لا أحد يستطيع الجزم بما سيستجد في لبنان من الآن وحتى صدور القرار الظني، الذي من المفترض أن تصدره المحكمة الدولية في سبتمبر (أيلول) المقبل، ولذلك فإن كل الاحتمالات ستبقى واردة وممكنة الحدوث حتى بما في ذلك ما بقي زعيم حزب الله الشيخ حسن نصر الله يهدد ويلوح به منذ أن أشارت التسريبات الصحافية إلى أن المدعي العام الدولي سيوجه اتهاما مباشرا إلى أعضاء في هذا الحزب يُحِّملهم بموجبه مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري قبل أربع سنوات ونيف.
والخطير في الوضع اللبناني الذي لم يكن هشا وقابلا للتشظي في أي لحظة، منذ اجتياح حزب الله وتحالفه «الديكوري» لبيروت الغربية في مايو (أيار) من عام 2008، كما هو في هذه الأيام فالنفوس، إن ليس الميليشيات، سارعت إلى التمترس في خنادقها الطائفية بمجرد تهديد حسن نصر الله بأنه سيقلب أوضاع لبنان رأسا على عقب إن وجَّهت المحكمة الدولية اتهاما مباشرا لأعضاء في حزبه بارتكاب جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، والغريب أن «سيد المقاومة» هو الوحيد من بين كل الزعامات اللبنانية الذي يؤكد أن هذه المحكمة قد اتخذت قرارا فعليا بهذا الخصوص.
وبالطبع فإن الشيخ حسن نصر الله يواصل الإصرار على أن إسرائيل هي المسؤولة عن ارتكاب جريمة اغتيال الحريري لكنه يرفض رفضا قاطعا أن يأخذ بعين الاعتبار أن أعضاء حزبه الذين ذكرت التسريبات الصحافية، دون أن تسميهم أو تحدد عددهم، أن المدعي العام الدولي يتهمهم بتنفيذ عملية الاغتيال هذه ربما يكونون في عداد الذين استطاعت الاستخبارات الإسرائيلية تجنيدهم للعمل لحسابها ومن بين هؤلاء العميد السابق في الجيش اللبناني فايز كرم الذي يقال إنه المشرف على تنسيق الشؤون العسكرية والأمنية بين حزب الله وبين التيار الوطني الحر الذي يتزعمه الجنرال ميشال عون.
واللافت أن حسن نصر الله ورغم هشاشة الوضع اللبناني وقابليته للتشظي لا يزال يتمسك بوهم تلك اللحظة المريضة عندما اجتاحت قواته بيروت الغربية في أيار عام 2008، حيث ظن أن الطائفة الشيعية، التي لا تؤيده كلها، والتي يفرض نفسه عليها بقوة السلاح والمال، غدت أُم الطوائف اللبنانية وباتت هي الأمر الناهي في هذا البلد المتنوع الذي هو عبارة عن لوحة طائفية وإثنية «فسيفسائية» قوامها نحو عشرين طائفة ومجموعة عرقية لكل واحدة منها خصوصيتها وتشكل كلها معا هذا المجتمع اللبناني المتميز والحيوي.
لا شك في أن السيد حسن نصر الله يعرف ويعلم ربما حتى أكثر من غيره أن التوازن بين طوائف لبنان، إن ليس كلها فعلى الأقل الرئيسية منها، هو الذي يضمن استقرار هذا البلد وثبات وازدهار ديمقراطيته لكنه مثل كل الذين سبقوه في الإصابة بداء الغرور والنرجسية السياسية ودفعوا لبنان دفعا إلى الحروب الأهلية المدمرة لم يكن يضع هذه المعادلة الحساسة في حساباته لا «الاستراتيجية» ولا «التكتيكية» لا عندما أرسل مغاوير حزبه لاجتياح بيروت الغربية عام 2008، ولا عندما شعر بأن جمر المحكمة الدولية أخذ يلامس أصابع قدميه ويديه.
في عام 1959، أصيب الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون بعمى الألوان هذا نفسه، الذي يبدو أن إصابة عيني السيد حسن نصر الله به غدت بليغة بعد أن لامس جمر المحكمة الدولية أطراف أصابع قدميه ويديه، فحاول استغلال لحظة
اعتقد فيها أن التوازن الطائفي قد اختل لمصلحة الطائفة «المارونية» التي هي طائفته لفرض هذه الطائفة على الطوائف الأخرى وكانت النتيجة تلك الحرب الأهلية البشعة التي اندلعت عام 1958 والتي لم تتوقف إلا بعد استعادة التوازن السابق وبعد أن تراجع صاحب هذه النزوة التي ألقت بهذا البلد الجميل بين ألسنة نيران الكراهية والحقد عن نزوته.
ثم وفي بدايات سبعينات القرن الماضي أحست الزعامات السنية مدعومة بقوة المقاومة الفلسطينية الوافدة، التي وصفتها بأنها جيشها إذا كان الجيش اللبناني هو جيش «الموارنة»، أنها أصبحت قادرة على فرض نفسها على معادلة التوازن الطائفي اللبناني التقليدي وكانت النتيجة تلك الحروب الأهلية المدمرة التي تواصلت لنحو 15 عاما ودخلت كل مدينة وكل قرية بل كل شارع وبيت ولم تضع أوزارها إلا بعد تلك المبادرة السعودية الكريمة حيث انعقد مؤتمر الطائف الشهير وأعاد صياغة المعادلة الطائفية اللبنانية وفقا لشعار: «لا غالب ولا مغلوب» الذي كان صائب سلام، رحمه الله، قد أطلقه بعد توقف حرب عام 1959.
قبل كل هذه الحروب وأولها الحرب الأهلية عام 1860 كان العامل الخارجي سببا رئيسيا في اهتزاز التوازن الطائفي وارتجاج المعادلة الطائفية، مما أدى إلى الصدام والمواجهة العسكرية، ففي عام 1958 كان العامل الخارجي الذي هو بريطانيا قد استدعى تدخل عامل خارجي آخر هو الرئيس جمال عبد الناصر الذي سارع لإسناد الطائفة السنية ضد كميل شمعون والطائفة المارونية، وفي بدايات سبعينات القرن الماضي كان العامل الخارجي هو المقاومة الفلسطينية التي رفعت شعار: «الطريق إلى فلسطين تمر بجونية» الذي استدعى بدوره تدخل عامل خارجي آخر هو إسرائيل وهو الولايات المتحدة لإسناد الطائفة المارونية، التي تعرضت تحت لافتة إنها «انعزالية» لمحاولات، ساهم فيها المرحوم كمال جنبلاط أيضا، لتحجيم وزنها في المعادلة الطائفية اللبنانية.
والآن فإن ما يعرفه السيد حسن نصر الله، لكنه من قبيل المكابرة يرفض الاعتراف به، هو أن استقواء حزب الله بالعامل الخارجي الذي هو بصورة رئيسية إيران وسلاحها ومالها ودعوات مرشدها الأعلى وخبرات جنرالات حراس ثورتها سيستدعي حتما تدخلا خارجيا لإسناد الطائفتين الرئيستين أي الطائفة السنية والطائفة المارونية وهذا معناه، إن بقي «سيد المقاومة» يتصرف على أنه ولي الله ووكيل الولي الفقيه في لبنان، أن هذا البلد ذاهب إلى حرب أهلية جديدة لا محالة ستكون أكثر حروب لبنان عنفا ودموية وقد تستمر إلى ثلاثين عاما إذا كانت الحرب الأهلية التي سبقتها قد استمرت لنحو خمس عشرة سنة.
إن المفترض أن السيد حسن نصر الله يعرف أن كل طائفة لبنانية سواء كانت كبيرة أم صغيرة لها امتداد نحو الخارج وهكذا فإذا كانت الطائفة الشيعية من خلال القوى المهيمنة عليها وهي حركة أمل وحزب الله تشعر الآن أن عمقها، وهو كذلك، يصل إلى خراسان، فإن عمق الطائفة السنية بالإضافة إلى كل الدول العربية الرئيسية يصل إلى ماليزيا وإندونيسيا في أقصى شرق آسيا وأن عمق الطائفة المارونية هو فرنسا وهو بحدود أيضا معينة معظم دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
إنها لعبة خطرة بالفعل، وعلى السيد حسن نصر الله أن يتذكر الماضي جيدا وأن يدرك وهو يتذكر هذا الماضي أن محاولات هيمنة إحدى طوائف هذا البلد على الطوائف الأخرى لا يمكن أن يكتب لها النجاح حتى وإن كان عاملها الخارجي بحجم إيران وبقوة رؤوس الجسور التي بناها حراس ثورتها في المنطقة العربية، فلبنان لا يمكن أن يبقى اللبنان التاريخي المعروف إذا أخلت طائفة من طوائفه بتوازنه الطائفي والمذهبي المتوازن على مدى تاريخ يعود لأكثر من ألف عام.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=582137&issueno=11580