كنا نطلق صفة "إعلام البهائم" على مصدر المادة الإخبارية أو التحليلية، فكان نعت البهائم يذهب إلى المرسل لا المتلقي، المنتج لا المستهلك، احتراماً منا لآدمية المتلقي المؤيد لمن يقتلنا، ولأننا كنا نعتبر أن هذا الصنف من الكائنات الحية هم بشر، بغض النظر عما يعانون من عوزٍ ـ حسبناه مكتسباً لا أصيلاً ـ في إدراكهم لمقتضيات آدميتهم. عوزٌ، كنا نظن أن تلافيه ممكن ببعض الجهد والعناء وإعادة التأهيل الأخلاقي السلوكي، والعمل على تحريض ما توافر لديهم من أدوات التفكير والإحساس، بعد انتفاء الشرط، والظرف، الذي يستثمر في خصائصهم تلك، وعلى قاعدة من حياة سياسية مؤسسة على مبدأ المواطنة المتساوية، ومراكمة جملةٍ من التأثيرات الاجتماعية ـ النفسية الناجمة عن محاسبة الذات ومراجعتها، وما سوف يتمخض من آثار تصالحية مع النفس والآخر فور بدء المرحلة الانتقالية، وإقلاع آليات العدالة الانتقالية في إنجاز مهامها التسويية المفترضة.
بعبارة أخرى، كنا نعتبرهم مجموعة من الأشخاص، مهما بلغت صفاتهم النفسية والأخلاقية استثنائيةً في انحطاطها وغرائبيتها وغرائزيتها ...يبقون في نهاية الأمر بشراَ، وسوريين، نريد أن يشاركونا وطننا، عيشاً وبناءً.
لكن ما يفسد عليك نواياك الطيبة تجاههم هو ارتهانهم لعبوديتهم للأسد، الذي يلعب "إعلام البهائم" في تكريسها لديهم دوراً محورياً، فهو حين يكون كذلك، أي: إعلام بهائم، لا ينظر إليهم إلا بوصفهم كذلك، ولا يتعاطى معهم إلا لاستثارة بهيميتهم، وتعزيزها، والبناء فيها وعليها، فتكون وظيفته مخاطبتهم على قدر عقولهم، وبما يناسب خصائصهم، وحاجته لأجسادهم كمقاتلين.
هؤلاء، يعرفون في أعماق غرائزهم أن ‬#بشار_الكيماوي‫ هو من ارتكب المجزرة، ولأنهم في قرارة لؤمهم، طالما طالبوه، علناَ، وتمنياً سرياً تشي به وحشيتهم الفريدة، بأن "يستشيط الكيماوي" على حد تعبير "الفنانة" رغدة، ويدركون جيداً وبكامل "وعيهم البهائمي" أن التشكيك بمستخدم الكيماوي هو جزء من حرب نفسية_إعلامية وقائية وتبريرية يقوم بها إعلام حربي له وظيفتان مركزيتان الآن:
ـ تعبوية، تقوم على التحريض وتشويه صورة الثورة.
ـ توجيهية، أساسها الفبركة، وإخفاء المعلومات، وبث أنصاف الحقائق، وتقديم الروايات المبتورة من سياقها..الخ.
لاشك، يدرك صانع القرارين السياسي و الإعلامي في التحالف الفاشي أن استخدام الكيماوي خيار خطير، وله تداعياته الشاملة والعميقة التي تتطلب أن يشرع "البهائم" مستخدموه بالتحضير لها، والتوطئة لمواجهتها، إعلامياً أولاً لخلق رأي عام (سوري ـ دولي) أو توجيهه والتحكم به في مسارات بهائمية مطلوبة ومرغوبة، ومن ثم البناء على تبني الروس سياسياً .
لهذا، بدأ التأسيس لحملة التشكيك بمستخدم الكيماوي في غرف مخابرات التحالف الفاشي الثلاثي (الروسي ـ الإيراني ـ الأسدي)، و دشنها المؤتمر الصحفي لـ "عمران الزعبي" الذي عقده بتاريخ 20_03_2013 واتهم فيه يومها "الجماعات الإرهابية" باستخدام الكيماوي في خان العسل. ذلك المؤتمر كان بمثابة بذرة زرعت تحسباً وتهيؤاً في تربة المعركة الإعلامية ـ السياسية، ثم رويت بماء التزييف، والكذب، لينبت ساقها، ويصير لها أوراقاً وثماراً تقطف عند الحاجة، والحاجة هنا بالضبط، هي الاضطرار لاستخدام موسع ومكشوف للسلاح الكيماوي بسبب انحسار زخم ما سمي تضخيماً "انتصار القصير" وتقدم الثورة عسكرياً في مختلف الجبهات.
دور إعلام "البهائم" هنا متعدد المستويات، فهو يخاطب نوعيات مختلفة، فيقدم "المحلل السياسي" والمشعوذ، والتقرير المصور.. لكن المهمة المركزية له، الآن، بعد مجزرة الكيماوي، هي مهمة ثلاثية الأوجه، أو المحاور:
ـ زرع الشك فيمن لديه يقين بأن النظام هو من قرر وأمر باستخدام الكيماوي.
ـ تعزيز هذا الشك، فيمن تأثر وأصابته تأثيرات حملة التشكيك المؤسس لها منذ مؤتمر عمران الزعبي.
ـ منح صنفي المشككين (العريقون في الشك و المستجدون عليه) مواد إعلامية تلائم شكوكهم، وتوظفها، في السياق العام لحربه الإعلامية.
من الأمثلة الأخيرة لما سلف أن قدمنا له، تقرير لما يسمى "الإخبارية السورية" بثته بتاريخ 22ـ08ـ 2013 اعتمد في "كشــف" ما سماه فبركات قنوات "التضليل!!" على اختلاف التاريخ الوارد في فيديوهات المجزرة المنشورة على اليوتيوب، فالمجزرة حدثت بتاريخ 21_08_2013 وتاريخ نشر بعض الفيديوهات هو 20ـ08ـ 2013 أي قبل المجزرة بيوم، ويتداول "البهائم" على صفحاتهم وفي بعض الفضائيات هذا "الدليل" لتصوير أن ما عرض من صور لجثث الشهداء هو من قبيل التصنع والتمثيل ومجسمات في استديوهات "الفتنة"...الخ.
من يرى هذا التقرير، سواء كان من "البهائم" أو غيرهم، وخصوصاً الذين لا يعرفون الظروف الأمنية لعمل الناشطين الإعلاميين في سوريا، سوف تساوره ـ محقاً ـ الريبة والتساؤلات عن سبب اختلاف التاريخين، وسيبدأ الشك بالتسلل إلى نفسه، وهكذا تستثمر الإخبارية السورية ميزات إنسانية "العقل، والتفكر، والرغبة بالمعرفة و الكشف" ليس لتسويق روايتها، بل لوضع المتلقي على درب الشك، واللايقين، فيصبح من السهل قصفه بمواد أخرى تعزز شكه، وتجذره.
في عجالة، وعلى الهامش، سنذكر سبب اختلاف التاريخ حتى لا يبقى الأمر معلقاً، السبب ببساطة، هو ذاته الذي يمنع الكثير من الناشطين عن الظهور العلني على الشاشات، فيتلثمون، ومن يرفع الفيديوهات على "اليوتيوب" مضطر، كي ينجو من بطش "البهائم" للتستر والاختباء، من خلال استخدام برامج تخفي هويته، وعنوان (IP) خاصته، الذي إن عرفته مخابرات "البهائم" خرب بيته وبيت سادس جد له، هذه البرامج، تعطي عنواناً وهمياً، فيظهر مستخدم الأنترنت في سوريا وكأنه يتحدث من أوستراليا أو أوربا ..الخ، وساعة تحميل الفيديو يدرجها "اليوتيوب" وفق توقيت ذلك البلد لا وفق توقيت سوريا.
طبعاً، من مصلحة "الإخبارية السورية" الترويج لهذا الأمر، مع علمها المسبق أن الرد على ادعاءاتها سهل، وأن سبب اختلاف التوقيت هو استخدام برامج خاصة للناشطين، وذلك لأن خطتها هي وسائر وسائل إعلام الأسد في الحرب التشكيكية تقوم على ما يلي:
قسم مهم من المتلقين، وخصوصاً الأجانب، الذين لا يعرفون أو يقدرون أهمية برامج "هوت سبوت، وفيداليا تور" في إنقاذ حياة إنسان، بل أنهم لا يتخيلون احتمال موت أحدهم على يد بشار الكيماوي إن لم يستخدم هذه البرامج، هؤلاء، سوف يقتنعون بسرعة برواية الإخبارية السورية، ولن يبحثوا عن الجزء المفقود من الحقيقة، بفعل عوامل عدة، منها كسلهم، أو لانجرافهم في تيار الأخبار المتلاحقة والمتسارعة.. وحتى لو اكتشف جزء منهم السبب، سيكون أسير معلومة تضليلية ثانية، وثالثة، ورابعة، قصفه بها إعلام القاتل، وربما تكون أسس الشك قد ترسخت في اعتقاده لهوية القاتل الكيماوي، بعد أن تسللت إلى عقله من ثقب أحدثته واقعة اختلاف تاريخ المجزرة عن تاريخ رفع فيديوهاتها في اليوتيوب.
الأمر الهام هنا أيضاً، هو أن هذا الأثر سيمتد زمنياً، فأجيال جديدة، سوف تأتي لاحقاً، ربما تعتمد على اختلاف التاريخين في "اليوتيوب" لتشكك بحقيقة ما جرى في أيامنا هذه من بوابة هذه المعلومة، دون أن تلحظ أو تقدر ظروف القمع الاستثنائية التي تضطر الناشطين الإعلاميين لاستخدام برمجيات خاصة تحميهم.
إذاً، إعلام البهائم هو دعوة مفتوحة لسلوك درب البهائم في التفكير والتفاعل، هو إعلام يمتطي صهوة ما يميزك بوصفك إنساناَ: عقلك، ليجنح بك ويأخذك ويستدرجك إلى عوالم لا تليق بآدميتك، ليس في طرق التحليل وبناء المواقف فحسب، إنما في القضية التي تتبناها، وما أبشع أن تكون تلك القضية هي الدفاع عن قاتل كيماوي، لأطفال نيام .
نقلا" عن : تنسيقية مدينة السلمية الحرة .