تقرير ألماني: ميليس وليمان... مزوّر وجيمس بوند
المحقّق ديتليف ميليس (أرشيف)قراءة نقدية بعيون ألمانية، لعمل رئيس لجنة التحقيق الدولية الأسبق في قضية اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، المحقق الألماني ديتليف ميليس وشريكه غيرهارد ليمان. تقرير أعدّه الكاتب الألماني يورغن كاين كولبيل، ونشرته مجلة «غيهايم» (سرّي). وهي مستقلة متخصصة بالشؤون الأمنية تصدر في ولاية كولونيا غرب ألمانيا
إعداد وترجمة: معمر عطوي
«أنا أتّهم!»، بهاتين الكلمتين، ردّ محامو «المشتبه به» في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، جميل السيد، في كانون الثاني 2009، على ادعاء الاشتباه بالسيد أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
هذه المحكمة التابعة للأمم المتحدة والمختصة بجريمة سياسية، أوكلت إلى المدعي العام الأسبق، الألماني ديتليف ميليس، والمفتش الأول الرئيس في مكتب الشرطة الجنائية الاتحادية الألمانية، غيرهارد ليمان. ألمانيان نجحا في مكافحة الإرهاب في بلدهما. على الأقل، حسبما يعتقد الكاتب في جريدة «شتيرن»، أوليفر شروم، إذ إنهما مسؤولان عن اعتقال المتهمين بالمسؤولية عن أعمال إرهابية.
الآن يقف هذان الشخصان نفساهما في مرمى العدالة؛ ففريق المحامين اللبناني الفرنسي (الموكل بمتابعة قضية المدير العام للأمن العام اللبناني السابق جميل السيد) قدم طلباً لدى الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، في آذار عام 2008، برفع الحصانة عن السيد ميليس، في سبيل تقدّم الإجراءات القانونية.
المحامي أكرم عازوري، وكيل جميل السيد، أعلن في مؤتمر صحافي في بيروت بتاريخ 27 آب 2008، أنه أقام دعوى قضائية على ديتليف ميليس، في فرنسا، بتهمة تزوير التحقيقات واستدعاء شهود وهميين. وقد صيغت الدعوى جيداً، وأدى دوراً في إعدادها نجل جميل السيد المحامي مالك. وأعلن في 3 نيسان 2008، في بيروت، أنه رداً على 10 تقارير صدرت عن لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في قضية اغتيال رفيق الحريري، تقرر رفع دعوى دولية على الرئيس السابق للجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس، ومساعده غيرهارد ليمان، والمدعي العام التمييزي اللبناني، القاضي سعيد ميرزا، وقاضيي التحقيق إلياس عيد وصقر صقر، ونُشرت في اليوم التالي في صحيفتي«النهار» و«دايلي ستار» اليوميتين، وذلك لمسؤوليتهم عن استمرار احتجاز أربعة ضباط أمنيين بطريقة غير عادلة، وهم الذين اشتبه بهم الألماني ميليس في صيف عام 2005 بمقتل الحريري.
الألمانيان «بوند»...
الثعلب الألماني ديتليف ميليس و«صائد الإرهابيين»، غيرهارد ليمان، عملا منذ عام 2005 بإمرة الأمم المتحدة في ملاحقة قتلة الحريري. الاثنان كانا مدهوشين من سرعة البحث، التي حققها الشرطي ثيو كوجك، في مسلسل «لولي لوتشندن» الأميركي، لذلك أسعدا الإدارة في واشنطن والدمى المؤيدة لأميركا في لبنان، بوضع ثمانية أشخاص في السجن، ليصبحا نجمين على مدى أشهر في برامج «توب تين» في الإعلام العالمي.
ميليس صرح بعنجهية، لصحيفة «تاغس شبيغل» (الألمانية) ولوكالة «دي بي إي» الألمانية للأنباء، في 15 أيار 2005، وذلك بعد ثلاثة أشهر (من الجريمة)، بأن هذه الجريمة الكبرى ستتضح في وقت قياسي، قائلاً: «أخطط لإنجاز (التحقيقات) في هذا الوقت». لكنه اختصر هذه الرؤية التجريبية غير العادية، بملايين كثيرة من الدولارات وفريق مؤلف من أكثر من مئة من وكلاء التحقيق. ففي نهاية آب 2005، في ليلة ضبابية، أوصى ميليس السلطات القضائية اللبنانية بحبس أربعة ضباط أمنيين مؤيدين لسوريا، وادعى وجود مؤامرة من موظفين أمنيين لبنانيين وسوريين، يُشتمّ منها «تورط مسؤولين سوريين في الاغتيال»، وبرر ذلك بأقوال الشهود الذين جرى شراؤهم. مع أنه لم يجد أدلة ثابتة.
ومن دون أي دليل، وضع المدير العام للأمن العام جميل السيد والمدير السابق للاستخبارات العسكرية ريمون عازار، والمدير السابق لقوى الأمن الداخلي علي الحاج، والقائد السابق للحرس الرئاسي مصطفى حمدان، في سجن لبناني من دون أن تستجوبهم المباحث الجنائية. وخُفضت أوقات الزيارة تدريجاً إلى خمس عشرة دقيقة لمرتين في الأسبوع، فيما ظلت الصحف والتلفزيون لفترة طويلة، من المحرّمات، إلى حين وضع الصليب الأحمر نهاية لهذا الوضع.
المحامي مالك السيد، عضو في فريق المدافعين الفرنسيين واللبنانيين، عن والده جميل السيد ومعه أكرم عازوري، أنطوان قرقماز، رفائيل نيرون، جيرو برويل وناجي البستاني. عمل الفريق على هذه الدعوى الدولية منذ أشهر، للإفراج عن المعتقلين في هذه «المهزلة».
وقال عازوري للصحيفة الألمانية «نويس دويتشلاند»: «لا أريد أن أسرّب أي كلمة عن الدعوى. كل ما يمكنني قوله هو أنها تسير بسرية، لأنها تتعلق باختصاص المحكمة». أضاف: «أود أن أشير إلى أن (الدعوى) موجهة إلى كل الذين شاركوا في التلاعب في التحقيق، وما يتعلق بالأدلة المادية والبيانات».
❞ميليس اشتمّ تورط مسؤولين سوريين في الاغتيال، وبرر ذلك بأقوال الشهود الذين جرى شراؤهم❝لكن وثيقة سرية ظهرت، تفيد بأن عازوري وجّه في الأول من نيسان 2008 رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ووكيل الأمين العام للشؤون القانونية المستشار القانوني للأمم المتحدة، نيقولا ميشال. يقول فيها إن «ديتليف ميليس أعطى مقابلة للمحطة التلفزيونية اللبنانية «أل بي سي» يوم الثلاثاء في 18 آذار 2008، الساعة 21.30، انتقد فيها انتقاداً ساخراً جداً وخبيثاً جداً عمل لجنة التحقيق لمدة عامين في ظل رئاسة (خلفه) السيد براميرتز».
وتشكك ميليس أيضاً في العمل الفني للجنة، وتضرّر صدقية التحقيقات التي بدأها، على نحو ملحوظ. لقد شوه ميليس الحقائق، ودافع عن شهود زور، لإعطاء المحاكم اللبنانية ذريعة لتغطية اعتقال الضباط إلى أجل غير مسمى.
وكرر ميليس أيضاً في مقابلته حديثه عن صلاحية التوصية باعتقال السيد، التي كان قد وجهها قبل عامين (من ذاك الوقت) إلى القضاء اللبناني.
مزاعم التلاعب كانت جاهزة في 12 تشرين الثاني 2006: محامو السيد اتهموا ميليس في مؤتمر صحافي، عقدوه في فندق «شيراتون كورال بيتش» في بيروت، بأنه عرض «وقائع كاذبة وبيانات كاذبة»، أتاحت إلقاء موكلهم «في السجن كمعتقل سياسي».
لكن كل ذلك يسير في حركة بطيئة. ففي نهاية أيار 2005، قبل وقت طويل من بدء التحقيقات الرسمية للجنة الأمم المتحدة في اتجاه «الجنرالات المشتبه فيهم»، قارب المفوض الجنائي، غيرهارد ليمان، على ما يبدو، بطريقة غريبة «الحقيقة». في بيان مكتوب من فريق الدفاع الفرنسي عن المحامي قرقماز، في 12 تشرين الثاني 2006، ثمة مذكرة تحمل الرقم 8 صادرة في 17 شباط 2006 عن ديتليف ميليس، ومذكرة رقم 10 صادرة في 30 آذار 2006، عن خليفة ميليس القاضي سيرج براميرتز، والمذكرة رقم 14 في 26 أيلول 2007 صادرة عن قاضي التحقيق في لبنان صقر صقر، ـــــ جميع الوثائق متاحة للكاتب ـــــ هذه المذكرات وصفت إجراءات المحققين الألمانيين، التي ينبغي أنها أتاحت اجتياز حدود القانون: «في 30 أيار 2005، أُخطِر الجنرال السيد من ضابط الأمن في سفارة جمهورية ألمانيا الاتحادية، بأن أعضاء لجنة التحقيق الدولية يريدون مقابلته على وجه السرعة، وسرّاً. وقال السيد: «في 31 أيار 2005، جاءني إلى شقتي، بعد استقالتي، عضو لجنة التحقيق الدولية، غيرهارد ليمان، يرافقه ممثل الشرطة لدى السفارة الألمانية في بيروت، السيد إي ستيفن (واسمه الكامل معروف لدى مجلة«غيهايم»). الزيارة كانت بناءً على طلب السيد ليمان، ودارت حول الأمن العام، على أساس أن يكون موضوع الجلسة سرياً، وأن يقتصر على المشاركين في الاجتماع بعلم رئيس اللجنة، القاضي ديتليف ميليس. خلال الاجتماع المذكور نوّه السيد ليمان بسمعتي، حين كنت في الأمن العام والتعاون بين الأمن العام آنذاك وبلده. وقال إنه طلب مني مساعدته في التحقيق على النحو الآتي: ينبغي لي أن أوصل رسالة شفهية إلى الرئيس السوري بشار الأسد، وإقناعه بتأليف لجنة قضائية سورية مستقلة، واختيار ضحية سورية كبيرة تعترف بأنها ارتكبت عملية الاغتيال من دون معرفة النظام السوري. على أن تُقتل هذه الضحية ـــــ التسوية ـــــ في حادث سيارة أو محاولة انتحار. وبذلك يُقفل الملف، وفي الوقت نفسه يبقى طريق الحل السياسي مفتوحاً، بما يماثل ما حدث مع الرئيس الليبي معمر القذافي في قضية لوكربي. (وفي حال عدم تنفيذ ذلك قيل للسيد): وإلا فسيكون النظام السوري في خطر كبير».
يتابع السيد: «خلال اللقاء، أعربت بالطبع عن استعدادي لإيصال الرسالة إلى السوريين، بشرط أن يقدّم لي السيد ليمان، بعض الأدلة الملموسة التي تُثبت أن سوريا كانت متورطة حقيقة في إغتيال الحريري.
بيّنت أنني لن أكون قادراً في حال عدم وجود أدلة من هذا القبيل على إرسال مثل هذه الرسالة، وإلّا فسيشعر السوريون كأني طعم لإيقاعهم في الفخ. أجاب السيد ليمان أنه لم يكن لديه دليل واحد، وأصر على أن يعطيني يومين للنظر في اقتراحه إيجاباً. وحين رددت عليه، بأن جوابي كان واضحاً، أصرّ على نصيحته، مشيراً إلى أنها ستكون في مصلحتي».
❞السيد: اشترطت لإيصال الرسالة إلى السوريين إعطائي أدلة تُثبت تورط سوريا في الاغتيال❝بعد ذلك بيومين، في 2 حزيران 2005، وكان هناك محامون ومحتجزون، حقق كلا الألمانيين مع الجنرال مرة أخرى. احترم السيد البروتوكول قائلاً: «أكرر أول رد فعل لي، اقترح السيد تيري رود لارسن (مبعوث الأمم المتحدة الخاص لتنفيذ القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي دعا إلى تنفيذ جملة أمور منها انسحاب سوريا من لبنان)، أن أنقل الرسالة نفسها إلى سوريا. ليمان ادعى أنه سيكون في مصلحتي تسليم الرسالة، أو سأكون الضحية. وفي 5 تموز 2005، استمعت إلى لجنة التحقيق أخيراً بصفة شاهد، في فندق موفنبيك. استقبلني السيد ليمان عند مدخل الفندق وأخذني إلى رئيس اللجنة، ديتليف ميليس الذي طلب مني عموماً مساعدة اللجنة. ثم اقتادوني إلى محقق آخر، حيث سجلت شهادتي لمدة ساعة. وقال لي ليمان في النهاية: وداعاً، مشيراً إلى أنه سيتصل في وقت لاحق».
بعد ظهر يوم 15 آب 2005، أكد جميل السيد أن ليمان زاره وحيداً في منزله، وبدأ المحادثة: قُتل الرئيس الحريري في مؤامرة شارك فيها السوريون. هم يرون أنه لا يزال لديهم مستقبل واعد أمامهم، ودورهم سيكون مهماً، ونحن نريدهم أن يكونوا إلى جانبنا. هم عرفوا شيئاً محدداً أو سمعوا عنه تكراراً، أنهم إذا لم يسلّمونا ضحية فسيصبحون هم الضحية. وأعطى ليمان السيد مدة أسبوع للتفكير في تسليم ضحية.
في تلك الفترة، كان هناك أربع مكالمات هاتفية تناولت هذا الموضوع بين جميل السيد وليمان، وآخر هذه المكالمات كانت في 21 آب 2005، نحو أسبوع قبل اعتقاله. في هذه المكالمة ادّعى ليمان أنه لم يستطع اختراع أي قصة «لإنقاذ جلد» السيد، الذي ينبغي له مساعدة اللجنة. «جرى توثيق هذه الحقائق والبيانات والأدلة»، وفقاً لبيانات خاصة بالمؤسسة العسكرية، موثقة في الرسالة المؤرخة في 27 أيلول 2007 ، لدى قاضي التحقيق صقر صقر، وسُجِّلت المحادثات مع الألمان. وقال السيد «من المهم أن نلاحظ أنه خلال المفاوضات السرية قبل اعتقالي، سُجِّل العديد من المحادثات الهاتفية مع ليمان، بما فيها مقترحاته غير الأخلاقية مهنياً، بما في ذلك التهديدات المباشرة. وقد سلمت نسخة من هذه المحاضر إلى لجنة التحقيق الدولية وقاضي التحقيق في وقت لاحق».
كوريوغرافيا الجنون الإجرامي
السيّد خلال مؤتمر صحافي عقده أخيراً (أرشيف ــ هيثم الموسوي)وصف المحامي عازوري أحداث أخرى في مذكرة، قائلاً إن «رئيس اللجنة، السيد ديتليف ميليس دخل مع غيرهارد ليمان إلى الغرفة، حيث يُحتجز السيد. واستمع ميليس طوال الوقت من دون أن يقول شيئاً، فيما أكد ليمان العرض الذي قُدِّم في بيت السيد من قبل، مضيفاً: «هذه هي فرصتهم الأخيرة (السوريين)، لحفظ ماء وجههم في المستقبل. أنت تعرف تماماً أن عليهم تقديم ضحية لنا».
جميل السيد أكد موقفه السابق، وسأل ميليس: «أنت قاضٍ خبير، وأنا أخاطب ضميرك القضائي، انظر في عيني وقل لي، إذا كنت أخفي شيئاً؟».
ميليس لم يقل شيئاً، لكن ليمان وقف وقال: صدقني، يمكن أن تكون الضحية.
السيد تفحّص ميليس وقال: «إذا كانت مسألة سياسية وضحية، وليست مسألة تحقيق وعدالة، فإنني سأقاتل حتى نهاية العالم». أجاب ليمان: «ستبدأ الآن في السجن وستبقى لفترة طويلة، لا تنسَ حمايتهم». ثم ذهب مع ميليس.
في اليوم التالي، في 1 أيلول 2005، واصل المحقق الألماني ® استجواب السيد، مُكرّراً عرض ليمان، قائلاً: «قف إلى جانبنا، هذه فرصتهم الأخيرة (السوريون). نحن نعلم أنك تحب ابنتك سارة، يمكنك أن تكون في هذا الوقت إلى جانبها، نستطيع الآن إطلاق سراحك. فلتعطنا شيئاً».
أصرّ السيد على أقواله: «لا أستطيع أن أخترع كذبة أو قصة، ولا أستطيع تسليمكم ضحية، حتى لو كان ثمن ذلك هو أن أرى سارة».
ليمان طارد الأرواح الشريرة
❞ليمان في 15 آب 2005: إذا لم يسلّمنا السوريون ضحية فسيصبحون هم الضحية❝يروي المحامي عازوري، أنه في صباح 19 كانون الثاني 2006، جاء السيد ليمان إلى الغرفة. «ألخص ما قاله: أريد منهم أن يفكّروا في مستقبل السيد. نحن نتحرك نحو المحكمة الدولية. لدينا تصريح السيد عبد الحليم خدام في أيدينا. هذه شهادة خطية، وعندما قُتل السيد الحريري، كان السيد خدام نائباً للرئيس السوري. سأقرأ جملتين من تصريحه: «لقد كان التخطيط المشترك على الجانب اللبناني، حيث كان في الخط الأول جميل السيد». قدم خدام شهادة في الأسبوع الماضي. سأقدم لكم عرضاً، بأن أصنع ثلاثة جنرالات آخرين. سأقدّم لكم ميزة بأن تكونوا أول من أوجه لهم خطابي، لأن الأول سيقول شيئاً يميزه عن الآخرين في هذا التحقيق. لكني لا أستطيع الوعد بكل شيء».
أضاف عازوري: «سأل موكلي (جميل السيد) ليمان، عما إذا كان يشير إلى تسليم نفسه للاعتقال بوجود ضابط الشرطة الالماني ستيفن ـــــ إي، ومرة أخرى في القبض عليه في حضور السيد ميليس، لتقديم ضحية موثوقة و«محترفة». أومأ ليمان إلى الاتفاق. أما موكلي فغضب وأعلن أنه يشعر بالإهانة من تكرار هذا العرض، وأشار إلى أنه ليس خاضعاً لتحقيقات جنائية دولية موضوعية وذات صدقية. ورفض العرض على الفور، كما فعل سابقاً. لكن ليمان أصرّ على موقفه، والتفت إلي بصفتي محامياً، وسألني أن أتكلم مع السيد في الردهة، وأُقنعه بأن العودة إلى رشده هي في الحقيقة لمصلحته. هذه المعطيات وضعتها بتصرف النائب العام. وسجلت المقابلة مع السيد ليمان تماماً، بحيث أصبح موكلي مستعداً لمواجهة مع ليمان».
ينبغي لجميع هذه الحقائق، التي يمكن جميل السيد تأكيد تواريخها، أن تكون إشارة إلى «صفقة غير أخلاقية» هي بمثابة دليل على مقاربة سياسية لدى المحققين الألمان في هذا الصدد.
وبالنسبة إلى المحاربين من المحافظين الجدد في واشنطن، فقد بدأوا أخيراً، ومنذ أيام الاعتداء (اغتيال الحريري)، يولولون بأن الجناة الرئيسيين كانوا في الحكومة السورية، حيث ثمة حاجة إلى مخطط «لتغيير النظام» في بلاد الشام. وثمة «دليل دامغ» (حسب ادعاء المحافظين الجدد) على أن الرئيس السوري، بشار الأسد، قد أمر شخصياً بتصفية رفيق الحريري.
فهل من الغريب، أن (نائب الرئيس الأميركي) ديك تشيني، يقود الطابور الخامس لتخريب الوضع في لبنان من خلال صاحبة السمعة السيئة «اللجنة الأميركية من أجل لبنان حر»، التي تضم أعداداً كثيرة من المغتربين اللبنانيين، والمصرفيّين الأثرياء وموظفين حكوميّين رفيعي المستوى في الحكومة الأميركية، وكافة الشرقيين، الذين يسعون إلى العيش على النمط الأميركي الرأسمالي.
في عام 2004، تألفت القائمة الحاسمة للنخبة السياسية في لبنان، على شكل لعبة ورق. وكان رفيق الحريري على بطاقة «أص الكُبة»، بينما ظهرت أوراق تحمل صور الضباط الأربعة مع عبارة «مطلوب». لكن (في الأخير) أُفرج عن الصيد. وكان ميليس وليمان اللذان سعيا خلف ورقة اللعب الأميركية، قد سقطا بكل معنى الكلمة.
أيضاً، أحدثت وسائل الإعلام والألعاب النارية، ابتهاجاً باحتجاز «المشتبه بهم الأربعة»، صدى في أمكنة عدة. صمّم ميليس على إدانة مباشرة لفريق لبناني ـــــ سوري على نحو سافر، معتمداً على شهادة ثلاثة شهود ملوك مثيرين للدهشة. الشاهد الأول، هسام طاهر هسام، هو عميل سابق في الاستخبارات السورية، صرّح في صيف عام 2005 عن سلسلة من الاجتماعات التآمرية في دمشق، بما في ذلك في القصر الرئاسي، وقال إنه جرى التوصل إلى حياكة مؤامرة لاغتيال الحريري. وشارك في هذه الاجتماعات شقيق الرئيس السوري، ماهر الأسد، الذي يرأس الحرس الرئاسي، وصهره، رئيس الاستخبارات العسكرية، آصف شوكت. بعد أسابيع قليلة، نجح حسام بالخروج من لبنان عائداً إلى سوريا، حيث أجرى مؤتمراً صحافياًَ تلفزيونيا، أعلن فيه أنه أُجبر على الإدلاء بأقواله أمام لجنة ميليس من طريق التعذيب، والمخدرات، كذلك الرشوة. وأشار إلى أن مستشار سعد الحريري، الصحافي فارس خشان، أملى عليه ما ينبغي قوله أمام لجنة التحقيق الدولية.
وفي مقابلة تلفزيونية في أواخر تشرين الثاني 2005، ذكر حسام أيضاً أن تصريحاته عبارة عن «حقيبة مليئة بالأكاذيب». واتهم كلاً من وزير الداخلية السابق، حسن السبع، والنائب سعد الحريري وعدداً من المسؤولين في الحكومة بينهم مستشار الحريري هاني حمود، بإرغامه على شهادة الزور.
أما إبراهيم ميشال جرجورة، فهو شاهد آخر تراجع عن شهادته أمام لجنة التحقيق الدولية. خلال مقابلة في كانون الثاني 2006 بثتها «قناة الجديد» الفضائية في لبنان، أوضح أن شخصاً يدعى «وسام» طارده مثل «تحرٍّ» ووضعه في شقة بالقرب من فندق ريفييرا في منطقة المنارة في بيروت، حيث أمكنه في ما بعد وصف المفروشات وأثاث الشقة بالتفصيل. واتّضح أن هذه الشقة تعود إلى وزير الاتصالات آنذاك، مروان حمادة. وهو حليف مقرب من سعد الحريري. وكان وسام، الحارس الشخصي للوزير حمادة.
الوزير حمادة كان «قاسياً» جداً مع جرجورة، ويمكن أن يكون قد ضربه بعصا، طالباً منه أن يفيد اللجنة الدولية بأنه عميل سوري، وأنه جاء للتجسس على سياسيين معروفين بولائهم للغرب في البلاد. وعلى الأرجح عرض عليه حمادة مبلغاً كبيراً من المال. ولما ضاق جرجورة ذرعاً بالضغوط اليومية وخضوعه للمراقبة ولم يعد قادراً على الصمود في وجهها، أزمع على أداء دور شاهد الزور، حسبما ذكر في وقت لاحق.
الشاهد الملك
❞جميع الحقائق التي يمكن السيد تأكيدها قد تكون إشارة إلى «صفقة غير أخلاقية»❝في هذه الأثناء، أصبح سوري آخر يدعى زهير الصديق، الشاهد الملك الأهم لدى ميليس. تطوّع الصديق في اتصال هاتفي من السعودية في مطلع تموز 2005 في تقديم «معلومات من قلب المؤامرة». وتحدث الصديق عن شقة في منطقة خلدة جنوبي بيروت، كانت المقر الرئيسي للمتآمرين. وعن شقة أخرى (حي معوض) بدأت فيها اجتماعات تحضيرية لاغتيال الحريري منذ تموز 2004، وعن أن هذه الاجتماعات كانت تضم الضباط اللبنانيين الأربعة الذين اعتقلوا، وسبعة رجال من الاستخبارات السورية. ثم فُحصت الشقة بوسائل كشف الجرائم التقنية الجنائية، بيد أنه لم يعثر على أي آثار أو أدنى قدر من الحمض النووي الذي يعود للضباط الأربعة الذين كانوا لا يزالون في السجن. الصدّيق، الذي «أراد أن يصبح مليونيراًَ» لقاء شهادته أمام ميليس، عرف أنه بفضل كل شهادة سينعم بالمال، وذكر أيضاً أن «الرئيس السوري بشار الأسد ونظيره اللبناني إميل لحود، أعطيا أوامر بتصفية رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري».
كذلك، أفاد الصدّيق بأنه شاهد شاحنة الميتسوبيشي (التي اشتبه باستخدامها في تفجير موكب الحريري)، في معسكر تابع للجيش السوري (في منطقة الزبداني)، لكن شقيق زهير الصديق، عماد، ادّعى أن «زهير كان دائماً مخادعاً ومحتالاً»، لافتاً إلى أن المال هو إكسير حياته، وأنه سُجن بتهمة الاختلاس، وأن ملفّه الجنائي مليء بتهم التزوير والاحتيال.
في العزلة
الجنرال الثاني من بين الضباط الأربعة، المدير العام لقوى الأمن الداخلي، علي الحاج، الذي كان يعيش في عزلة داخل زنزانته، كسر حاجز صمته للمرة الأولى في 2 أيار 2008. في حديث لجريدة «الانتقاد» اللبنانية الأسبوعية، قال الحاج: «إن التحقيقات التي كانت تديرها الأجهزة الأمنية (خلال فترة عمله) كانت لا توافق المشروع السياسي لجماعة 14 آذار التي لا ترغب في تحقيق يستند إلى بيانات حقيقية». وأشار الحاج إلى أن شهادة الصدّيق تجاهلها كل من رئيس لجنة التحقيق اللاحق، البلجيكي سيرج براميرتز، الذي سأله الحاج في نهاية استجوابه، قائلاً: لماذا لم تسألني عن الصدّيق، وهو السبب الرئيسي لاعتقالي؟ فأجابني ببساطة بأنه لا علاقة له بهذا الشاهد.
كان ميليس في عام 2005 قد سعى إلى تعليم اللبنانيين القانون الديموقراطي: هكذا أعلن في حديث لصحيفة «فرانكفورتر ألغيماينه» في 14 شباط 2008، قائلاً: «أخيراً، أنشأتُ لجنة مهمتها تعزيز الثقة بالإجراءات القانونية، وبشأن هذه الطريقة تُتخَذ تدابير وقائية».
لقد جرى التلاعب عن قصد (بالتحقيقات)، لذلك لا بد من لوم (ميليس). في ما يمكن أن يحدث من توترات بين المجموعتين المتخاصمتين «مؤيدي الغرب» و«مؤيدي سوريا»، وما يمكن أن ينتجه ذلك من عنف في هذه الحال، بما يقود إلى انزلاق البلاد نحو حرب أهلية. ونظراً للإهمال المزعوم، على افتراض وجود دافع سياسي للمحققين، قد تكون ألمانيا مسؤولة على نحو غير مباشر عن النزاع الدامي في لبنان في غضون العامين الماضيين.
فرامل الطوارئ؟
يبقى الترقّب بشأن ما إذا كانت الأمم المتحدة والحكومة الاتحادية الألمانية قد سحبتا فرامل الطوارئ منذ نهاية عام 2005. والألمان (المحققون) قد تخلوا عن موقعهم، حيث قد يكون ذلك من الحكمة، لأن خطأ اللبنانيين المشحونين قد يكلف أرواحاً بريئة أخرى. وعلى وجه التحديد، سيحول ذلك دون انزلاق البلاد إلى حرب أهلية.
لكن ميليس، دافع عن«تحقيقاته»، دائماً، مثل تمسك كلب بعظام غنمها.
في النهاية، كنت أود توجيه سؤالين للسيد ليمان: أولاً، ما الذي تعرفه عن «صفقة لوكربي»؟ ثانياً: هل جرت ترقيتك إلى وظيفة مستشار جنائي؟
http://www.al-akhbar.com/ar/node/208497