا انه وفّق في ذلك، لأن قلة من الناس فقط، تعاملت مع رباعية «يوسف واخوته» من منطلق البحث عما اذا كان ما فيها من نقاط تاريخية أو دينية، مثبتاً تاريخياً أو لا. إذ منذ البداية استقبلت هذه الرباعية المكتوبة بلغة وأسلوب رائعين، بوصفها عملاً إبداعياً ترميزياً، أعطى الكاتب فيه لنفسه حق التصرف في الحقائق وفي التواريخ والعلاقات للوصول الى رسم صورة لزمن وفكر وشخصيات معظمها مستقى من التاريخ مباشرة، فيما أتى بعضها من مخيلة الكاتب مباشرة.
ومن المعروف ان توماس مان (1875 – 1955)، كان في المقام الأول روائياً، حتى وإن كان كتب بعض النصوص السياسية والفكرية والنقدية. ذلك انه لم يكتب هذه الأخيرة إلا تحت ضغط الأحداث، مفضلاً دائماً ان يطور أفكاره وآراءه وخيالاته، في نصوص قصصية أدبية. غير ان هذا لا يمنع من القول ان ثمة بين رواياته ما يبدو في نهاية الأمر، وكأنه – بوصفه تلميذاً لغوته ونيتشه وشوبنهاور في آن معاً – مجرد تفسير لنظريات وأفكار. غير ان هذا لا يبرز إلا عند القراءة الأولى لأعمال مثل «الجبل السحري» و «د. فاوستوس» و «آل بودنبروك» و «وطونيو كروغر»... وغيرها من أعمال سرعان ما تكشف قراءتها الثانية انها لم تكن، بعد كل شيء سوى روايات من نوع ندر ان ضاهاه كتّاب آخرون في طول القرن العشرين وعرضه في مجال كتابة الرواية الفكرية
ألف وجه لألف عام - من يصنع المجرم؟ سؤال فريدريك شيلر في رواية نادرة له
ابراهيم العريس الحياة - 04/07/08//
كان فردريك شيلر واحداً من أكبر الشعراء الألمان... وربما الأوروبيين ايضاً. وكان معروفاً ان الشعر يمثل جزءاً أساساً من كينونته. كان يقال عنه انه يأكل شعراً ويشرب شعراً. وهو كتب كل مسرحياته الكبيرة شعراً. ومن هنا لم يكن غريباً أن بيتهوفن، حين قرر ان يلحن سيمفونيته التاسعة - المعتبرة دائماً أحد أعظم الأعمال الموسيقية في تاريخ البشرية - مضيفاً الى حركتها الأخيرة إنشاداً شعرياً يقوم به الكورس، اختار من شيلر واحدة من أجمل وأقوى قصائده «نشيد الى الفرح». وبعد ذلك لم يكن مستغرباً ان أوروبا، حين اكتمل الجزء الأساس من توحيدها، وأرادت ان تجعل لنفسها نشيداً موحداً، اختارت بالتحديد تلك الأغنية التي لحنها بيتهوفن عن شيلر. ومع هذا كله ما كان في إمكان هذا الأخير، ان يكمل مساره الأدبي من دون ان يدنو من فن الرواية، ناهيك عن دنوه من فن التاريخ حين كتب سفراً يُعتمد عن حرب المئة عام. ففي الرواية كتب شيلر، خلال مرحلة من حياته روايتين قد تكونان منسيتين بعض الشيء اليوم، أشهرهما تلك التي أصدرها عام 1786، وكان بعد في السابعة والعشرين من عمره. ومهما يكن من امر علينا ألا ننسى هنا ان شيلر، الذي لم يعش سوى أربعة وأربعين سنة، كان بدأ ينشر أعماله، الشعرية والمسرحية، منذ كان في الثانية والعشرين، حيث انه ما إن بلغ الخامسة والعشرين حتى كان قد أضحى واحداً من أشهر كتّاب زمنه، لا سيما في مجال الكتابة المسرحية، إذ راحت الصالات تتلقف أعماله، تحديداً بدءاً من مسرحية «اللصوص».
> إذاً، في السابعة والعشرين من عمره، نشر شيلر الرواية التي نتحدث عنها هنا وعنوانها «الرجل الذي صار مجرماً لأنه خسر شرفه». والحقيقة ان هذا هو العنوان الذي اختاره شيلر، على رغم كونه شاعراً لعمل أدبي من الواضح أنه، إذ يصل في تفسيره الى ما يقوله العنوان، كان يحتاج عنواناً أقل تفسيرية وأكثر جاذبية. ولكن شاعرية شيلر لم تمكنه من الوصول الى ذلك. ولعل السبب الأساس الذي يكمن وراء هذا الاختيار، هو ان شيلر بعد سنوات الإبداع الشعري، المسرحي وغير المسرحي، التي شهدت بروز أعماله، اراد في تلك الرواية ان يرتاح من همّ الشاعرية بعض الشيء ليكتب نصاً يستعرض فيه قدرته على التحليل الموضوعي والغوص في سيكولوجية أبطاله. ومن هنا كان هذا العنوان الذي يتسم بما يتراوح بين العلمية والموضوعية.
> القصة التي بنى عليها شيلر حكايته هنا، قصة حقيقية اشتهرت في ألمانيا في ذلك الحين. وهي قصة صاحب شهرة ذاع صيته وعُرف باسم «فندقيّ الشمس»، مع انه كان لصاً معروفاً. اسم الرجل شوان وهو حوكم بعد ان قُبض عليه عام 1760. والحقيقة ان كل الوقائع التاريخية التي ترد في رواية شيلر، كانت معروفة في ذلك الزمن بحيث انه لم يسع للإتيان بأي جديد. والوقائع لم تكن - على اية حال - ما يهم شيلر. كان ما يهمه رسم دوافع ذلك اللص الشهير، وصورة العناصر التي أوصلته الى تلك الحال. ثم الأسباب التي جعلت الجمهور يتعامل معه تعامله مع بطل، لا مع لص خارج عن القانون. في اختصار، كان أول ما اراد شيلر ان يبرهن عليه في عمله هذا، هو ان الأشرار لا يكونون أشراراً بالفطرة. المجرم لا يولد مجرماً. بل ان تعامل المجتمع معه هو الذي يجعل منه ما سيصبح عليه. ولا شك في ان هذه الفكرة كانت فكرة هرطوقية في ذلك الزمن. وهرطوقيتها هذه، هي بالطبع ما جذب شيلر إليها وجعله يكرّس فترة طويلة من حياته لكتابة هذه الرواية. فما هي الحكاية؟
> تدور القصة من حول صاحب فندق - أو نزل - «الشمس» الذي سيُعرف هنا بـ «فندقيّ الشمس». فهو شخص ورث نزلاً حقيراً في منطقة غير مزدهرة. وقد ولد مشوه الخلقة، اصلاً، ما جعل الناس ينفرون منه وينصرفون عن معاشرته ضانّين عليه بالشيء الذي كان يحتاجه أكثر من أي شيء آخر: الحنان. وهو إذ أحس ذات يوم ان في وسعه ان يجد هذا الحنان لدى الصبية الحسناء جان، لا يجد منها إلا صداً يقوده الى اللصوصية السهلة. غير ان «منافسه» على قلب جان، المدعو روبير، لا يريد له - طبعاً - ان يغوي الفتاة بمآثره الجديدة، فيمكّن رجال الشرطة من القبض عليه بالجرم المشهود. فيودع السجن الذي إذ يخرج منه لاحقاً، لا يجد من المجتمع أي قبول له. يحاول جهده ان يتقرّب من جيرانه ومعارفه السابقين وأن يتودد إليهم، غير ان اياً منهم لا يريد ان يتعرف إليه. كما ان لا أحد يبدو راغباً في منحه عملاً يعتاش منه. في الوقت نفسه الذي يعبّر فيه عن أعلى درجات الحب تجاه الآخرين، لكنه في المقابل لا يحظى منهم بأية حرارة إنسانية. وأخيراً إذ يصده، بكل غلاظة طفل، كان توسل إليه بعض الطعام، يرى أنه لم يعد امامه إلا أن يسرق من جديد. وفي هذه المرة، لأنه كرر فعلته، يوضع في سجن قاس داخل قلعة حصينة. وهناك يجد نفسه مسجوناً وسط كبار اللصوص والمجرمين، لا يعود أمامه إلا أن يصبح واحداً منهم، فإذا بهؤلاء يقبلونه ويعلّمونه فنونهم. وهكذا يتحول، داخل ذلك السجن الى مجرم من العتاة. ويكون أول ما يفعله إذ يقضي هذه المرة محكوميته ويخرج، هو ان يقتل روبير ذاك الذي كان نافسه أول الأمر على قلب جان وتسبب له في ان يودع في السجن. ولأنه تمكن من قتل روبير، يصبح بسرعة زعيم عصابة لصوص قوية. غير ان ثمة دائماً، في أعماقه شعوراً يطالبه بأن يكون شيئاً آخر، وهكذا، حين تندلع حرب السبعة أعوام يتطوع جندياً فيها وكل أمله ان تنقذه الجندية من الشر والإجرام اللذين كانا من نصيبه. غير ان قادة الجيش لا يقبلون به جندياً على رغم كل إلحاحه. بل بدلاً من هذا، نراه يُعتقل من الشرطة العسكرية كمشتبه به... لكنه هذه المرة لن يعامل بالغلظة التي كان اعتاد ان يعامل بها في المرات السابقة، بل بشيء من الإنسانية، ما يخفف من غلواء مرارته وغضبه ويجعله يشعر انه، هذه المرة على الأقل، إنسان، ما يجعله يحس ايضاً ان عليه ان يسلم نفسه الى العدالة معترفاً بكل ما كان اقترفه من شرور وإجرام. وها هو الآن، أمامنا، قد فعل، ويجلس أمام القسيس راوياً له حكايته من الألف الى الياء قبل ان يلقى مصيره، الذي لم يكن ليشك انه سيكون له ذات يوم: أي الإعدام الذي حُكم به عليه... وهو حين يُعدم في نهاية الأمر لن يشعر بكثير من التعاسة.
> لقد لاحظ كثر من الدارسين والنقاد ان ثمة تشابهاً كبيراً بين حكاية هذا اللص، وحكاية مايكل كولهاوس التي كتبها كليست (المسرحي والشاعر الألماني الكبير الآخر). غير ان الفارق الأساس بين ما أراد شيلر قوله، وما قاله كليست يكمن في أسلوب المعالجة والرسالة النهائية. فكليست ركّز في عمله على البعد الملحمي لشخصية اللص وعلى مغامراته، أما شيلر فإنه، ركز على الجانب السيكولوجي والاجتماعي. ومن هنا إذا كان لص كليست عومل كبطل ينال إعجاب القراء، فإن بطل شيلر عومل كإنسان نال تعاطف هؤلاء القراء. فهل كان يسعى في حياته الى شيء غير هذا؟
> ولد فردريك شيلر عام 1759، في مدينة مارباخ، ليرحل عام 1805 في فايمار. وهو كان في الرابعة عشرة حين دخل المدرسة العسكرية في شتوتغارت حيث درس الطب والحقوق. أما إطلالته على الحياة الأدبية فكانت بمسرحية «اللصوص» التي، على رغم نجاحها، لم تخلصه من مهنة الطب. غير انه لم يواصل هذه المهنة طويلاً، إذ سرعان ما نجده يغوص في الكتابة، لا سيما الكتابة للمسرح، أكثر وأكثر، في الوقت الذي اهتم فيه بالتاريخ، ثم صار استاذاً للتاريخ والفلسفة، قبل ان يلتقي غوته ويعمل معه ثم يدرس ويشتغل في المسرح في فايمار، خلال سنوات حياته الأخيرة.
- «الملك لير» لشكسبير: مأساة الإنسانية في مرآة فجائعية....ألف وجه لألف عام - بسام الخوري - 03-12-2006 11:47 AM
ألف وجه لألف عام - «الملك لير» لشكسبير: مأساة الإنسانية في مرآة فجائعية
إبراهيم العريس الحياة - 11/03/06//
موريس كارنوفسكي يؤدي «الملك لير» عام 1965
لا يماري أحد، بالطبع، في أن «هاملت» هي الأشهر بين مسرحيات شكسبير جميعاً، والأكثر اجتذاباً لجمهور المتفرجين حين تقدم، أو لجمهرة الدارسين والباحثين حين تكون ثمة حاجة الى البحث في علاقة الأدب بالتحليل النفسي. ونعرف أن فرويد أوصل ذلك التوجه في البحث الى غاياته، حين أعاد تفسير مسرحية شكسبير الشهيرة هذه على ضوء بحثه في أسطورة أوديب وعلاقتها بجوانية الإنسان. ومع هذا ثمة من بين النقاد والباحثين الشكسبيريين من يفضل على هاملت، عملاً آخر لشكسبير هو «الملك لير». ومن بين هؤلاء الباحث البولندي يان كوت، الذي يظل كتابه «شكسبير معاصرنا» المرجع الأفضل لقراءة مسرح شكسبير على ضوء إنسانية الفكر ودرامية التاريخ. وليان كوت هذا قول لافت يبدأ به الفصل الذي كرسه لـ «الملك لير» في كتابه المذكور إذ يكتب: «... لا ريب أن «الملك لير» ما زالت تعتبر رائعة، ازاءها تبدو حتى «ماكبث» أو «هاملت» أليفة عادية. وتشبّه «الملك لير» بـ «القداس» لباخ، أو السيمفونيتين الخامسة والتاسعة لبيتهوفن، أو «بارسيفال» لفاغنر، أو «يوم الدينونة» لمايكل أنجلو، أو «المطهر» أو «الجحيم» لدانتي... إلا أن «الملك لير» في الوقت نفسه توحي للمرء بأنها جبل شامخ يعجب به الجميع، ولكن ما من أحد يتمنى تسلقه...». والحقيقة ان كثراً يشاركون كوت رأيه هذا، حتى وإن بدت لهم المسرحية شديدة التعقيد في أحداثها، وتبدلات تلك الأحداث، شديدة الالتباس في استنتاجها الأخلاقي... وهو أمر لا يقرّ به كوت... ولكن يجمع عليه شكسبيريون آخرون.
> منذ البداية لا بد هنا من الإشارة الى أن «الملك لير» التي تبدو في معظم جوانبها، وكأنها حكاية من حكايات الأخوة غريم ذات الهدف الوعظي الاخلاقي، والمقتربة جداً – مثلاً – من حكاية «سندريلا» الخرافية، هي في الأصل حكاية حقيقية، حدث ما يشبهها تماماً، في انكلترا العصور القديمة. وشكسبير لم يبتدع أحداثها، ولا القسم الأساس من شخصياتها. ربما يكون قد جمع شخصيات لم تجتمع حقاً في التاريخ، وربما يكون ضافر أحداثاً مع أحداث أخرى، لكن الأساس حقيقي، مثلما هي الحال بالنسبة الى معظم كما كتب شاعر الانكليز الكبير. وفي العادة، يحصي الباحثون عشرات المراجع والكتب، التاريخية والخيالية، التي يمكن القارئ أن يعثر فيها على أصول تلك الحكاية. بل انهم يذكرون أيضاً مسرحية تحمل الاسم نفسه «فاجعة الملك لير» لمؤلف مجهول طبعت أيام شكسبير وقرأها. ولكن لا بد من القول هنا وفوراً، إن الحكاية الأصلية تحولت على يدي شكسبير الى شيء آخر تماماً... وحسب المرء أن يقارن بين نص شكسبير، وبين نصين، على الأقل، للحكاية نفسها يمكن العثور عليهما في «ديكاميرون» بوكاشيو أو في كتاب «ملك الجن» لإدموند سبنسر، ليكتشف ليس «سر الصنعة» لدى شكسبير، بل سر الأدب ككل... وكيف يمكن هذا الأدب أن يستولي على نص سابق ليشتغل اليه محولاً إياه الى مأثرة فكرية وإبداعية نادرة.
> ومن هنا فإن أي تلخيص لـ «الملك لير» الشكسبيرية، لن يكون من شأنه إلا أن يقربها من النصوص السابقة عليها... لأن السر هنا في التفاصيل لا في الأحداث، في الكيفية التي ينعكس بها كل حدث من الأحداث على المشاركين فيه. علماً أن الأحداث هنا بالغة التعقيد وتتجاوز ذلك الوصف الذي توصف به، عادة، المسرحية من أنها حكاية أب وبناته الثلاث، حكاية الجمود والتواضع، الظلم والأسى... وسقوط الانسان من شاهق في شكل مجاني. ان كل هذا موجود في «الملك لير» ولكن ليس على مثل هذا الوضوح، ولا في مثل هذه البساطة. ولعل في إمكان يان كوت هنا ان يوضح لنا بعض الأمور ولكن ليس من خلال «لير» أو بناته، أو منافسيه أو أصهرته أو حتى مأساته، بل من خلال «البهلول» تلك الشخصية التي إذ تكون أساسية في الفصلين الأولين، تختفي في الثالث، وذلك بكل بساطة، لأن الملك نفسه في عز مأساته صار بهلولاً، ولا تحتاج المسرحية لبهلولين ومفتاح هذا – كما يقول كوت – ان «البهلول الذي اعترف بأنه بهلول، ورضي بأنه مجرد مضحك في خدمة الأمير، يبطل ان يكون مهرجاً. غير ان فلسفة المهرج مبنية على فرضية ان كل امرئ في الدنيا بهلول، وأعظم البهاليل هو ذاك الذي لا يعلم انه بهلول: انه السيد نفسه هنا».
> تبدأ مسرحية «الملك لير» بملك بريطانيا العظمى، في زمن غير محدد، وقد أضحى عجوزاً غير متماسك محاطاً ببناته الثلاث غونيريا دوقة آلباني، ريغان دوقة كونواي وكورديليا التي يتقدم الى خطبتها كل من ملك فرنسا ودوق بورغونيا. ذات يوم يقرر الأب ان يوزع مملكته بين بناته، فيستدعيهن ويطرح عليهن سؤالاً واحداً تكون حصة كل واحدة منهن من الأرض، متناسبة مع حسن جوابها عليه. والسؤال بسيط: كم مقدار الحب الذي تكنه كل واحدة منهن لأبيها؟ تحتج هنا الابنتان غونيريا وريغان... هل يجوز طرح مثل هذا السؤال؟ ان حب كل واحدة منهن لأبيها يتجاوز كل الحدود. فتنال كل واحدة منهن ثلث المملكة. أما كورديليا، الأكثر بساطة وتواضعاً فتجيب أنها تحب أباها حين تدعو الحاجة الى ذلك. ويغضب الأب، حارماً كورديليا من الأرض الباقية التي يوزعها على غونيريا وريغان... وتكون نتيجة ذلك أن ينسحب دوق بورغوني من طلب يد الأميرة الحسناء... أما ملك فرنسا فيقبل بها شرط أن يأخذها من دون مهر. وعلى هذا النحو يبدأ رحلة سقوط كورديليا من جراء موقفها البسيط الواضح. لكن السقوط الأكبر سيكون سقوط الملك لير، الذي – حين أقدم على ما فعل – لم يكن مدركاً أنه سيصبح ملكاً بالاسم وان ابنتيه المكافأتين ستضنان عليه حتى بالفرسان المئة الذين كان طلب من كل منهن تزويده بهم في مقابل حصتها من المملكة...انطلاقاً من هنا تتعقد الأحداث، وتتقاطع الشخصيات، تسود المعارك وضروب التنافس، ولا يجد الملك إذ أضحى ضريراً، فقيراً، شريداً بائساً، سوى كورديليا تأخذ بيده وتؤويه... هو الذي سرعان ما يصبح بؤسه صورة لبؤس الإنسانية كلها وكناية عن العبارة التي نسمعها من إدغار (ابن دوق غلوسستر المصاب بدوره بالجحود والفاقد هو الآخر كل كينونته ومكانه، بالتوازي مع حال الملك لير) مخاطباً إياه: «ان على البشر أن يعانوا خلال رحيلهم عن هذه الحياة الدنيا بقدر ما عانوا خلال مجيئهم اليها: والمهم هو أن يكونوا دوماً مستعدين لهذا». و «ويل للذين يغدر بهم الزمن من دون أن يكونوا مستعدين!». يبدو شكسبير وكأنه يقول لنا هذا، بوصفه الحكمة الحقيقية الوحيدة التي نخلص بها من هذه المسرحية التي تبدأ بمملكة واقتسامها، لتنتهي بأربعة متشردين هائمين على وجوههم في أرض جرداء وسط عواصف الداخل والخارج. هذه العواصف التي ليست في حقيقة أمرها سوى صورة حقيقية لـ «عالمنا الحزين»، إذ تعصف آخذة الملك لير وحياته وكرامته في طريقنا، فتجد الإنسانية كلها نفسها أمام مرآة حقيقية تصنعها لها، بقسوة ومرارة، عبارات الملك لير المعبرة عن مأساته.
> تنتمي «الملك لير» الى مرحلة ذروة النضج في مسار ويليام شكسبير (1564 – 1616) المهني، مع ان ليس في وسع أحد أن يحدد ما إذا كانت كتبت قبل «ماكبث» أو بعدها... علماً أن العملين يتكاملان. مهما يكن فإن أكثر الترجيحات تميل الى أن شكسبير كتبها بين العامين 1605 – 1606، وانها قدمت للمرة الأولى في 1606 ثم كانت طباعتها للمرة الأولى في العام 1608... ولقد أثارت «الملك لير» دائماً إعجاباً وسجالاً كبيرين، ووضعت في مكانة متقدمة بين «تراجيديات شكسبير الكبرى» مثل «هاملت» و «عطيل» و «ماكبث» و «تيمون الاثيني».
ألف وجه لألف عام - «الملك لير» لشكسبير: مأساة الإنسانية في مرآة فجائعية
إبراهيم العريس الحياة - 11/03/06//
موريس كارنوفسكي يؤدي «الملك لير» عام 1965
موريس كارنوفسكي يؤدي «الملك لير» عام 1965
لا يماري أحد، بالطبع، في أن «هاملت» هي الأشهر بين مسرحيات شكسبير جميعاً، والأكثر اجتذاباً لجمهور المتفرجين حين تقدم، أو لجمهرة الدارسين والباحثين حين تكون ثمة حاجة الى البحث في علاقة الأدب بالتحليل النفسي. ونعرف أن فرويد أوصل ذلك التوجه في البحث الى غاياته، حين أعاد تفسير مسرحية شكسبير الشهيرة هذه على ضوء بحثه في أسطورة أوديب وعلاقتها بجوانية الإنسان. ومع هذا ثمة من بين النقاد والباحثين الشكسبيريين من يفضل على هاملت، عملاً آخر لشكسبير هو «الملك لير». ومن بين هؤلاء الباحث البولندي يان كوت، الذي يظل كتابه «شكسبير معاصرنا» المرجع الأفضل لقراءة مسرح شكسبير على ضوء إنسانية الفكر ودرامية التاريخ. وليان كوت هذا قول لافت يبدأ به الفصل الذي كرسه لـ «الملك لير» في كتابه المذكور إذ يكتب: «... لا ريب أن «الملك لير» ما زالت تعتبر رائعة، ازاءها تبدو حتى «ماكبث» أو «هاملت» أليفة عادية. وتشبّه «الملك لير» بـ «القداس» لباخ، أو السيمفونيتين الخامسة والتاسعة لبيتهوفن، أو «بارسيفال» لفاغنر، أو «يوم الدينونة» لمايكل أنجلو، أو «المطهر» أو «الجحيم» لدانتي... إلا أن «الملك لير» في الوقت نفسه توحي للمرء بأنها جبل شامخ يعجب به الجميع، ولكن ما من أحد يتمنى تسلقه...». والحقيقة ان كثراً يشاركون كوت رأيه هذا، حتى وإن بدت لهم المسرحية شديدة التعقيد في أحداثها، وتبدلات تلك الأحداث، شديدة الالتباس في استنتاجها الأخلاقي... وهو أمر لا يقرّ به كوت... ولكن يجمع عليه شكسبيريون آخرون.
> منذ البداية لا بد هنا من الإشارة الى أن «الملك لير» التي تبدو في معظم جوانبها، وكأنها حكاية من حكايات الأخوة غريم ذات الهدف الوعظي الاخلاقي، والمقتربة جداً – مثلاً – من حكاية «سندريلا» الخرافية، هي في الأصل حكاية حقيقية، حدث ما يشبهها تماماً، في انكلترا العصور القديمة. وشكسبير لم يبتدع أحداثها، ولا القسم الأساس من شخصياتها. ربما يكون قد جمع شخصيات لم تجتمع حقاً في التاريخ، وربما يكون ضافر أحداثاً مع أحداث أخرى، لكن الأساس حقيقي، مثلما هي الحال بالنسبة الى معظم كما كتب شاعر الانكليز الكبير. وفي العادة، يحصي الباحثون عشرات المراجع والكتب، التاريخية والخيالية، التي يمكن القارئ أن يعثر فيها على أصول تلك الحكاية. بل انهم يذكرون أيضاً مسرحية تحمل الاسم نفسه «فاجعة الملك لير» لمؤلف مجهول طبعت أيام شكسبير وقرأها. ولكن لا بد من القول هنا وفوراً، إن الحكاية الأصلية تحولت على يدي شكسبير الى شيء آخر تماماً... وحسب المرء أن يقارن بين نص شكسبير، وبين نصين، على الأقل، للحكاية نفسها يمكن العثور عليهما في «ديكاميرون» بوكاشيو أو في كتاب «ملك الجن» لإدموند سبنسر، ليكتشف ليس «سر الصنعة» لدى شكسبير، بل سر الأدب ككل... وكيف يمكن هذا الأدب أن يستولي على نص سابق ليشتغل اليه محولاً إياه الى مأثرة فكرية وإبداعية نادرة.
> ومن هنا فإن أي تلخيص لـ «الملك لير» الشكسبيرية، لن يكون من شأنه إلا أن يقربها من النصوص السابقة عليها... لأن السر هنا في التفاصيل لا في الأحداث، في الكيفية التي ينعكس بها كل حدث من الأحداث على المشاركين فيه. علماً أن الأحداث هنا بالغة التعقيد وتتجاوز ذلك الوصف الذي توصف به، عادة، المسرحية من أنها حكاية أب وبناته الثلاث، حكاية الجمود والتواضع، الظلم والأسى... وسقوط الانسان من شاهق في شكل مجاني. ان كل هذا موجود في «الملك لير» ولكن ليس على مثل هذا الوضوح، ولا في مثل هذه البساطة. ولعل في إمكان يان كوت هنا ان يوضح لنا بعض الأمور ولكن ليس من خلال «لير» أو بناته، أو منافسيه أو أصهرته أو حتى مأساته، بل من خلال «البهلول» تلك الشخصية التي إذ تكون أساسية في الفصلين الأولين، تختفي في الثالث، وذلك بكل بساطة، لأن الملك نفسه في عز مأساته صار بهلولاً، ولا تحتاج المسرحية لبهلولين ومفتاح هذا – كما يقول كوت – ان «البهلول الذي اعترف بأنه بهلول، ورضي بأنه مجرد مضحك في خدمة الأمير، يبطل ان يكون مهرجاً. غير ان فلسفة المهرج مبنية على فرضية ان كل امرئ في الدنيا بهلول، وأعظم البهاليل هو ذاك الذي لا يعلم انه بهلول: انه السيد نفسه هنا».
> تبدأ مسرحية «الملك لير» بملك بريطانيا العظمى، في زمن غير محدد، وقد أضحى عجوزاً غير متماسك محاطاً ببناته الثلاث غونيريا دوقة آلباني، ريغان دوقة كونواي وكورديليا التي يتقدم الى خطبتها كل من ملك فرنسا ودوق بورغونيا. ذات يوم يقرر الأب ان يوزع مملكته بين بناته، فيستدعيهن ويطرح عليهن سؤالاً واحداً تكون حصة كل واحدة منهن من الأرض، متناسبة مع حسن جوابها عليه. والسؤال بسيط: كم مقدار الحب الذي تكنه كل واحدة منهن لأبيها؟ تحتج هنا الابنتان غونيريا وريغان... هل يجوز طرح مثل هذا السؤال؟ ان حب كل واحدة منهن لأبيها يتجاوز كل الحدود. فتنال كل واحدة منهن ثلث المملكة. أما كورديليا، الأكثر بساطة وتواضعاً فتجيب أنها تحب أباها حين تدعو الحاجة الى ذلك. ويغضب الأب، حارماً كورديليا من الأرض الباقية التي يوزعها على غونيريا وريغان... وتكون نتيجة ذلك أن ينسحب دوق بورغوني من طلب يد الأميرة الحسناء... أما ملك فرنسا فيقبل بها شرط أن يأخذها من دون مهر. وعلى هذا النحو يبدأ رحلة سقوط كورديليا من جراء موقفها البسيط الواضح. لكن السقوط الأكبر سيكون سقوط الملك لير، الذي – حين أقدم على ما فعل – لم يكن مدركاً أنه سيصبح ملكاً بالاسم وان ابنتيه المكافأتين ستضنان عليه حتى بالفرسان المئة الذين كان طلب من كل منهن تزويده بهم في مقابل حصتها من المملكة...انطلاقاً من هنا تتعقد الأحداث، وتتقاطع الشخصيات، تسود المعارك وضروب التنافس، ولا يجد الملك إذ أضحى ضريراً، فقيراً، شريداً بائساً، سوى كورديليا تأخذ بيده وتؤويه... هو الذي سرعان ما يصبح بؤسه صورة لبؤس الإنسانية كلها وكناية عن العبارة التي نسمعها من إدغار (ابن دوق غلوسستر المصاب بدوره بالجحود والفاقد هو الآخر كل كينونته ومكانه، بالتوازي مع حال الملك لير) مخاطباً إياه: «ان على البشر أن يعانوا خلال رحيلهم عن هذه الحياة الدنيا بقدر ما عانوا خلال مجيئهم اليها: والمهم هو أن يكونوا دوماً مستعدين لهذا». و «ويل للذين يغدر بهم الزمن من دون أن يكونوا مستعدين!». يبدو شكسبير وكأنه يقول لنا هذا، بوصفه الحكمة الحقيقية الوحيدة التي نخلص بها من هذه المسرحية التي تبدأ بمملكة واقتسامها، لتنتهي بأربعة متشردين هائمين على وجوههم في أرض جرداء وسط عواصف الداخل والخارج. هذه العواصف التي ليست في حقيقة أمرها سوى صورة حقيقية لـ «عالمنا الحزين»، إذ تعصف آخذة الملك لير وحياته وكرامته في طريقنا، فتجد الإنسانية كلها نفسها أمام مرآة حقيقية تصنعها لها، بقسوة ومرارة، عبارات الملك لير المعبرة عن مأساته.
> تنتمي «الملك لير» الى مرحلة ذروة النضج في مسار ويليام شكسبير (1564 – 1616) المهني، مع ان ليس في وسع أحد أن يحدد ما إذا كانت كتبت قبل «ماكبث» أو بعدها... علماً أن العملين يتكاملان. مهما يكن فإن أكثر الترجيحات تميل الى أن شكسبير كتبها بين العامين 1605 – 1606، وانها قدمت للمرة الأولى في 1606 ثم كانت طباعتها للمرة الأولى في العام 1608... ولقد أثارت «الملك لير» دائماً إعجاباً وسجالاً كبيرين، ووضعت في مكانة متقدمة بين «تراجيديات شكسبير الكبرى» مثل «هاملت» و «عطيل» و «ماكبث» و «تيمون الاثيني».
ألف وجه لألف عام - «حياتي» لريتشارد فاغنر: أربعة أجزاء تبرر فكراً وتروي مسيرة
ابراهيم العريس
ريتشارد فاغنـر
كان ريتشارد فاغنر، بكل تأكيد، واحداً من كبار الموسيقيين الذين أنجبتهم الثقافة الانمائية في تاريخها. وهو في هذا الاطار كان واحداً من كبار مبدعي فن الأوبرا في العالم كله خلال القرن التاسع عشر. غير ان عقلاً مركباً ومتمرداً مثل عقل صاحب «لوهنغرين» و «أساطين الغناء»، ما كان في امكانه أبداً أن يكتفي بأن يكون موسيقياً، مهما بلغت درجة ابداعه في هذا الفن. كذلك ما كان في امكانه أن يكتفي بأن يكتب مواضيع الأوبرات التي لحنها، وأشعارها. فهو، لأنه نال في حياته ثقافة رفيعة، وصادق كبار الفلاسفة والروائيين والمفكرين، وكان صاحب أفكار ثورية في السياسة والفكر، كما في الموسيقى والشعر، ولأنه، لاحقاً، سيصبح من أقرب المقربين الى الفيلسوف نيتشه، من ناحية، ومن ناحية أخرى الى الحاكم المتنور لودفيغ، ملك بافاريا، كان في مقدوره أن يتطلع دائماً حتى الى ما يتجاوز قدراته الآنية، بغية بناء قدرات مستقبلية يؤهله اليها استعداده.
ومن هنا نجد له، الى مؤلفاته الموسيقية ذات المستوى الاستثنائي غالباً، مؤلفات فكرية وكتباً في السياسة وفي نظريات الفن، استقى معظمها من تجاربه الفكرية الشخصية، وبعضها من غوصه العميق في دراسة التراث الشعبي الجرماني، وبعضها الثالث من نضالاته السياسية التقدمية التي ضحّى في سبيلها بالكثير. غير أن أياً من تلك الأعمال، ولا حتى الأوبرات والقطع الموسيقية الأقل استعراضية التي وضعها فاغنر، لم يتمكن من أن ينهل تماماً من تجربته الحياتية الشخصية، اذ ان فاغنر، الذي راحت عشرات الكتب والدراسات تسرد فصول حياته وعلاقاته وانعطافاته الحميمة الىتقلباته في تلك العلاقات، كان هو، خلال مرحلة متأخرة من حياته، يميل الى التكتم حول الكثير من تلك الحياة، وكأنه تبعاً لعادة جرمانية عريقة، كان يريد أن يقول ان المرء انما هو افكاره وانجازاته، أما خصائص حياته فليست على تلك الأهمية التي قد تعتقدها أقوام أخرى.
ومع هذا حدث لريتشارد فاغنر، ذات حقبة من عمره أن أحس، أخيراً، الحاجة الى أن يكتب عن نفسه، أن يؤرخ لحياته. وكان ذلك بدءاً من العام الذي بلغ فيه الخامسة والسبعين من عمره شاعراً أن سنواته باتت معدودة وان عليه هو أن يقوم بالمهمة، خوفاً من أن يقوم بها آخرون قد يشوهونها. وعلى هذا النحو، صدر في العام 1870، الجزء الأول من سلسلة من أربعة مجلدات ضخمة حملت كلها عنوان «حياتي» وتوقيع ريتشارد فاغنر. وقد تواصل نشر بقية الأجزاء حتى العام 1874، بحيث اكتمل الكتاب الذي سيقال لاحقاً على أية حال، ان فاغنر كان بدأ الاشتغال عليه، بتكتم، منذ ما قبل ذلك بأعوام. اذاً، وكعادته في تضخيم كل شيء انطلاقاً من حسّ عظيم كان مواكباً لشخصيته دائماً، لم يكتف فاغنر بأن يسرد حياته في كتاب، بل جعلها مسرودة في أربعة كتب، فمن يمكنه أن يزايد عليه في هذا المجال؟
ان فاغنر، منذ تقديمه الجزء الأول من كتاب حياته الضخم هذا، يعلمنا بأنه انما استند في صياغته الى عدد كبير من الصفحات والمدونات، التي كان بدأ يخطها في شكل منتظم منذ العام 1835، أي منذ كان في الثانية والعشرين من عمره، هو الذي منذ ذلك الوقت المبكر كان يعلم علم اليقين أنه سيصبح «شيئاً ما» ويصبح اسمه ملء السمع والبصر عما قريب – كما يقول لنا نيتشه في كناية لاحقة عن فاغنر -. أما هذا الأخير نفسه فإنه يفيدنا، أمام دهشة كثر، أن أول نص في السيرة الذاتية كتبه يعود الى العام 1842 حين لم يكن قد صار، بعد، المؤلف الموسيقي الكبير الذي نعرف. ومع هذا نراه يرسم في ذلك النص الأولي صورة «لمساره المهني العظيم». والحال أن هذا النص والمدونات التي سبقته لم تكن أول ما دبجه في هذا المجال، صاحب «بارسينال»، اذ انه كان ومنذ سن المراهقة يحمل كل الرسائل التي يبعث بها الى آخرين، فقرات عن حياته وأفكاره، ناهيك بفقرات أخرى كان يكتبها هنا وهناك. والواقع أن فاغنر عاد واستعمل تلك النصوص كلها في «حياتي».
غير ان ما بات من الضروري قوله الآن هو أن فاغنر، لم يكن يريد لـ «حياتي» أن يطبع وينتشر بين عموم القراء الا بعد موته. ومن هنا فإن الطبعة الأولى للأجزاء الأربعة، والتي نحن في صددها هنا، انما صدرت اول الأمر في مدينة بال السويسرية، في طبعة على حساب المؤلف، محدودة النسخ: 18 نسخة لا أكثر. لقد تعمد فاغنر هذا لمجرد أنه كان يخشى للمخطوطة الأصلية أن تضيع، فأصدر تلك الطبعة الأولى لدى الناشر السويسري الذي جعله يقسم على أن يحتفظ بالحكاية كلها، سراً متعهداً بألا يصدر طبعة عامة الا بعد رحيل الموسيقي. وهذا ما حدث بالفعل، اذ ان النسخ المطبوعة احتفظ بها في خزائن العائلة لتصدر مكتملة بالفعل بعد موت فاغنر.
مهما يكن من أمر، فإن هذا الاختيار لم يكن لا عن تعمد للغموض ولا عن نزوة... بل لأن فاغنر، انما كان يرغب في أن يُقرأ كتابه خارج اطار وجوده الشخصي والقدرة على مراجعته فيه، كذلك كان يريد أن يحترم الأشخاص الذين يذكرهم، بالأسماء في أجزاء كتابه، لأنه لم يكن ليريد أن يساء فهم ما يقوله عنهم، أو الاساءة الى سمعتهم، في حياته أو حياتهم. والمهم، في هذا كله هو ان فاغنر يروي هنا أحداث حياته بقدر كبير من البساطة والوضوح، في صفحات قد يخيل للمرء أمام بساطتها وهدوئها، ان من المستحيل أن يكون فاغنر كاتبها، وهو الذي اتسمت حياته دائماً بالصخب، وافكاره بالتعقيد وعواطفه بالجموح. اذ، من أين له الآن، كل هذه الرزانة، بل كل هذه الموضوعية التي يمكن أن تلحظ في الكتاب جزءاً بعد جزء وفصلاً بعد فصل، اسلوبياً، يتخلى فاغنر هنا، كما يقول كاتبو سيرة حياته من الذين اعتمدوا على هذه السيرة الذاتية، يتخلى عن كل تجريد، ليبدو على التوالي جاداً، مقداماً، متأملاً وربما حتى طيباً مع الآخرين... واصلاً الى حد التماهي التام مع الأحداث الكثيرة التي يروي لنا كيف مرت به وكيف مرّ بها، وظل على رغمها، حياً وحيوياً ومبدعاً خلاقاً، ففاغنر، وكما نعرف، لم يعش حياة مستقيمة محترمة دائماً، هو الذي – كما يقول بنفسه – كان يحدث له أن يكون اليوم قائد أوركسترا بائساً في مسرح ريفي، ليصبح غداً موسيقياً يكاد يموت من الجوع في باريس... ثم يجد نفسه معلماً في كاتدرائية في درسدن قبل أن يتحول بسرعة الى موسيقي وقائد أوركسترالي في بلاط ملك ساكسونيا، ولئن كنا نراه صديقاً للأمراء والملوك حيناً، فإننا لن ندهش إن رأيناه في اليوم التالي منفياً مشرداً... تفلت من الانتحار في اللحظة الأخيرة، ليجد نفسه سيداً محترماً في بلاط الأمير. ثم ينتقل من حياة عزلة مرعبة في تريبخن، الى مهندس يقوم ببناء مسرح في بايروت، وقد عاد من جديد ليصبح خليل الملوك والأمراء ونجيّيهم.
ان هذا كله يرويه ريتشارد فاغنر (1813 – 1883) في هذا الكتاب الضخم... ولكن الأهم منه أنه يروي لنا في الكتاب حكاية ولادة كل عمل من أعماله ولا سيما الكبيرة منها، بحيث انه، منذ صدور الكتاب وانتشاره، لم يعد من المنطقي الحديث عن أوبرات فاغنر وعن موسيقاه لأي باحث لم يقم بقراءة «حياتي» قبل أن يشرع في أية كتابة عن صاحب «حياتي».
ريتشارد فاغنر.
عن " الحياة "
دانتي// قصيدة سيمفونية لليست//ألف وجه لألف عام: وصولاً الى سمو الروح
دانتي// قصيدة سيمفونية لليست//
ألف وجه لألف عام: وصولاً الى سمو الروح
منذ ازمان موغلة في البعد، تغري «الكوميديا الالهية{ لشاعر ايطاليا النهضوي دانتي، كبار الفنانين والادباء بالاقتراب منها، استيحاءً او محاكاة، او حتى في محاولات لترجمتها الى اصناف اخرى من الفنون. ومن المعروف ان الفن التشكيلي، منذ عصر النهضة وصولاً الى دوريه في القرن التاسع عشر، وسلفادور دالتي في القرن العشرين، جرب حظه مع «الكوميديا{ ونجح، على عكس فنون اخرى لم يحالفها التوفيق نفسه. ومرد ذلك بالطبع، صعوبة الدنو من عمل يستغرق مئات الصفحات وتنفرد احداثه في تلك الاماكن البعيدة البعيدة، ويكاد يكون بعده الجواني اكثر ثراء من بعده البراني. ومن هنا ظلت «الكوميديا{، مثلاً، عصية على المسرح وعلى الاوبرا، ثم، في ازمان اقرب الينا، عصية على السينما.
غير ان الموسيقى الاوركسترالية، لا المسرحية/ الاوبرالية، لم تجابه بتلك الصعوبة نفسها، ومع هذا كان نادراً جداً اقتراب هذا الفن التجريدي الخالص، من عوالم الماوراء الدانتية. وحده المجري فرانز ليست حقق، الى حد علمنا، ذلك الاختراق، واضعاً عملاً كبيراً، من الغريب انه يكاد يبدو اليوم منسياً الى حد ما. وربما يعود هذا النسيان الجزئي الى غلبة اعمال اقل كلاسيكية واكثر شعبية وربما فولكلورية ايضاً على «ريبرتوار{ صاحب «الرابسودية الهنغارية.{
على رغم هذا، كان عمل ليست المقتبس من «الكوميديا الالهية{ هو نتاجه الاشهر خلال النصف الثاني من اربعينات القرن التاسع عشر، حين تجاوز المؤلف بداياته الخجولة بعض الشيء، ليلج مصاف الكبار. وبالنسبة اليه، حينها، لم يكن ذلك الولوج ممكناً من دون الاستناد الى كبار آخرين حقيقيين. وهكذا ما ان وجد في طريقه عملين ادبيين كبيرين يعتبران من شوامخ النصوص الاوروبية، حتى اندفع نحوهما دون وجل أو تردد. حدث ذلك اواسط الاربعينات من ذلك القرن، اذاً، وكان ليست بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره... لكنه لن يقدم على التنفيذ الفعلي للعملين المرتبطين بالنصين المذكورين، الا بعد ذلك بعشرة اعوام حين كانت عدته الفنية والتقنية قد اكتملت و... حسناً فعل.
العملان المعنيان هنا، هما «الكوميديا الالهية{ لدانتي، كما اشرنا، ثم «فاوست{ لغوته. وكان لافتاً ان العملين يتسمان معاً، بطابع تأملي فلسفي وربما ميتافيزيقي ايضاً، ما شكل، في الوقت نفسه، تحدياً للموسيقي، وعونا له ايضاً، طالما ان الموسيقى في ذلك العصر الذي غلبته الرومانسية كانت، ايضاً، مكاناً يمكن للأبعاد الروحية ان تتجلى فيه. فهل كان يمكن للروح ان تجد لنفسها تجلياً اروع مما يتيحه لها نص غوته، ونص دانتي؟
هكذا، اذاً، انطلق ليست في تأليفه الموسيقي المستوحى من العملين، واذا كنا هنا سنتوقف فقط عند «الكوميديا الالهية{، فان هذا لا يعني عدم وجود تواصل وتشابه - جوّاني - على الاقل بين العملين. كل ما في الامر اننا نتحدث عن الكوميديا الالهية، لأن «فاوست{ غوته يستأهل حديثاً مستقلاً آخر. والعمل الذي استوحاه فرانز ليست من رائعة دانتي، اطلق عليه موسيقياً اسم «دانتي - سيمفونية{، وهو جاء في نهاية الامر على شكل قصيدة سيفونية، اعتبرت دائماً - وايضاً - الى جانب «فاوست{ ابرز عملين طبق فيهما فرانز ليست نظريات موسيقية كان اعلنها، مركزاً على الملاءمة فيها بين رومانسية متخمة بالابعاد الروحية وكلاسيكية تحاول ان تدنو من الواقع والحياة نفسيهما. والحال ان نقاداً كثراً رأوا في العملين، وربما خصوصاً في «دانتي - سيمفونية{ مبالغة في التطبيق للنظرية يضع العمل ككل في خانة شبه اكاديمية، غير ان الجمهور العريض الذي احتفل بهذا العمل واحبه منذ البداية كان له رأي آخر: رأى في العمل تحفة من طراز نادر. وهو ما عاد النقاد والمؤرخون ليؤكدوا عليه بعد نسيان طويل.
منذ البداية كان ليست مدركاً للصعوبات التي تمثلها الترجمة الموسيقية لعمل من طراز «الكوميديا الالهية{، حتى وان كان المنطق يفرض عليه بالطبع، ان يكتفي بالتعاطي مع فصول قليلة ومحدودة من ذلك العمل الفسيح. ومن هنا نراه يحاول هنا، بدلاً من التحقيب، خوض لعبة توليف واضحة بين المواقف والفصول تختصر النص ومساره، لتتوقف عند ما هو اساسي. وعلى هذا النحو، قسم ليست القصيدة السيمفونية هذه الى ثلاثة اجزاء، سندرك لاحقاً، ان الاثنين الاخيرين منها، مرتبطان ببعضهما بعضاً. اما الجزء الاول، ويحمل طبعاً عنوان «الجحيم{، فانه لحّن على شكل ثلاثية، تبدأ بمقدمة هي اشبه بمدخل الى العمل ككل، أتى قوياً ومفعماً بالبعد الدرامي، انطلاقاً من استخدام كلي الحضور، للآلات النحاسية التي حددت «التيمة{ الاساسية للعمل. وبعد ذلك المدخل تتحول الموسيقى الى بعد غنائي عاطفي يجسد امامنا حكاية الغرام بين باولو وفرانشسكا، قبل ان تنتقل بعد ذلك وفي شكل عاصف الى خاتمة ذلك القسم المثلث.
بعد «الجحيم{ يأتي فصل «المطهر{ بالطبع... وهنا بدا من الواضح ان ليست يريد ان يلج استراحة معينة يصور فيها هدوء الارواح وقد ادركت انها باتت شديدة القرب من ابواب الفردوس. وأن لا شيء يمكنه منذ تلك اللحظة العودة بها الى الجحيم... وهكذا يبدأ هذا القسم بلحن رزين يقدم خصوصاً طريق آلات النفخ (الكورات، والاوبوا، مع اطلالات للكلارينات اتت دائماً ممهدة لتدخل الآلات الوترية). والحال ان هذا التدخل كان بدوره لفسح المجال امام ألحان شديدة العذوبة والهدوء تغرق السامع في احلام ما ورائية مدهشة... واذا كانت هذه الالحان تتزامن وتتقاطع متعددة، فان لحناً واحداً منها سرعان ما يتجلى وحيداً مؤكداً ذاته وحضوره على حساب الالحان الاخرى. وهذا اللحن هو المسمى «ماغنيفيكات{ والذي يتسم بطابع ديني احياناً، ويستخدم كثيراً في الاوراتوريو. اما هنا فانه، سرعان ما يسمح بظهور الكورس من دون سابق انذار ليندغم نشيد هذا الكورس في البعد السيمفوني اللاجئ الى دمج الآلات كلها في بوتقة لحنية واحدة. وهذا يمهد بالطبع للقسم الاخير من العمل حيث تبدو الموسيقى اكثر هدوءاً وجلالاً ما يختتم العمل كله على آفاق وجدانية روحية تذكر بأجمل ألحان باخ الدينية.
اذا كان ليست، في بعض اعماله، قد توجه الى الادب يستلهمه، فان هذا يجب ان يذكرنا بأن حياته نفسها، هو الذي عاش بين ۱۸۱۱ و،۱۸۸۶ كانت تبدو طالعة من عمل روائي ينتمي الى القرن الذي عاش فيه، بكل ما شهدته تلك الحياة من اجواء رومانسية ودرامية. فهو قدم اول حفل له حين كان في التاسعة، ثم التقى بيتهوفن وهو في الثانية عشرة، وأثار اعجابه الى درجة انه بعد تقديم عزف في فيينا، صعد بيتهوفن الى المسرح وعانقه. ومنذ تلك اللحظة بدأت شهرته تكبر، وراح يجول بين المدن الاوروبية، عازفاً، مؤلفاً وعاشقاً... وانجب ثلاثة اطفال قبل ان يدخل ديراً في روما ويدرس اللاهوت.
ابدى ليست دائماً اعجاباً كبيراً بباغانيني، ما جعله يرغب في ان يكون بالنسبة الى آلة البيانو ما كأنه المعلم الايطالي بالنسبة الى آلة الكمان. وكان لهذه الرغبة اثر في طغيان شهرته كعازف على شهرته كمؤلف... ومع هذا فإن التاريخ حفظ له مكانته كواحد من كبار مجددي الموسيقى الرومانطيقية، هو الذي معه ولد ما سمي لاحقاً «القصيدة السيمفونية.{ عرف ليست لاحقاً بمساعدته لكل زملائه الموسيقيين حين تواجههم صعوبات، وكان من بينهم فاغنز الذي ارتبط معه بصداقة لا سيما في بايروث التي لفظ فيها انفاسه الاخيرة.
ألف وجه لألف عام - «الكابوس المكيّف» لهنري ميلر: الابن الضال يتفحص وطنه
<
>ابراهيم العريس الحياة - 05/11/06//
--> «إذا سألوني: لماذا، إذاً، تريد أن تحصل على سمة دخول تعيدك الى فرنسا، ربما سيكون جوابي، كما كان في المرة السابقة: بحثاً عن لذتي الشخصية. أو، ربما، يكون الجواب: لرغبتي في أن أكون من جديد كائناً انسانياً». هذه الكلمات ترد على هذا النحو في الصفحات الختامية لكتاب عنوانه «ذهاباً واياباً الى نيويورك»، أصدر الكاتب هنري ميلر، طبعة جديدة ومنقحة منه في العام 1954، بعدما كان أصدر طبعة أولى، محدودة الانتشار، في العام 1935. ولسوف يقول ميلر لاحقاً أن الفارق الأساس بين الطبعتين يكمن في تخفيفه من حدة هجومه على يهود نيويورك. في الطبعة الأولى كان يوجه اليهم سهام اتهام حادة، أما في الطبعة الثانية فإنه محا كل ذلك. وفي وسعنا طبعاً أن نفهم هذا: في العام 1935، كان هناك هتلر والفاشية ولم تكن معاداة السامية تهمة رائجة ولا سيما في أميركا، أما في العام 1954، فإن معاداة السامية أصبحت تهمة يعاقب عليها مقترفها. غير أن هذا الجانب في الكتاب يبدو اليوم ثانوياً للغاية. لأن الأساس في مكان آخر: في النظرة التي ألقاها ميلر على نيويورك. وهي نظرة تتلاقى مع نظرة أخرى ألقاها الكاتب على أميركا كلها، في كتاب آخر له عنوانه «الكابوس المكيّف» أصدره في مرحلة وسط تماماً بين طبعتي «ذهاباً واياباً...»، أي في العام 1945. والحقيقة أن الكتابين معاً يتكاملان تماماً ليعطيا عن كتابة هنري ميلر، صورة جديدة تماماً، هو الذي تقوم «شعبيته» على افراطه في الحديث عن الجنس والدنو من المحظورات في أبرز كتبه وأشهرها. هذه المرة، في الكتابين، تختلف الأمور تماماً. بل ان ميلر يبدو فيهما مناضلاً ضد ذلك النزوع الحداثي الذي كان وطنه الأصلي يعيشه في ذلك الحين. ونقول: وطنه الأصلي لأن هنري ميلر كان من أولئك الأميركيين الذين آثروا دائماً العيش في أوروبا والكتابة فيها، بعيداً من الصخب الأميركي.
> في كتاب «ذهاباً واياباً الى نيويورك» يقدم ميلر، اذاً، في نص وضعه على شكل رسالة موجهة الى صديقه ألفريد برليس يحدثه فيها عن رحلة، دامت بضعة أشهر، قام بها الى نيويورك، تلت سنوات عدة كان أمضاها في أوروبا. فكيف رأى هنري ميلر نيويورك بعد عودته الى الحاضرة الأميركية الكبيرة؟ هذا هو مضمون هذا النص الصغير الذي نشر أولاً في طبعة خاصة وزعت على المعارف والأصدقاء، هي الطبعة التي سيعود ميلر بعد عقدين الى تعديلها – معدلاً فيها موقفه من اليهود – كما أشرنا -. ولكن، في المقابل، لم يغير ميلر شيئاً من الصفحات التي تصف صورة نيويورك كما رآها، ومن خلال رموز المدينة – التي كانت بالتالي رموزاً للحياة الأميركية الحديثة نفسها، حيث يتحدث ميلر، بنفور وفي شكل فوضوي عن انطباعاته وأفكاره حول النساء وصالات العروض الموسيقية والدعاية التجارية الطاغية وهيمنة الآلة، والمطاعم المكتظة وحياة الضواحي النيويوركية، والعاهرات والمثقفين والبؤس وصالات السينما وأفلامها وبناية امباير ستايت وتوم وولف وبرودواي والعصابات ولا سيما عصابات المافيا. كل هذا يتحدث عنه ميلر بوصفه يشكل الأجزاء المكونة للنسيج الاجتماعي والمديني لنيويورك، التي يختم حديثه عنها بالقول انها أشبه بـ «حوض أسماك كبير، ما أن ننظر اليه عبر جدرانه الزجاجية حتى نجده مليئاً بشتى أنواع الوحوش المنتفخة...».
> واذا كان ميلر قد بدا عديم الرحمة بنيويورك في هذا النص، سنلاحظ سريعاً في النص الآخر «الكابوس المكيف» ان قسوته تتعمم أكثر وأكثر لتشمل هذه المرة الشمال الأميركي كله، مقابل نظرة أكثر وداً وتفهماً يبديها إزاء الجنوب. ولهذا الكتاب، الثاني، حكاية خاصة بالطبع. ففي بداية سنوات الأربعين من القرن الفائت، وبعد تلك السنوات الكثيرة التي عاشها في أوروبا، راح هنري ميلر يشعر بقدر كبير من الحنين الى أميركا، فيما بدا أنه رد فعل خاص لديه على تلك النصوص القاسية التي كان خطها عن وطنه. وقال حينها: «لقد شعرت بالحاجة الى التصالح مع مسقط رأسي... غير ان شعوري هذا جاء مختلفاً عن شعور أمثالي من الذين كانوا يرغبون في العودة للبقاء الى الأبد في أحضان الوطن والعائلة. شعوري كان ان علي أن أعود مرة الى أميركا، لأهجرها بعد ذلك متنقلاً من مغامرة الى أخرى في مناطق نائية عنها. كنت أريد أن ألقي نظرة أخيرة على وطني قبل أن أعود وأهجره من دون أي حقد أو مرارة». والواقع أن هذه النظرة هي التي تُصوَّر لنا في «الكابوس المكيّف»، وهذه النظرة تشي لنا بكم ان أميركا، كما شاهدها هنري ميلر في العام 1940، بدت له منفرة وأكثر قبحاً مما كانت خلال اطلالته الأولى عليها قبل ذلك بخمس سنوات. ومع هذا فإن «معجزة ما» حلت منذ العام 1945، حين اكتشف ميلر ما سيسميه «مرفأ أمان وسعادة» في الجنوب الأميركي، حيث استقر راضياً منذ ذلك الحين مفضلاً البقاء هناك على العودة الى أوروبا.
> والحقيقة أن نص «الكابوس المكيف» بقدر ما يتحدث بكراهية واشمئزاز عن القبح الأميركي في العام 1940، يصف في المقابل جمالاً أميركياً خالصاً، اكتشفه ميلر في الجنوب. ومن هنا أصبح نص الكتاب كله عبارة عن مقارنة بين ذلك الشمال وذلك الجنوب، لمصلحة الأخير بالطبع. ولنوضح هنا ان هنري ميلر بدأ في العام 1940 – 1941، جولة في طول أميركا وعرضها، في رفقة صديقه الرسام آب راتنر. وكتاب «الكابوس المكيف» انما هو الوصف المفصل لتلك الرحلة. أما «الكابوس» الذي يتحدث عنه عنوان الكتاب فهو، بحسب ميلر، الحياة الأميركية نفسها، هذه الحياة التي بدت خاضعة تماماً لمتطلبات الصناعة والاستهلاك وطغيان الآلة، وتطلعات الصعود الاجتماعي السريع، ومهما كان ثمنه، الذي كانت تسعى اليه، بضراوة، فئات اجتماعية عدة. غير ان من «حسن حظ أميركا» لدى هنري ميلر انه، وعلى عكس غيره من الغاضبين على أميركا، رأى – وعبَّر عن ذلك في الكتاب – ان الحضارة الإنسانية الوحيدة التي يمكن وصفها بأنها الحضارة الأميركية، انما هي حضارة الجنوب... حتى وان كان يستطرد بأن جغرافية هذه الحضارة، تتقلص، رقعةً، شهراً بعد شهر، أمام غزوة الشمال الصناعي وحضارة الاستهلاك التي لا هوية لها. بيد أن ميلر الذي يبدو لنا في الكتاب، متجدد الأمل، يتوقف مطولاً عند أناس عرفهم وقابلهم، ليجد انهم يقاومون بضراوة «وروعة» ذلك الهجوم الشمالي القبيح. هؤلاء الأشخاص الذين اعتبرهم نماذج حية لمقاومي سياسة الامتثال والخنوع، مثل الدكتور سوشون (وهو رسام وطبيب وجراح في الوقت نفسه) والموسيقي فاريز، والرسام ويكز هال. ولعل الصفحات التي يرسم فيها ميلر بورتريهات هؤلاء الأشخاص مشيداً بـ «أمركيتهم» الحقيقية هي أجمل ما في الكتاب، خصوصاً وانها تعوِّض على سذاجة بعض الصفحات التي يبدو أن ميلر لا يوضح تماماً الفوارق بين حياة اجتماعية عامة، تقاوم التفاهة حقاً، وبين صناعة حديثة تجر البلاد اليها. اذ لا ننسيّن هنا ان ميلر كاتب – عرف بانفعاليته – ولم يكن عالم اجتماع على الإطلاق.
> مهما يكن تبقى لهذا الكتاب متعة قراءته كشهادة على كاتب ينظر الى وطنه، من الداخل ومن الخارج في آن معاً، نظرة موضوعية وذاتية في الوقت نفسه، وتظل قيمة الكتاب في المقارنة بينه وبين ما جاء، بقلم الكاتب نفسه، قبل ذلك بعقد من السنين. وهنري ميلر الذي كان حين كتب «الكابوس المكيف» في النصف الثاني من عقده الخمسيني، يعتبر من أشهر الكتّاب الأميركيين – والأوروبيين أيضاً! – أواسط القرن العشرين، حتى وان كانت شهرته قد قامت على كتب له «إباحية» مثل «نكسوس» و «بلكسوس»... عرفت حين صدورها منعاً من رقابات عدة، ومشاكل مع الهيئات القضائية في بلدان عدة.
ألف وجه لألف عام - «هبوط أورفيوس» لتنيسي ويليامز: الانسان في وحدته المطلقة
ابراهيم العريس
«لا أحد منا يمكنه أن يعرف أي أحد آخر. اننا جميعاً محكومون بالبقاء أسرى وحدتنا داخل جلودنا... طوال حياتنا». هذه واحدة من العبارات التي يقولها بطل مسرحية «هبوط أورفيوس» لتنيسي ويليامز، للادي، في واحد من مشاهد هذه المسرحية. غير أن فال، البطل المعني، لا يقول هذا الكلام متحسراً، بل يقوله بقدر كبير من الحيادية والموضوعية، وكأنه يقرأ أمام السيدة خبراً لا يعنيه. والحال أن هذه الوحدة التي يتحدث عنها فال هنا، هي الموضوعة الاساسية في هذه المسرحية التي كتبها تنيسي ويليامز في لحظة صعبة من حياته، خلال النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين، حيث كانت رواياته الكبرى أضحت وراءه بنجاحاتها وأمجادها، وبات يجد صعوبة كبرى في مواصلة طريقه في التعبير عن نفسه وعن أفكاره وتأملاته للمجتمع في أفراده في أعمال جديدة له. ومن هنا، حين وجد عام 1957، أنه في حاجة الى كتابة عمل جديد، التفت الى الأساطير اليونانية القديمة، باحثاً عن عمل يستلهمه، فوجد أسطورة أورفيوس، التي تلبي احتياجاته من ناحية تصويرها وحدة الانسان وفقدانه النعمة. بيد أن الفقدان، لم يكن - كما تصوره ويليامز على الأقل - كارثة على الانسان... بل كان، وإن في شكل موارب، نوعاً من التحرير له، ذلك أنه حرره من المسؤولية وحتى - ربما - من التعاطف مع الأفراد الآخرين. ولربما يمكننا أن نقول هنا إن هذه الحرية الأليمة، كانت دائماً في خلفية أفكار تنيسي ويليامز، الذي حين صور ما هو نقيضها، جعل الفرد هو «المسبب» لنفسه بهذا، انطلاقاً من حسن المسؤولية والشغف، وبالتالي انطلاقاً من الرغبة في التواصل مع الآخرين. على هذا النحو، حتى وإن كان من الصعب اعتبار «هبوط أورفيوس» واحداً من أعمال تنيسي ويليامز الكبرى، فإن هذه المسرحية، تعبر، على الأقل، عن الزوايا الخبيئة، ليس في كتابات ويليامز فقط، بل في حياته أيضاً. ومعروف في عالم نوع معين من الدراسة السوسيولوجية - النقدية للأدب، أن الأعمال الصغيرة للمبدعين تكون، عادة، أكثر من أعمالهم الكبيرة، كشفاً لخبايا نفوسهم وتفسيراً لأوضاعهم على الأقل خلال الحقبة التي يكتبون العمل فيها. من هنا قد يصح القول إن «هبوط أورفيوس» تساعد في تلمس بعض ملامح سيرة تنيسي ويليامز، أكثر من مسرحيات كبيرة له مثل «عربة اسمها الرغبة» أو «طائر الشباب الجميل» أو «الحيوانات الزجاجية» حتى ولو رأى البعض في أعمال مثل هذه، ارتباطاً بين كتابة ويليامز وسيرته.
> إذاً، اقتبس تنيسي ويليامز مسرحية «هبوط أورفيوس» من الأسطورة اليونانية المعروفة. وجعل أحداثها تدور في مخزن يصل اليه يوماً شاب وسيم الطلعة، غريب الاطوار، يحمل قيثارته ويرتدي سترة من جلد الأفعى. إنه شاب جوال يكاد لا يقر له قرار، لكنه هنا يسعى للحصول على وظيفة عامل في المخزن الذي تديره سيدة في مقتبل العمر تدعى لادي، تعيش وحدتها وحزنها في وقت يحتضر زوجها العجوز. يقع المخزن في بلدة صغيرة في الجنوب الأميركي، بلدة من النوع الذي اعتاد تنيسي ويليامز جعله مسرحاً لأحداث معظم رواياته وكتاباته الأخرى. إنها مدينة صغيرة تقليدية يطبعها استلاب جنسي عام تعاني منه معظم الشخصيات التي تجدها في المسرحية، كما يطبعها ضيق أفق مدهش وعنصرية واضحة الملامح. وسط هذا العالم يصل فال، ويحط رحاله لافتاً النظر بالغموض الذي يحيط بشخصيته وماضيه. ولكن أيضاً بوحشية نظراته وتمرده على كل ما هو تقليدي، بل حتى بحيوانية تصرفاته. إنه من النوع الصعب، لكن أيضاً من النوع الذي يمكن امرأة مثل لادي (حتى وإن كانت لا تقرّ بأخلاقياته) أن تقع في هواه ويصبح هو شغفها... فهي بعد كل شيء، وعلى رغم كل المظاهر، امرأة لها ماض هي الأخرى، ولها ضروب شغفها. ولربما كان شغفها الآن بفال، صورة مواربة لما كانت هي تريد أن تكونه. من هنا ترى نفسها منجذبة الى فال، واقفة من جراء هذا الانجذاب أمام امكانية حياة جديدة، حياة قد تكون الآن تعويضاً لها على استلاباتها اليومية ووحدتها ازاء وضعية زوجها المحتضر، لكنها - أي هذه الحياة - وبكل تأكيد تعويض لها عن ماض قريب، ربما لم يكن أقل سوءاً من حاضرها، مع كل ما في هذا الحاضر من ضجر وكآبة العيش في مدينة صغيرة كهذه. لذا لن يكون غريباً أن يستيقظ شغفها، متلاقياً مع شغف خفي لدى فال... وتنشأ بينهما تلك العلاقة التي كان مقدراً لها، على أي حال، أن تسفر عن نتائج درامية بالنسبة الى الاثنين معاً.
> من الواضح هنا، في مسرحية تنيسي ويليامز، كما في الأسطورة الاغريقية القديمة - والتي حولت مرات عدة الى مسرحيات وأوبرات ولاحقاً الى أفلام - ان فال انما هو رمز: إنه رمز الرجولة والقوة والطاقة، رمز كل ما هو خلاق ودافع الى الخلق في الحياة. مجرد وجوده يكشف للآخرين ان كل قوتهم وطاقتهم وقدرة الخلق لديهم، كلها أمور كانوا دفنوها في عمق أعماقهم، أمام وطأة العيش اليومي والحياة المستلبة. وهكذا ما ان تظهر القوة الخلاقة حتى تنبعث الحياة من جديد. ولكن ما يبدو أول الأمر سعادة وانطلاقة جديدة، سرعان ما يتبدى، عند تنيسي ويليامز على الأقل، كارثة درامية مرعبة.
> ربما يمكننا أن نقول في اختصار إن ما تعبر عنه هذه المسرحية، في نهاية الأمر، إنما هو الشغف الذي يتأرجح بين قمعنا له، ومحاولتنا استعادته... مهما كان الثمن، لكن المسرحية تعبر أيضاً عن محاولة الفرد أن يعيش عيشاً نزيهاً وشجاعاً، في عالم ساقط أخلاقياً. ومن هنا لأننا أمام عمل تعبيري، وربما رمزي أيضاً، سنشعر طوال الوقت اننا ازاء عمل يبتعد، أكبر قدر ممكن من الابتعاد، من تلك الواقعية السيكولوجية التي غالباً ما طبعت مسرحيات تنيسي ويليامز. هنا يحل بدلاً منها نوع من الواقعية الشعرية والنزعة التعبيرية، إذ علينا ألا ننسى بعد كل شيء أن «هبوط أورفيوس» عمل مأخوذ عن أسطورة، وليس مستقى من واقع الحياة اليومية. وبما أن تنيسي ويليامز، الواقعي بكثافة، لم يكن معتاداً على هذا النوع من العمل، لاحظ النقاد يوم عرضت المسرحية للمرة الأولى عام 1957 في برودواي، كيف أنها بدت، خلال جزئها الأول على الأقل بطيئة الانطلاق لا تعرف ما الذي تريد أن تقوله، أو تضيفه الى ما عهدناه في الأدب الجنوبي في الولايات المتحدة، خارج اطار رسم ضجر العيش وأخلاقية الشخصيات. لكنها خلال النصف الثاني منها تبدلت وصارت أكثر قوة ووضوحاً، إذ وصل ويليامز هنا، في حوارات شاعرية غير مألوفة لديه، الى تصوير علاقة الشغف بين كاتبين وحيدين يعيش كل منهما عزلته بطريقته الخاصة، بل بين ثلاثة كائنات إن نحن أخذنا في اعتبارنا شخصية أنثوية ثانية هي كارول.
> عندما كتب تنيسي ويليامز (1911 - 1983) هذه المسرحية، كان في السادسة والأربعين من عمره. وعلى أي حال لم تكن كتابتها عام 1957، أول كتابة لها من جانبه. فهو كان كتب صيغة سابقة منها عام 1940 تحت عنوان «معركة الملائكة»، غير أن استقبال تلك الصياغة في ذلك الحين، كان من السوء بحيث ان ويليامز طواها ونسيها تماماً، ليعود اليها، من خلال أسطورة أورفيوس، بعد ذلك بنحو عقدين. وتنيسي ويليامز المولود في مدينة كولومبوس (ولاية ميسيسيبي) عام 1911، عرف أواسط القرن العشرين بصفته واحداً من أكبر كتاب المسرح الأميركي، كما أن مسرحياته الأساسية حولت الى أفلام يشكل بعضها علامات في تاريخ السينما. ومن أبرز أعماله «قطة على سطح من الصفيح الساخن»، «عربة اسمها الرغبة»، «وشم الوردة»، «صيف ودخان» «الحيوانات الزجاجية» و«ليلة الايغوانا
ألف وجه لألف عام - «عيد السلام» لهولدرلن: حين يغمر الأرض نور السماوات
ابراهيم العريس الحياة - 02/06/06//
فردريش هولدرلن (1770 – 1843)
«إنها المقدمة الأولى، لنشيد جديد لم يسبق لأحد أن كتب مثله في تاريخ الانسانية». كان هذا هو التعليق الأول الذي أطلقه في العام الأول من القرن التاسع عشر، الناقد الألماني المعروف آنذاك هلنغراث، في معرض حديثه عن قصيدة طويلة كتبها ونشر أجزاء عدة منها في ذلك العام الشاعر فردريش هولدرلن. القصيدة استقرت، بعد مداولات، على عنوان شديد الدلالة وشديد الارتباط بموضوعها هو «عيد السلام». وكان هذا العنوان طبيعياً، لأن هولدرلن تحدث في قصيدته عن ذلك السلام الذي عقد في شباط (فبراير) من العام 1801، وأُطلق عليه اسم «سلام لونفيل». ومن الواضح من خلال تاريخ هولدرلن، كما من خلال النشيد نفسه، أن هذا الشاعر الرومانسي الكبير كان يرى في الاتفاق السلمي ذاك، بداية جديدة للحياة الانسانية برمتها، انطلاقة لعصر جديد. صحيح ان النشيد ككل لم يتوقف كله عند ذلك الاتفاق، لكن مقاطع عدة منه كانت لا تكف عن الذهاب والمجيء بين ثنايا الاتفاق للتغني به وبالذين وقعوه وبما يعد الانسانية به، متجاوزاً الهويات الصغيرة، والحساسيات العصبية، ضارباً صفحاً عن التاريخ لصالح صانع التاريخ: الانسان نفسه. ومن هنا قد يكون منطقياً اعتبار «عيد السلام» أول قصيدة انسانية ظهرت في القرن التاسع عشر، بعد أعوام قليلة من الثورة الفرنسية التي ألهمت الكتّاب الألمان كثيراً وأعطتهم آمالاً مستقبلية جاءت حملات نابوليون لتنسفها.
> غير ان هذا النشيد الذي كتبه هولدرلن في شكل متفرق ولم ينشره كاملاً في ذلك الحين، ظل على الدوام ناقصاً، اذ توزعت مقطوعاته بين البلدان والمدن لأسباب يصعب تصورها، اذ حتى العام 1952، ظلت تلك المقاطع تكتشف تباعاً، حيث عثر في لندن على ما اعتبر في ذلك الحين النسخة النهائية للمقاطع الأولى والتي تسبق عقد عيد السلام نفسه، هذا العيد الذي تختتم القصيدة بوصفه والعيش في أجوائه. أما مناخ النشيد في شكل عام، فاستخدم مسألة المصالحة بين «ألمانيا والمسيح» موضوعاً رمزياً له، انطلاقاً من الفكرة الكاثوليكية التي كانت تقول أن اختيار أباطرة الألمان الانتماء الى البروتستانتية، على الكاثوليكية، إنما كان ابتعاداً عن الكنيسة نفسها. غير أن هذا البعد الديني – المذهبي، في قصيدة «عيد السلام» لا يشكل جوهرها على الإطلاق – فالجوهر كما أشرنا انساني يدعو الى الوئام بين الشعوب والأجناس. يتحدث عن وحدة البشر. بل أكثر من هذا عن وحدة الفكر البشري، قبل المسيحية وبعدها، حيث رأى باحثون ونقاد كثر ان هولدرلن كان مهتماً، في شكل عام، بأن يصالح حتى بين المسيحية وبين الديانات غير التوحيدية السابقة عليها. هو كان ينطلق في هذا من اعتبار ان تلك الديانات القديمة كانت من اختراع الانسان الذي أحس بحاجة الى الوهية لم يقيض له نبي يرشده إليها قبل بروز الأديان التوحيدية. ومن هنا حين جاءت هذه الأخيرة – مجسدة في المسيحية بحسب هولدرلن – عاد الدين وتفكير الانسان الديني، الى حمى الإله الواحد فاقتنع الانسان به وآمن، من دون أن يعرف ماذا يفعل بآلهته القديمة، في أعماقه.
> في نهاية الأمر، قد يبدو هذا الموضوع شائكاً، بل حتى خارجاً عن نطاق النشيد، ولكن كان لا بد من توضيحه من أجل فهم أفضل للنشيد. ومنذ البداية نعرف ان هدف هولدرلن من كتابة أشعار هذا النشيد، لم يكن فقط أن يعبر عن نفسه أو عن مواقفه كما هي حاله في أشعاره الأخرى، بل خصوصاً أن يُنشر وأن يُقرأ على نطاق واسع. ومن هنا كان غريباً، منه أن يكتب في ملاحظات تقديمية: «انني أطالب قارئي بأن يقرأ هذه الصفحة بكل رحابة صدر. لو فعل لن يصبح أي شيء فيها عسيراً على الفهم... بل ستصبح في النهاية ذات تأثير كبير. أما اذا كان من شأن بعض الناس أن يجدوا هذه اللغة التي استخدمها تقليدية... فإنني أعترف أمامهم أن ما كان في وسعي أن أفعل أي شيء آخر. فأنا حدث لي أن شعرت ذات يوم، في يوم معين جميل، أن كل أساليب الغناء صارت مسموعة، وان الطبيعة نفسها، والتي انطلق منها هذا كله، تستعيد هذا الغناء بدورها. والحال أن مؤلف هذه الصفحات يفكر بأن يضع أمام أنظار قرائه كل المجموعة التي تتألف منها هذه الأوراق، وليس فقط هذه الأوراق القليلة التي ليست سوى نماذج». ومن الواضح في هذا الكلام ان هولدرلن الذي كتب ما يشبه النشيد العام، كان يعرف وهو يقدم بعض أوراق النشيد أنه سينجزه لاحقاً، وانه إنما كتبه بلغة عادية آملاً منه أن يصل الى الناس أجمعين، لا أن يظل شعر نخبته كما كان حال شعره في زمنه.
> يتألف النشيد في شكله الشامل، الذي من المؤكد أن فصوله لم تكتمل حتى اليوم في شكل نهائي، من أربع ثلاثيات... بيد أن هذا التقسيم الذي لم يتحدث عنه هولدرلن أبداً كما يبدو، لا يزال يثير سجالات حتى اليوم حول صوابه أو عدم صوابه. ونذكر ان السجال احتد بقوة بين العامين 1955 – 1956، في أوساط دارسي هولدرلن. أما السبب الأساس لأكبر قدر من السجال فكان الوصف الذي يورده هولدرلن لأمير العيد الغامض، الذي حار النقاد دائماً في تحديد هويته الحقيقية. فمن ناحية رأى عدد من الدارسين ان الأمير المعني لا يمكن أن يكون سوى بونابرت، على رغم نفور الأدباء والمفكرين الألمان من ذلك «العسكري الفرنسي القصير». ويرى آخرون ان الأمير الحقيقي انما هو العبقرية الألمانية، التي كان هولدرلن وأمثاله من الكتّاب يرونها عبقرية شديدة الخصوصية. وبين هذا الفريق وذاك كان ثمة فريق آخر يفضل أن يربط الأجزاء المعروفة من «نشيد السلام» بقصيدة لهولدرلن سابقة عليها، يرى كثر انها جزء منها عنوانها «المُصالح». وهذا الفريق الثالث كان ينطلق من هذا الاعتبار للقول ان أمير العيد، اذاً، لا يمكن إلا أن يكون «المُصالح» نفسه، أي السيد المسيح، الذي جاء الى هذا العالم لكي يخلص البشر. وها هو يعيد تخليصهم كلما احتاج الأمر ذلك. وفي هذا الإطار يرى هؤلاء أن هولدرلن كان ينظر الى صلح لونفيل على اعتبار أنه تجل حقيقي ومعاصر لرسالة السيد المسيح.
> والحقيقة أن ثمة مفكرين كثراً، رأوا أن هذا التفسير هو الأقرب الى الصواب، طالما ان ثمة – في رأيهم – «نوراً سماوياً رائعاً يحيط بالقصيدة ككل ويضيئها». ومثل هذا النور ما كان في إمكان شاعر رهيف مثل هولدرلن أن يضعه في القصيدة لو كان يرى أن «أميرها» – أي أمير السلام – انما هو نابوليون. فبونابرت كان يمكن أن يغمره أي شيء الا النور الإلهي. مهما يكن فإن الباحثين اكتشفوا رسالة كان هولدرلن بعث بها الى صديقه كارل غوك، في العام 1801، أي عام كتابة النشيد يقول في بعض سطورها: «انني أرى أن الأنانية في كل تجلياتها، ستنسحب الآن وفي نهاية الأمر أمام قوة الحب والطيبة المقدسة (...). وأرى ان الروح الشاملة ستحكم الأرض... وان فؤاد المانيا سيزهر في النهاية من دون صخب أو ضجيج».
> مهما يكن فإن هذه القصيدة التي يعود دارسو حياة هولدرلن وأشعاره الى الاهتمام بها من جديد في كل مرة صخب فيها العالم بضجيج الحرب والأسلحة، تعتبر من أبسط – وربما أيضاً أعمق – كتابات هذا الشاعر الذي عاش بين العام 1770 والعام 1843، وشهد بعض أصعب لحظات ولادة الفكر الانساني في الزمن الذي عاش فيه. وهولدرلن ولد في لاوفن ومات في توبنغن. وهو عاش في ظل أمه التي ظلت تشكل حماية له خلال مراحل حياته كلها. ولقد درس اللاهوت، لكنه لم يرغب أبداً في أن يكون رجل دين. وكان ولا سيما خلال النصف الثاني من حياته دائم الترحال... وعمل مدرساً خصوصياً لأبناء الأثرياء، ولا سيما منهم المصرفي غونتاذ والذي ربطت هولدرلن بزوجته علاقة غرامية ظلت قائمة حتى وفاتها (وخلدها تحت شخصية ديوتيما، التي نراها في الكثير من قصائده وكتاباته الأخرى). ومن أعمال هولدرلن «هيبوريون» و «موت أمبادوفلس»... ومجموعة «قصائد».
ألف وجه لألف عام – «عن المانيا حكاية شتاء»: هايني ضد التعصب0
admins
28 May 2009 8:19am
deutschland_ein_wintermaerchenابراهيم العريس
عندما وقف المستشار الألماني بيسمارك، في مجلس النواب ذات يوم ليصرخ أمام أعضاء ذلك المجلس «الرايخستاغ» طالباً منهم أن يكفوا عن التهجم على الشاعر هينريش هايني، قال بصوت مدوٍ وهو يعرف مدى ما لصوته من تأثير، وما لمكانته من أهمية، هو موحّد المانيا وبطلها في ذلك الزمان: «لا تنسوا أيها السادة أنه هو، من بعد غوته، كان مؤلف أجمل الأغاني التي كتبت في اللغة الألمانية». وأعضاء «الريخستاغ» الذين كانوا يحاولون النيل من هايني في ذلك الحين كانوا، في الحقيقة، يعبرون عن رأي عام، يرى في ذلك الشاعر عدواً لألمانيا ومحباً لفرنسا. وكانت حجتهم في استنتاجهم ذاك، كتب هايني الكثيرة، خصوصاً قصيدته «عن المانيا، حكاية شتاء»، تلك القصيدة التي كتبها أصلاً في باريس، ليرد بها على سذاجة مدام دي ستايل، التي كانت اعتادت أن تكتب عن المانيا المجاورة كتابات تقطّر ماء الورد، ولا تنتمي الى الحقيقة بصلة.
عندما كتب هايني «عن المانيا، حكاية شتاء Deutshland ein Wintermarchen، كان يعيش، إذاً، في فرنسا، تلك التي اختارها وطناً له، وأسأمه أن يواصل حياته في بلده الأصلي، المانيا، حين يسود التعصب وشتى النزعات القومية، ويقبب الفكر والعقلانية. وكان أشد ما يسئمه في ذلك أن البلد الذي يصل في التعصب القومي والوطني الى «هذا الدرك الأسفل» كان هو هو وطن العقلانية وكانط وهيغل، البلد الذي أعاد الى الفكر والفلسفة، مكانة كانت مفتقدة عملياً في أوروبا منذ خبوّ العصر الإغريقي. في الأصل كان هايني رومانسياً، بل انه لقب بـ «آخر الرومانسيين»، غير أن رومانسيته لم تكن لتمنعه من أن ينظر الى الأمور مواجهة، وأن تكون له آراؤه السياسية المنفتحة على آفاق العالم والفكر الإنساني.
> عندما كتب هايني «عن المانيا» كان لا يزال متحمساً، بل ان سنواته الطويلة التي كان أمضاها في فرنسا، كانت أيقظت لديه ذلك الحنين الذي يمكن أن نتلمسه في معظم المقاطع الأولى من ذلك العمل الشعري الطويل. فهذا العمل، الذي شاء هايني من خلاله أن يرسم لوحة عاطفية وحسية لشجرة العائلة الألمانية منذ العصور الوسطى وصولاً الى هيغل، كرد على كتاب مدام دي ستايل «عن المانيا»، الذي لم يتعامل معه إلا بمقدار كبير من الهزء والتهكم، هذا العمل الذي نشر في المرة الأولى في العام 1844 مع «قصائد جديدة»، ثم أعاد المؤلف نشره في العام 1851 مع مقدمة شرح فيها انه لكي يتمكن من نشره في المانيا اضطر الى اجراء الكثير من التعديلات فيه، لكيلا يمعن الألمان في اتهامه بمعاداتهم، يتألف من نصوص شعرية، تصف عودة الشاعر الى وطنه المانيا بعد غياب 13 سنة قضاها في المنفى، فإذا بالحنين يختلط مع الذكريات، وإذا بأرض الوطن تصبح أرض المعرفة. في اللحظات الأولى من القصيدة الطويلة، يشتد الحنين ويروح الشاعر واصفاً روح المانيا «الحقيقية» في رأيه: روح التوق الى المعرفة، والعقل، ويصف الطبيعة وجمالها وما يتوقعه من الإنسان إذ ينسى كل أنواع التعصب. إن هايني يشرح هنا بكل بساطة وحب موقفه الحقيقي من المانيا وفكرها وأهلها من دون أن تلوح في كتاباته نزعة التعصب الشوفينية كما هي ماثلة لدى أبناء قومه، ولا حتى النزعة الشمولية والسياسية – الغيبية، كما تلوح لدى مواطنه الشاعر الرومانسي غوريش. إن مشاعر هايني هنا هادئة: وإن المانيا التي يصفها ويتوق الى العودة اليها، المانيا التي يحلم بها في ليالي الشتاء الباردة، ويريد أن يفسرها للعالم. وأن يبرر حتى مساوئها، هي المانيا «الحقيقية» التي، في رأيه تجمع بين الروح الجرمانية الأصيلة، والوعي العقلاني التنويري الأوروبي، كما تجلى في فكر الثورة الفرنسية كما في فكر كبار التنويريين الألمان الذين نظروا الى تلك الثورة بعين العقل، لا سيما قبل كارثة العام 1813 التي بدلت ذلك كله، وأدت الى نمو شوفينية المانية كريهة، ضد فرنسا والفرنسيين، وضد الفكر الفرنسي خصوصاً. كل هذه المشاعر تتنازع الشاعر وهو متوجه في طريق العودة الى وطنه. وأمله، يبدو طوال الرحلة كبيراً، بأن يجد هذا الوطن وقد اتسم بالمسوح المثالية التي يريدها له.
> غير أن هذه الأحلام كلها سرعان ما تتبخر، إذ ما أن تطأ قدما الشاعر أرض الوطن، بعد غيبته الطويلة، ما ان يجابه الحقيقة بعيداً من أحلامه وتصوراته المثالية، حتى تعود اليه – وبقوة أكثر – كراهيته لأبناء وطنه. فهم، لم يبقوا فقط على الجهل والعمى اللذين كانوا عليهما، بل زادت حدة هذين عندهم، وصاروا أجهل وأعمى من ذي قبل، صاروا شوفينيين كارهين للعقل وللآخرين أكثر من أي وقت مضى. ويرى الشاعر هنا ان هذا سيكون وبالاً عليهم وعلى البشرية جمعاء أيضاً، ونعرف طبعاً أن التاريخ حقق لهايني نبوءته، هو الذي لم يغفر له الألمان ذلك التهكم عليهم أبداً.
> اليوم، يعتبر هينريش هايني من كبار الشعراء الألمان، ومن الكتاب الأوروبيين الذين كتبوا نصوصاً مهمة، ابداعية وعلمية، في اللغة الفرنسية أيضاً. ولكن في حياته، كانت لعنة هايني كبيرة، وهو عرف الفشل في أمور كثيرة اشتغل بها، ما جعل الفشل يشكل سمة أساسية من سمات حياته وكتاباته. ومع ذلك نجده، كتب كثيراً، كتب شعراً وكتب للمسرح، وكتب في الفلسفة وفي السياسة. وكتب في تاريخ الفنون، وأناشيد (ليدر) لحنها كبار الموسيقيين الألمان، ومن بينهم شومان. كان يكتب بلا هوادة وكان يحزن ويحبط بلا هوادة. انه في هذا كمرآة تعكس اضطراب أوروبا وقلقها في زمنه.
> وهايني ولد عام 1797 في دوسلدورف في المانيا، يوم كانت هذه المدينة خاضعة للسيطرة الفرنسية، ومات عام 1856 في باريس، بعد مرض أقعده ثماني سنوات كانت الأكثر ضراوة وايلاماً في حياته. وهو بدأ الكتابة باكراً، وتشبعت روحه بالأساطير الجرمانية الشمالية، وراح ينهل من الآداب الفرنسية والإنكليزية، ووعى في شبابه الفكر التنويري منتشراً، والرومانسية تعيش أزهى لحظاتها في زمن التغيرات الأوروبية الكبرى.
المصدر: الحياة
ألف وجه لألف عام - «الأمير السعيد» لأوسكار وايلد: الكاتب «المنحرف» حين يكتب للصغار
من يعرف السمعة «غير العطرة» التي صنعها النقاد والمؤرخون الفيكتوريون، أواخر القرن التاسع عشر، للكاتب والشاعر أوسكار وايلد، يصعب عليهم ان يصدقوا ان هذا المبدع «المنحرف» في رأي أولئك، يمكن ان يكون هو كاتب تلك المجموعة من القصص والحكايات القصيرة التي تضمها مجموعة عنوانها «الأمير السعيد». ذلك ان في هذه القصص من الشفافية والشاعرية والعمق الرمزي، ما جعل كثراً من القراء لا يصدقون ان كاتباً منحرفاً ويخضع للمحاكمات يمكن ان يصيغها. ومع هذا كان وايلد هو الذي كتبها لتنشر مجموعة في كتاب عُرف بأنه ينتمي الى الأدب الموجه الى الصغار. غير ان هذا لم يحل دون الكبار وقراءتها واعتبارها اعمالاً أدبية أصيلة. والطريف ان هذه النصوص لم توضع كنصوص مكتوبة، بل ان وايلد كان يقصها شفاهية على أخيه، وهما في باريس، إذ كان ذلك الأخ يسأله ان يزوده بموضوعات تصلح مقالات لصحيفة كان يراسلها. إذاً، كان أوسكار وايلد يبتكر ويحكي وكان أخوه يسجل. في البداية حوّل الأخ الحكايات الى مقالات صحافية، ثم بعد ذلك استعاد أوسكار حكاياته ليكتبها بلغته الخاصة ويصدرها مجموعة، للمرة الأولى عام 1888. وهي طبعت مرات كثرة بعد ذلك ولا تزال تطبع الى اليوم، كما ترجمت، مفرقة أو مجموعة الى لغات عدة. بل اعتبرها بعض مؤرخي حياة وايلد ودارسي أعماله، من افضل هذه الأعمال.
> وكما يمكننا ان نفهم هنا، تتألف المجموعة من قصص قصيرة عدة، أشهرها وأجملها، بالطبع، تلك التي أعطت اسمها الى المجموعة، حتى وإن كنا نعرف ان مبدعين لاحقين على زمن أوسكار وايلد, ومنهم موسيقيون، اتجهوا في تفضيلاتهم الى نصوص غير «الأمير السعيد»، إذ وجدوها أكثر ملاءمة كي تُقتبس في أوبرات أو أعمال موسيقية أو مسرحية أخرى، ومن هنا كانت حصة، ثاني حكايات المجموعة «العندليب والوردة» أكبر كثيراً، حيث نعرف انها اقتُبست مرات عدة، في أوبرات وأغنيات ومشاهد باليه وما الى ذلك. بينما لم تقتبس «الأمير السعيد» سوى مرة واحدة في شكل مباشر في عمل رسوم متحركة تلفزيوني (عام 1974). ومهما يكن فإن هذا الأمر لا يغير من الواقع شيئاً، لا سيما من واقع ان ملايين الأطفال، والكبار ايضاً قرأوا دائماً «الأمير السعيد» بمتعة وتأثروا بها.
> تتحدث «الأمير السعيد» عن أمير عاش خلال حياته معزولاً عن الناس فلم يحس ابداً ببؤسهم ومعاناتهم. ثم حين مات أقيم له تمثال مرتفع وسط المدينة، كان يمكنه منه ان يطل على الناس والأحياء الفقيرة ما جعله يعي، في حاله الجديدة تلك، حقيقة اولئك الناس وبؤسهم وجوعهم. ولما كان غير قادر على الحركة، لأنه تمثال، استعان بسنونوة، صديقة له تحط عليه بين الحين والآخر، كي تنقل الى الناس البائسين تباعاً، قطعاً من الذهب وجواهر من التي تزين ثيابه. وكانت السنونوة تنفذ مطلب الأمير وتوصل تلك الثروات الصغيرة الى الناس فيسدون بثمنها بعض جوعهم. وفي نهاية الأمر، كان لا بد لتلك الثروة ان تنفد، ما جعل السنونوة تدرك انها ستموت من البرد، هي التي اعتادت اللجوء الى التمثال حين يشتد الصقيع، فتجد في ثيابه وزينته الثمينة دفئاً وملجأ لها. ولما أدرك الأمير خطورة ما فعل مع السنونوة وأنها لا محالة هالكة، حاول ان يبعث فيها الدفء من طريق طلبه منها ان تقبله على شفتيه. تفعل لكنها مع ذلك تموت وينفطر قلب الأمير...
> في القصة الثانية، «العندليب والوردة»، وهي الوحيدة في المجموعة التي تضاهي شهرتها – الى حد ما – شهرة «الأمير السعيد»، لدينا عندليب يحدث له ذات يوم ان يسمع شكوى طالب من ان ابنة أستاذه لا تريد ان ترقص معه، بالنظر الى انه غير قادر على ان يأتي لها بوردة حمراء. على الفور يتوجه العندليب الى الحديقة حيث يتجول بين شجرات الورد، حتى تخبره واحدة من هذه الشجرات انها قادرة بالفعل على ان تبرعم وردة حمراء، شرط ان يكون العندليب مستعداً للتضحية بحياته في سبيل ذلك. يتردد العندليب اول الأمر، لكنه إذ يعود ويرى كمّ الدموع التي تذرفها عينا الطالب، يقرر ان عليه ان يقوم بتلك المهمة مهما كلفه الأمر. وهكذا يندفع نحو شجرة الورد غارزاً شوكها في جسده وقلبه خاصة، كي ينزل الدم القاني منه ويلون الوردة. وإذ يحصل الطالب العاشق على وردته الحمراء يحملها ويقدمها الى ابنة استاذه التي، ترفض عرضه هذه المرة، إذ خلال ذلك الوقت كان شخص آخر دنا منها وأهداها جوهرة «وكل الناس يعرفون بالطبع ان قيمة الجواهر تفوق كثيراً قيمة الورد ولو كان أحمر اللون». وهكذا إذ يفشل طالبنا المسكين في مسعاه، لا يكون منه إلا ان يخرج من المكان رامياً الوردة، عائداً الى دروسه، حيث ينكب على مادة الميتافيزيقا.
> تحمل القصة الثالثة في المجموعة عنوان «العملاق الأناني». والعملاق الأناني هنا هو صاحب حديقة جميلة غنّاء يحب الأطفال ان يلعبوا في رياضها. ولكن إذ يعود العملاق ذات يوم من زيارة قام بها الى دار الغولة، لا يروقه تمتع الصغار بحديقته، فيطردهم بعنف، ثم يبني من حول الحديقة سوراً يمنعهم من دخولها في المستقبل. وتكون النتيجة ان يحلّ على الحديقة فصل شتاء لا ينتهي. ولكن ذات صباح يوقظ العملاق من نومه ليجد ان الربيع عاد الى الحديقة، إذ تمكن الأطفال من إحداث ثغرة في السور نفذوا منها وعادوا يلعبون. يدرك العملاق بالطبع خطأ أسلوبه فيقرر هدم السور. لكنه حين يخرج من داره الحصينة ليفعل ذلك، يرتعب الأطفال ويهربون، باستثناء واحد منهم كان يبكي قبل ذلك الى درجة انه لم يلاحظ وصول العملاق. يشاهد العملاق الصبي، فيساعده لتسلق شجرة كان هذا يريد تسلقها. وعلى سبيل الامتنان يقبل الصبي يد العملاق... الذي يقول له بكل لطف هذه المرة: «إن هذه الحديقة حديقتكم يا ايها الأطفال...». ثم يهدم السور ليتدفق الأولاد لاعبين من جديد ويعود الربيع. وتمر سنوات قبل ان يصل العملاق الى مشارف الموت، فينزل الى الحديقة وكان الفصل شتاء، ليلاحظ كيف ان الربيع يبرعم في قسم منها ويزهر اشجارها ومنها واحدة كان الطفل الضائع مستلقياً عليها...
> «الخلّ الوفي» هو عنوان القصة الرابعة، التي تقل أهمية عن الثلاث السابقة، وبالتالي لم يتم اقتباسها، كما ان النقاد لم يتحدثوا عنها كثيراً. تدور هذه القصة من حول هانز، وهو جنيناتي صديق لطحان ثري. وهذا الطحان، يسمح لنفسه بأن يقطف ما يشاء، باسم الصداقة، من حديقة هانز على ان يعطيه في المقابل ما يعوض عليه ما كان باعه كي يؤمن لنفسه طعاماً. لكن الطحان الثري لا يعطي الأشياء بسهولة، ومن هنا يطلب من هانز ان يقدم له خدمات كثيرة في مقابل كل وعد بإعطائه شيئاً. وتصل الطلبات الى حد يثير معاناة هانز، ثم موته حين يسأله الثري ان يأتي له ذات ليلة عاصفة بطبيب يداوي ابنه المريض. طبعاً يأسف الطحان الثري لموت صديقه، لكنه لا يقدم شيئاً غير الأسف.
> أما في القصة الخامسة «السهم الناري الملحوظ»، وهي التي قال النقاد دائماً انها الأضعف بين القصص الخمس، فإن الحكاية تتمحور من حول سهم ناري كان من بين مجموعة يجب إطلاقها لمناسبة زواج أمير من أميرته. ولما كان السهم مغروراً منتفخاً يريد دائماً ان يبدو مميزاً، يغرق في دموعه ليلة الإطلاق كي يبرهن على انه أكثر حساسية من بقية الأسهم. ويؤدي هذا، بالطبع، الى بلله، وثم الى عدم انطلاقه. وإذ يُرمى في القمامة في اليوم التالي يظل معتقداً انه فائق الأهمية ولا يمكن للجمهور ان يكون سعيداً من دونه. في النهاية ينشف ويطلق ولكن في وقت لا يكون فيه أحد قادراً على ملاحظة وجوده وانطلاقه.
> لقد سعى أوسكار وايلد في قصص هذه المجموعة، الى المزاوجة بين الأدب الغرائبي والنقد الأخلاقي، بل حتى الفني، وذلك في لغة بسيطة هادئة. ومن هنا حتى إذا كان كثر في العالم لا يعرفون شيئاً عن روايات اوسكار وايلد (1854- 1900) وأشعاره ومسرحياته، لا شك في ان صغاراً كثراً وربما كباراً أكثر ايضاً، يعرفون هذه الحكايات التي صارت، منذ زمن بعيد جزءاً أساسياً من مخزون الأدب الغرائبي وأدب الأطفال في العالم.
المصدر: دار الحياة