{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
مادية فويرباخ الانثروبولوجية
لايبنتز غير متصل
عضو متقدم
****

المشاركات: 409
الانضمام: Jun 2007
مشاركة: #1
مادية فويرباخ الانثروبولوجية




تاليف: اويزرمان ، ترجمة : توفيق سلوم



ولد لدفيغ فويرباخ (1804 - 1972) في أسرة حقوقي مشهور. وقد أراد في شبابه تكريس نفسه للاهوت، فانتسب عام 1823 إلى كلية اللاهوت بجامعة هيدلبرغ. ولكنه بعد عام واحد ترك هذه الكلية، ورحل إلى برلين، حيث راح يستمع إلى محاضرات هيجل. وفي عامي 1827 - 1828 بدأ يشك في صحة الآراء الهيجلية حول الأساس المنطقي للطبيعة. ومع ذلك يتبين من أطروحته "في العقل الفردي والكلي واللامحدود"(1828)أنه لا يزال يقف على أرضية المثالية الموضوعية. ثم شرع عام 1828 بالتدريس في جامعة ارلانجن ، ولكنه ما لبث أن فصل منها بعد عامين وذلك بسبب نشره لمؤلف"أفكار حول الموت والخلود"، الذي يدحض فيه بقاء النفس ويؤكد أن الخلود وقف على إبداعات العقل البشري الجليلة.

ومنذ عام 1830 انقطع لحياة منعزلة (معظمها في الريف)، وراح ينشر مؤلفاته الفلسفية، التي يبتعد فيها تدريجيا عن الفلسفة الهيجلية. وعلى غرار شتراوس حدد فويرباخ هدفه الرئيسي، فكان يراه في تحرير الإنسان من ربقة الدين. وفي عام 1839 تخلص نهائيا من بقايا المثالية. ففي مؤلفه "نقد فلسفة هيجل" يحل فويرباخ المسألة الفلسفية الأساسية حلا ماديا، فيعتبر الطبيعة (أو الوجود، أو المادة) واقعا ينشأ عنه بالضرورة العقل المفكر. وفي عام 1841 نشر عمله الرئيسي "جوهر المسيحية" الذي لاقى رواجا عظيماً، ثم"أطروحات أولية لإصلاح الفلسفة"(1842)، و"أسس فلسفة المستقبل"(1843). ولكنه لم يشارك في ثورة 1848، ورفض تشريح نفسه للمجلس الوطني (في فرانكفورت). وفي فترة المد الثوري نشر عددا من المؤلفات، التي لم تلق أي اهتمام فالبرجوازية الألمانية كانت قد تحولت عن فيلسوفها الكبير، في حين بدأت البروليتاريا تتزايد وعيا وتنظيما لتنضوي تحت راية ماركس وانجلس الفكرية.

وفي أواخر حياته توجهنحو الاشتراكية العلمية فقد درس "رأس المال، ، وانضم 1870 إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ولكنه، مع ذلك، لم يرتفع إلى مستوى المادية الديالكتيكية والتاريخية، فبقي حتى آخر حياته واحدا من أبرز أعلام الإلحاد والمادية ما قبل ماركس.


مهام "الفلسفة الجديدة":


يعتبر فويرباخ فلسفته استكمالا لمذهب هيجل وأسلافه، وتجاوزًا لها في الوقت ذاته. فإذا كان هيجل يعزل العقل (الفكر) عن الإنسان، عن نشاطه الحسي ومتطلباته ، فإن "الفلسفة الجديدة"، أو "فلسفة المستقبل" (كما يسمى فويرباخ فلسفته) تنطلق من الإنسان، فالإنسان وحده هو الذات الحقيقية للعقل. والإنسان، بدوره، نتاج للطبيعة. ويدحض فويرباخ طرح الفلسفة النظرانية نقيضا للعلوم التجريبية، ليؤكد أن الفلسفة يجب أن تنطلق من المعطيات الحسية. فإن أركان الحس هي أيضا أركان الفلسفة. وعلى الفلسفة أن تقترن بالعلوم الطبيعية وتتحالف معها. وإذا كان الدين يعد الإنسان بالخلاص بعد الموت، فإن الفلسفة مدعوة لأن تحقق على الأرض ما يبشر به الدين في عالم الغيب. وعلى الفلسفة أن تحل محل الدين، فتزود الإنسان بالقدرة على إدراك إمكانياته الحقيقة في بلوغ السعادة، بلدا من العزاء الديني الوهمي.

ويعارض فويرباخ الفهم المثالي للفكر باعتباره جوهرا قائما خارج الإنسان والطبيعة، فيؤكد على أن مسألة علاقة الفكر بالوجود هي، في الوقت ذاته، مسألة ماهية (جوهر) الإنسان، لأن الإنسان هو الكائن المفكر الوحيد. ولذا فإن الفلسفة، إذ تجيب على مسألة علاقة الفكر بالوجود، يجب أن تكون فلسفة أنثروبولوجية، أي مذهبا في الإنسان، ففي وجوده ونشاطه تجد هذه المسألة حلها الفعلي الواقعي، "فلا تكون وحدة الوجود والفكر وحدة حقيقية، ذات معنى، إلا عندما يؤخذ الإنسان أساسا لها".

إن العلوم التي تدرس نشاط الإنسان تدحض دحضاً قاطعاً المزاعم المثالية النظرانية عن الفكر، وعن الروحي عامة، فهذه العلوم، وخاصة الفيزيولوجيا، تبين العلاقة العضوية التي تربط الفكر بما يجري في جسم الإنسان من عمليات مادية، بالإدراك الحسي للعالم الخارجي، الخ. والإنسان لا ينفصل عن الطبيعة، ولذا كان من الخطأ معارضة الطبيعة بعالم الإنسان الروحي كواقع قائم بذاته، أعلى منها وأسمى. "وإن الفلسفة الجديدة تجعل من الإنسان، بما في ذلك الطبيعة كأساس له، موضوع الفلسفة الوحيد، والأشمل، فتجعل من الأنثروبولجيا، بما في ذلك الفيزيولوجيا،علماً شاملاً".

و يعمل فويرباخ على وضع نظرية مادية عن الإنسان، تستند إلى فيزيولوجيا وسيكولوجيا الإنسان. وطبيعي أن مثل هذا الفهم لموضوع الفلسفة المادية يعاني من أحادية الجانب، ولكنه لعب دورا في النضال ضد التأليه الهيجلي للفكر. وكان فويرباخ يعارض نعت فلسفته بالمادية. ويعود هذا، ، إلى أنه في العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشر راجت في الفلسفة البرجوازية الألمانية أفكار "المادية العامية" (أو المبتذلة)، التي كان من أعلامها بوختر وفوجغت وموليشوت، والتي تعتبر الفكر لونا خاصا من المادة، يفرزه الدماغ. وللتبرؤ من مثل هذه الآراء المادية العامية رفض فويرباخ حتى استعمال مصطلح "المادية"، الأمر الذي يكشف عن تردده في صراعه مع المثالية.

إن السمة المميزة لمادية فويرباخ الانثروبولوجية هي نفيه لثنوية الجسم والنفس، وبرهانه على صحة قول المادية بوحدة الروحي والبدني، الذاتي والموضوعي، النفسي والفيزيائي، الفكر والوجود. ولكن أنثروبولوجية فويرباخ لا تؤول إلى مجرد طرح وحل معين للمسألة الفلسفية الأساسية، فمضمون المبدأ الأنثروبولوجي وهدفه الأساسي يقومان، عنده، في التفسير العلمي للوعي الاجتماعي، الذي يرى فيه انعكاسا لماهية (لجوهر) الإنسان، ولكن فيم تتمثل هذه الماهية؟ إنها، قبل كل شيء، إحساس، حياة العقل والقلب، انفعالات الإنسان وعواطفه، مشاعر الفرد الذي يحب ويتعذب ويتوق إلى السعادة، وعلى هذا النحو تنبغي دراسة مختلف أشكال الوعي الاجتماعي، ولا سيما الدين منها، من زاوية محتواها الحياتي، وبذلك يخطو فيلسوفنا خطوة كبيرة إلى الأمام بالمقارنة مع الماديين السابقين. الذين كانوا يرون في الدين جملة من التصورات الخيالية، خالية من أي مضمون واقعي. ففويرباخ يرجع الأمور الخارقة إلى الطبيعة، يردّ الخيالي إلى الواقع، الغيبي - إلى المحسوس، تلك هي السمة الأساسية لمنهجه الأنثروبولوجي.

وقد انطوت انثروبولوجية فويرباخ على بدايات للفهم للتاريخ، على محاولات تفسير الدين تفسيرا ماديا، يعتبره انعكاسا لحياة الإنسان الواقعية. ولكن فهمه لهذه الحياة الواقعية، تماما كفهمه لماهية الإنسان، جاء فهما مجردا، ينظر اليها خارج ارتباطها بالعلاقات الاجتماعية التاريخية الملموسة، بانقسام المجتمع إلى طبقات.


نقد الفلسفة المثالية:


كان فويرباخ من ألمع نقاد الفلسفة المثالية، فقد فند اتهام الفلسفة المادية بأنها تقف من الحواس موقفا دوجمائيا، "غير نقدي"، وهو الاتهام الذي وجهه ممثلو الفلسفة المثالية وانبروا للبرهان على صحته، وهنا يبين فويرباخ أن محاولة الفلاسفة المثاليين إثبات صدور العالم الخارجي (أو الطبيعة) عن الفكر (أو الوعي) إنما تأتي من التصور المثالي الديني غير النقدي حول وجود علة أولى خارقة. وعليه، فإن الفلسفة المثالية النظرانية تنفي وجود الطبيعة بصورة مستقلة عن الوعي، لأنها تنصب فوق الطبيعة روحا خارقة، فالدوجمائي، إذن، ليس القول المادي بوجود العالم الخارجي، بل هو الحل المثالي للمسألة الفلسفية الأساسية، الذي يصوغ الرؤية الدينية للعالم في قالب نظري.

ويبرهن فويرباخ أن المثالية لا تنطلق من الواقع، بل تصرف نظرها - عن المعطيات الحسية، وبالتالي عن الأشياء الواقعية المحسوسة. وهنا لا يقف فويرباخ ضد التجريد أي تجريد، بل فقط ضد استخدامه على نحو مثالي مشوه. ويشير في معرض نقده لموضوعة كانط حول وجود "أشياء في ذاتها" مستعصية تماما على المعرفة، إلى أنه في صلب هذه النتيجة اللاأدرية يقوم نفس ذلك التجريد المثالي.

ومن نقد المثالية يخلص فويرباخ إلى القول بأن الفلسفة المثالية ليست إلا لاهوتا "معقلنا"، أو نظرانيا، فالفيلسوف الذي يتحدث عن عقل مطلق، ويصوره الأساس الخفي لكل وجود، لا يفعل، في حقيقة الأمر، إلا عرض التصورات المثالية عن الإله وخلق العالم في صيغة ارهف وأدق. ولكن فويرباخ لا يساوي بين الفلسفة المثالية النظرانية وبين اللاهوت، وهو يشير بحق إلى أن التأويل العقلاني للدين من قبل المثالية سيؤدي إلى تناقض صريح مع العقائد الدينية، فهذا لا يمكن، بحال من الأحوال، أن يتفق مع العلم والعقل والمنطق. فإذا كان اللاهوت تصور الإله كائنا حسيا، شخصية، قائما خارج العالم، فإن الفلسفة النظرانية تحول الإله إلى روح لا شخصاني، هو الجوهر الباطني للواقع ذاته. وهكذا فإن الفلسفة النظرانية تمهد ا لطريق إلى (وحدة)، إلى توحيد مع الطبيعة، فتؤدي إلى نفي اللاهوت، وبهذا المعنى تكون فلسفة هيجل لاهوت مثالية، أما فلسفة سبينوزا فهي وحدة وجود مادية.

لقد قدّر كلاسيكيو الماركسية اللينينية نقد فويرباخ للفلسفة المثالية، ولا سيما نقده للمثالية الكلاسيكية الألمانية، واشاروا، في الوقت ذاته، إلى التصور الجدي لهذا النقد، فإن هذا النقد قد جاء، بصورة أساسية، من مواقع المادية الميتافيزيقية، مما جعل فويرباخ يطرح جانبا ليس فقط مثالية هيجل، بل وديالكتيكه أيضا، كذلك لم يستطع فويرباخ تمييز "النواة المعقولة" في الديالكتيك الهيجلي، ولم يدرك ضرورة وضع ديالكتيك جديد ، مادي.

بيد أن ثمة عناصر ديالكتيكية في مذهب فويرباخ. فهو يقول، مثلاً، بموضوعية النفي، ويتحدث عن الصراع بين الجديد والقديم، وعن نفي النفي، وذلك بنفس المعنى الذي فهم به هيجل هذه العملية. ولكن هذه بقيت مجرد أقوال مشتتة ومبعثرة، ذلك أن مسألة تطور الظواهر وترابطها الشامل لم تسترع الانتباه الكافي من قبله. كذلك كان فويرباخ بعيدا جدا، عن فهم الديالكتيك كمنطق وكنظرية علمية في البحث. فما الديالكتيك في نظره إلا أسلوب، سبق أن عرفه اليونان والرومان، فاستخدموه في إدارة المناقشات الفلسفية، وخاصة في الكشف عن التناقضات في محاكمات الخصم. ومن هنا جاء قوله: "ليس الديالكتيك الحقيقي مونولوجا بين الفكر وذاته، بل هو حوار بين الأنا والأنت".

وهكذا فضح فويرباخ الدين بوصفه لغز الفلسفة المثالية، ولكنه لم يتمكن من معارضة المثالية الديالكتيكية برؤية جديدة للعالم، تمثل ذروة تطور الفكر المادي والديالكتيكي - بالمادية الديالكتيكية. فإن المهمة الكبيرة، مهمة وضع هذه الصيغة العليا من الفلسفة المادية، لم تجد حلها إلا على يد ماركس وانجلس.


نقد الدين:


اعتبر فويرباخ نقد الدين أجل قضية يكرس لها حياته. وقد جاء فهمه الأنثروبولوجي لجوهر الدين تطويرا وتعميقا للإلحاد البرجوازي، فقد برهن ماديو القرنين السابع عشر والثامن عشر على أن الشعور الديني يعود إلى الجزع من قوى الطبيعة العمياء، ولم يكتف فويرباخ بالموافقة على هذا الرأي، بل وأضاف إليه الكثير: الدين لا يعكس الخوف وحده، بل وكافة المصاعب والآلام، كذلك آمال الإنسان وتطلعاته ومثله. فالإله عند فويرباخ لا يولد إلا في الآلام البشرية. ومن الإنسان، والإنسان وحده، يستعير الإله كافة صفاته: الإله هو ما يريد الإنسان أن يكون عليه. هذا السبب بالذات يكون الدين ذا محتوى واقعي، حي، وليس مجرد وهم أو هراء فارغ.

ويربط ظهور الدين بمرحلة بدائية من التاريخ، لم يكن باستطاعة الإنسان تكوين تصور صحيح عما حوله من ظواهر طبيعية، يتوقف عليها مصيره إلى حد بعيد، فإن تقديس ظواهر الطبيعة ("الدين الطبيعي") قديما، وتقديس الإنسان حديثا ("الدين الحي")، يبينان أن الإنسان يؤله كل ما يتعلق به مصيره، سواء كان ذلك حقيقة أو وهما، ولكن الشعور الديني ليس شعورا متأصلا عند الإنسان، ولو كان الأمر غير ذلك لكان علينا تعظيم التسليم بأن الإنسان يولد ومعه أعضاء خاصة بالخرافات والأوهام.

صحيح أن مصير الحيوان أكثر تأثرا بالوسط المحيط من مصير الإنسان، ولكن ليس لدى الحيوان حياة روحية، ليس لديه فكر وخيال. هذا في حين يتطلب قيام الدين توفر القدرة على التفكير المجرد، بالرغم من أنه يغترف محتواه من مشاعر الإنسان وعواطفه. وهنا يؤكد فويرباخ أن جوهر الدين قائم في القلب، فالقلب يتميز عن الدماغ، المتعقل والبارد، بأنه ينزع إلى الإيمان، وإلى الحب. بيد أنه يتعذر رد جوهر الدين إلى ملكة إنسانية واحدة؛ ففي الدين ينعكس، بصورة ظاهرة، الإنسان بأكمله - ذلك هو المبدأ الأساسي في مذهب الإلحاد الأنثروبولوجي، "إن الإنسان يؤمن بالآلهة لا لأنه يتمتع بخيال وشعور، فقط، بل ولأنه ينزع لأن يكون سعيدا، إنه يؤمن بكائن سعيد، لا لأن لديه تصورا عن السعادة، بل ولأنه يريد أن يكون هو نفسه سعيدا؛ يؤمن بكائن كامل لأنه يريد أن يكون هو نفسه كاملا، إنه يؤمن بالخلود لأنه يمقت الموت".

تلك هي المبادئ الأساسية، التي يقيم عليها فويرباخ فهمه الأنثروبولوجي للدين، والتي ذكرها في نقده للعقائد المسيحية. فليس الثالوث المسيحي المقدس، في نظره، إلا ثالوث الحياة العائلية العادية، وليس التصور ا لديني عن العناية الإلهية إلا تصورا غيبيا صوفيا عن امتياز الإنسان عن الحيوان. عن الطبيعة عامة، إلخ. ولكن فويرباخ يفهم جوهر الإنسان فهما مجردا، أنثروبولجيا، فجوهر الإنسان، عنده، هو العقل والإرادة والقلب ولذا فإن الحديث يدور هنا عن طبيعة الفرد، التي تبقى هي نفسها في مختلف مراحل التاريخ. وقد أدى هذا الفهم المحدود الميتافيزيقي والطبيعى، للإنسان إلى فهم غير تاريخي للدين، وذلك بالرغم من أن فويرباخ يحاول تتبع مسيرة الدين واشكاله التاريخية. فإن الشيء الرئيسي، الذي غاب عن نظره، هو كون الدين يعكس تناحرات المجتمع الطبقي، واسترقاق الإنسان من قبل قوى التطور الاجتماعي العفوية.

ثم إن الفهم غير التاريخي للحياة البشرية قد حال دون رؤية فيلسوفنا لطبيعة الدين التاريخية العابرة، وللطرق الكفيلة بتجاوزه. فكثيرا ما كان يؤكد أن الرؤية الدينية الميثولوجية للعالم سوف تزول لا محالة، وسوف يرفض الإنسان التصور الغيبي عن ماهيته، وسوف يحقق على الأرض ما يعد به الدين في العالم الآخر. ولكن بما أن الدين في نظره يعكس، ولو بصورة مشوهة، شيئا ملازما للإنسان منذ الأزل، فسوف يبقى الشعور الديني. قائما الى الابد . هنا يعلن فويرباخ حب الانسان للانسان ، دىنيما الحب الجنسى لونا من الشعور الدينى وبما أنه يرى في الحب ماهية الدين الحقيقية فإنه ينظر إلى الإلحاد على أنه دين حقيقي، ولكن دين بدون إله. وهذا الفهم الموسع للدين هو أضعف نقاط الأنثربولوجية الفويرباخية. فهو يسدل الستار على دور الدين كأداة لاستعباد الجماهير الروحي، ويؤدي إلى تبرير الشعور الديني وإلى المبالغة في مكانة الدين التاريخية، فيكاد يكون الدين، عنده، الشكل الأساسي لحياة البشرية الروحية، وهكذا فإن فويرباخ الملحد ينصّب نفسه مصلحا للدين. فهو يرى في الانتقال من الوعي الميثولوجي الديني إلى دين بدون آلهة، دين يؤله الفعاليات الإنسانية السامية، طريقا إلى تجريد المجتمع وإشاعة الديمقراطية فيه وتذليل عوز الجماهير وفاقتها، وهلم جرا.

وإذا كان فويرباخ، في تحليله لما للدين من مضمون واقعي، قد سار خطوة إلى الأمام بالمقارنة مع الماديين الفرنسيين، فإنه قصر عن أسلافه هؤلاء في تقديره لوظيفة الدين الاجتماعية، وفي محاولته وضع دين جديد. فهو لم يدرك حقيقة أن النقد العلمي للدين لا يكتفي بإرجاع التصورات الدينية إلى محتواها الأرضي الدنيوي، لم يدرك أن المهمة الرئيسية لهذا النقد هي تحلل الأسباب المادية، الكامنة وراء التثنية الدينية للعالم.


الفهم المادي للطبيعة:


تشكل الرؤية المادية للطبيعة أساس فلسفة فويرباخ الأنثروبولوجية، فعلى النقيض من المزاعم المثالية واللاهوتية يؤكد أن الطبيعة هي الواقع الوحيد، وأن الإنسان هو نتاجها الأرفع وكمالها الأسمى. ففي الإنسان، ، تحس الطبيعة ذاتها. وفي مجابهة الآراء المثالية واللاهوتية، التي تحط من قدر الطبيعة، يذهب إلى أنه لا شيء فوق الطبيعة، مثلما أنه لا شيء دونها، "تأملوا الطبيعة، تأملوا الإنسان! هنا تنكشف لكم أسرار الفلسفة".

ويرى أن لمفاهيم "الوجود" و"الطبيعة" و"المادة" و"الواقع" مدلولا واحدا. ولكن تنوع ظواهر الطبيعة لا يمكن إرجاعه إلى مادة أولى، عامة ومتجانسة. والماهية متنوعة أيضا، شأنها شأن الوجود، والطبيعة سرمدية، فالحدوث هو نصيب الأشياء الفردية فقط، وهي لا متناهية في المكان، فالمحدودية الإنسانية وحدها تضع حدا لامتدادها، ثم إن المكان والزمان "شرطان أساسيان لكل وجود ولكل ماهية. لكل فكر ولكل تقدم". وليس ثمة واقع خارج الزمان والمكان، كما أنه لا وجود لزمان أو مكان خارج الطبيعة. ولذا فإن المزاعم الدينية والمثالية عن بداية العالم باطلة من أساسها.

وإن مجمل الحياة والمعرفة البشرية يبين عمومية المكان والزمان، وليس هناك من عالم آخر غيبي، فالتجربة تدل على أن ظواهر الطبيعة لا تعرف ازدواجية الوجود. والتصور العلمي عن عمومية المكان يفترض الإدراك الحسي للحيّز، الذي يشغله الجسم. كذلك فإن الفصل المنطقي بين المفاهيم متعذر بدون تعين الأشياء في المكان، وهذا التعين لا ينفصل عن توالي الاشياء في الزمان. وهذا كله يدحض مذهب كانط في قبلية الزمان والمكان، قبلية الكليات عامة. "فليس للطبيعة بداية ولا نهاية. وكل ما فيها يوجد في تفاعل متبادل؛ كل ما فيها نسبي، كل ما فيها يكون علة ومعلولا في الوقت ذاته، كل ما فيها متعدد الجوانب ومترابط بغيره". ولكن هذه الإلماعة الديالكتيكية العميقة لم تلق التطوير اللحق عند فيلسوفنا، فهو لم يدرس الأشكال المختلفة لترابط الظواهر، ولم يبحث في المقولات التي شغلت مكانة كبيرة في "علم المنطق" الهيجلي، ولذا كان تصور فويرباخ عن الوحدة العامة لظواهر الطبيعة يعاني من فرط التجربة.

وبالاعتماد على منجزات المادية السالفة يدافع فويرباخ عن القول بعدم انفصام المادة والحركة، ولكننا لانجد عنده تصورا واضحا عن التنوع الكيفي لأشكال الحركة، وعن انتقالها من شكل إلى آخر، ولذا فإن موضوعية الحركة الذاتية للمادة، التي تبناها مترسماً خطى الماديين الفرنسيين، جاءت بمثابة مجرد نتيجة لنفي الخلق الإلهي للعالم. وإذا كان هذا الطرح مبررا في القرن 18، عندما لم تكن العلوم الطبيعية قد قدمت بعد المعطيات الضرورية عن الأشكال غير الميكانيكية من حركة المادة، فإنه في أواسط القرن 19، وفي الصيغة العامة المفرطة التي طرح فيها، لم يكن ليساهم في دفع المادية إلى الأمام.

وللحقيقة ننوه بأن فويرباخ لم يكتف بالقول بعمومية الحركة، بل ويتحدث عن التطور "فلم تكن الأرض منذ القدم على النحو، الذي نراها عليه اليوم، بل وصلت إلى ما هي عليه الآن نتيجة تطور مديد وثورات عدة، ويرى أن الأحياء كلها تحدرت من الكائنات غير الحية، وإذا كنا في الوقت الحاضر لا نشهد ظهور كائنات حية بسيطة من المادة غير الحية فإن هذا يعود إلى غياب الظروف الموضوعية التي كانت قائمة قبل ملايين السنين. ، وبرغم هذا كله، بقي على العموم، ميتافيزيقيا في رؤيته لعملية التطور.

ويختلف فويرباخ عن ماديي القرن 18 بأنه لم يعد يرضى بالفهم الميكانيكي للطبيعة. فقد وقف ضد رد ا لأشكال العليا لحركة المادة إلى أشكالها الدنيا فالنظر والسمع لا يمكن إرجاعهما إلى العملية البصرية والصوتية وحدها، لأن الأفعال النفسية تختلف جذريا عن أساسها الفيزيولوجي. ثم إن وحدة ، النفسي والفيزيائي، لا تلغي التمايز الداخلي بينهما. وبالرغم من أن الحي في شكله الأولي لا يمكن أن ينشأ من غير الحي، فإن هذا لا يعطي أي مبرر لنفي ما للحياة من طابع كيفي (نوعي) متميز.

ثم إن فويرباخ، إذ يدحض الفهم الميكانيكي للحياة، يتصدى للنزعة الحيوية أيضا. كما أن فهمه للحياة على أنها شكل أعلى لوجود الطبيعة كان موجها أساسا ضد المادية العامية (المبتذلة)، التي تنفي، ، وجود الوعي. ففويرباخ ينظر إلى الوعي، بكافة أشكاله، على أنه تعبير مباشر عن وحدة الذات والموضوع.

ويذهب فويرباخ إلى أن تنوع الأحاسيس البشرية يتفق مع تنوع كيفيات الطبيعة، ويكون مشروطا به، ومتعذرا بدونه. ولذا كان من الخطأ المعارضة بين محتوى الأحاسيس البشرية وبين التعين الكيفي للظواهر الحسية. ومع ذلك، كان فهم فويرباخ لوحدة الذات والموضوع يتسم بالنزعة الطبيعانية والمحدودية الأنثروبولوجية. فهو لم يكن يرى الأساس الواقعي والشكل الأهم لهذه الوحدة - الإنتاج الاجتماعي.

وفي حله المادي لمسألة العلاقة بين الطبيعة الحية والجامدة ينتقد النظرة الغائية المثالية، التي تزعم أن الطبيعة كلها ليست إلا تناسقا مسبقا، رسمه الإله، وهنا يؤكد أن ما نلاحظه في عالمي الحيوان والنبات من تناسق ونزوع إلى الكمال ليس حصيلة تحقق غايات وأهداف باطنة في الظواهر، بل نتيجة قانونية لوحدة العالم المادية. وبخلاف ماديي القرنين 17،18، لا ينفي فويرباخ الغائية الموضوعية في الطبيعة الحية. ولكنه لم يتمكن من تفسيرها، إذ لم يعتمد على معطيات العلوم الطبيعية.

وهكذا فإن مذهب فويرباخ في الطبيعة - وبرغم ما تضمنه من إلماعات ديالكتيكية متفرقة، ومن فهم أكثر عمقا منه لدى الماديين الفرنسيين لوحدة الطبيعة وتنوعها - لم يخرج عن إطار المادية الميتافيزيقية. وقد تجلي هذا في تعريفه للطبيعة: "إنني أعني بالطبيعةجملة القوى والأشياء والكائنات الحسية، التي يميزها الإنسان عن ذاته باعتبارها غير بشرية … أو، من وجهة النظر العملية، الطبيعة هل كل ما يتجلى للإنسان - وبصورة مستقلة من الإيحاءات الغيبية للإيمان الديني - تجليا مباشرا، حسيا، كاساس لحياته وكموضوع لها. الطبيعة هي الضوء والكهرباء والمغناطيسية والهواء والماء والنار والتراب والحيوان والنبات والإنسان باعتباره كائنا فعالا بصورة عفوية، لا شعورية. إن كلمة الطبيعة لا تعني بالنسبة لي أي شيء آخر، لا شيء غيبيا، مبهما، لاهوتيا". ويورد لينين قول فويرباخ هذا في تلخيصه لـ "محاضرات حول جوهر الدين" ليعقب عليها قائلا: "وهكذا ينتج أن الطبيعة هي كل ما ليس فوق الطبيعة. فويرباخ هُنا زاه نير، ولكنه غير عميق. إن انجلس أعمق في تحديده للفرق بين المادية والمثالية".


نظرية المعرفة تطوير المهذب الحسي:


تابع فويرباخ تقاليد مادية القرن الثامن عشر، فساهم بقسط وافر في تطوير النظرية المادية الحسية في المعرفة. وأول ما قام به في هذا المجال كان وقوفه ضد الفهم المثالي للإدراك الحسي على أنه شيء بدائي، سطحي، بعيد عن الحقيقة. فهو يبرهن على أن العالم الفعلي هو الواقع المحسوس، ولذا فإن معرفة هذا العالم ممكنة بفضل الإدراكات الحسية وحدها، وينفي فويرباخ نفيا قاطعا، وجود أشياء يتعذر إدراكها بالحواس. فالإدراك الحسي، المباشر بطبيعته، يمكن أن يكون غير مباشر أيضا، أن بوسعه أن يعطي معلومات، غير مباشرة عن اشياء، لا نراها ولا نسمعها ولا نتذوقها. "وهكذا فإن موضوعات الإحساس ليس الخارجي فقط، بل والباطني أيضا، ليس الجسم فقط، بل والروح أيضا، ليس الشيء فقط، بل والأنا أيضا. ولذا فإن الأشياء كلها متاحة للإدراك الحسي، إن لم يكن مباشرة فبصورة غير مباشرة، إن لم يكن بالحواس العادية، الفجة، فبصورة مهذبة لطيفة، إن لم يكن بعيني البيولوجي أو الكيميائي، فبعيني الفيلسوف، وبذا تكون النزعة التجريبية على حق عندما نرى في الحواس مصدرا لأفكارنا"، وكذلك وقف فويرباخ ضد الانتقادات الريبية واللاأدرية للإدراكات الحسية، ليؤكد أن هذه الأخيرة، بارتباطها المباشر بالأشياء، لا يمكن أن تخدعنا أبدا.

وقد قدر لينين موضوعة فويرباخ ، القائلة بأن أركان الحس عند الإنسان تكفي تماما لمعرفة الظواهر كلها. ولكن فويرباخ لم يتمكن من إقامة البرهان على هذه الموضوعة، فلم يكن يعرف أن قدرة الحواس على عكس الواقع عكسا صحيحا ومتعدد الجوانب إنما هي حصيلة تطورها على مدى آلاف السنين. ولذا جاءت الموضوعة المذكورة أقرب إلى الفرضية العبقرية من أن تكون اسنتاجا من نظرية التطور، المطبقة على الإنسان. كما ويقوم قصور الفهم الفويرباخي للانعكاس الحسي في أنه لم يربط التصورات الحسية الممارسة، بنشاط الناس العملي، المادي. وبهذا الصدد يقول ماركس: "إن فويرباخ، الذي لا يرضيه التفكير المجرد، يستنجد بالتأمل الحسي، ولكنه لا يعتبر الحساسية نشاطا عمليا، نشاطا حسيا بشريا". ولم يكتف فويرباخ بالتدليل على دور السمع والبصر والحواس الأخرى في معرفة العالم الخارجي، بل ونوه بالقيمة المعرفية لمجمل حياة الإنسان العاطفية ونشاطه العاطفي. ولكنه لم يدرج في النشاط الحسي الشيء الأكثر اهمية - تحوير الإنسان للطبيعة، الإنتاج المادي.

إن أحاسيس الإنسان تختلف نوعيا عن أحاسيس الحيوان، وهي تتجاوز بعيدا إطار احتياجات الإنسان الفيزيولوجية المباشرة، وتتمتع بقيمة روحية غنية، بما فيها القيمة الجمالية. صحيح أن بعض الحواس تكون عند الحيوان أكثر حدة منها لدى الإنسان، ولكن هذا لا يتناقض مع شمولية الحواس البشرية، لأن الحواس ضيقة التخصص عند الحيوان، بينما ترتفع عند الإنسان إلى مستوى الروحي، إلى مستوى الفعل العلمي، على حد تعبير فويرباخ. الذى يذهب إلى أن من الخطأ رؤية سبب اختلاف الحواس عند الإنسان عنها لدى الحيوان في أن الإنسان كائن عاقل. فلو لم يختلف الإنسان عن الحيوان في أحاسيسه لما اختلف عنه في تكفيره. "فالأحاسيس عند الحيوان حيوانية، أما عند الإنسان - فإنسانية". ولكن هذه الموضوعة لا تفسير التباين الكيفي بين الإدراك الحسي البشري والحيواني، لأن فويرباخ لم يقف على الأسباب الحقيقية لتحول القرد إلى إنسان. ومع ذلك كانت لإشارته هذه إلى النوعية الخاصة، التي يتميز بها الانعكاس الحسي للعالم من قبل الإنسان، قيمة مبدئية كبيرة في دعم المذهب الحسي في المعرفة.

إن التقدير العالي لدور المعرفة الحسية ونقد الفهم النظراني الذي يحط من قدر معطيات الحواس لا يعنيان أن فويرباخ لا يعترف بالوظيفة المعرفية الخاصة للتفكير النظري وبقدرته على الوصول إلى فهم أعمق للواقع. ان مهمة الفكر تقوم في جمع المعطيات الحسية ومقارنتها والتمييز بينها وتصنيفها والكشف عن محتواها الخفي، الذي لا يظهر مباشرة،. "فبالحواس نقرأ كتاب الطبيعة، لكننا نفهمه بغير الحواس". الفكر يحكم على المعطيات الحسية، يقيّمها ويحللها ويفسرها، وكان فويرباخ يعرف جيدا أن التفكير - بخلاف العكس الحسي للعالم الخارجي - من طبيعة غير مباشرة، فليس من الضروري أن يكون ما نعقله موضوعا للإحساس المباشر. فكيف يمكن، والحال كذلك، الحكم على يقينية مفاهيمنا، على مدى توافقها مع الواقع الموضوعي، يمكن ذلك بمقارنة المفاهيم والاستنتاجات النظرية مع المعطيات الحسية. وهكذا يشكل التأمل الحسي، عند فويرباخ، معيارا ليقينية التفكير. وهذا يعني أن الفكر يجب أن يتوافق مع الحس. ولكن مثل هذا التوافق غير ممكن أحيانا، لأن الإنسان يتعرف بالفكر على ما كان (الماضي) وما لم يكن بعد (المستقبل)، ثم أن العلاقة بين النشاط الفكري وبين العكس الحسي للعالم تتسم بطابع متناقض ديالكتيكي، وهو الأمر الذي غاب عن ذهن فويرباخ صحيح أنه أكد على وحدة الحس والفكر في عملية المعرفة، إلا أنه لم ير أن الانتقال من العكس ا لحسي للعالم الخارجي إلى عكس هذا العالم في الفكر النظري المجرد، في مفاهيم العلم ومقولاته، أمر معقد، ويتم على شكل قفزات وأن مسألة المقولات، التي شغلت مكانا كبيرا في مذاهب كانط وهيجل، تكاد لا تهم فويرباخ . كما وكان نادرا ما يعني بالمسائل المنطقية. فبقيت غريبة تماما عنه الموضوعة الهيجلية العميقة عن انتقال الفكر النظري من المجرد إلى الملموس وبالتالي عن إمكانية الملموس في الفكر المجرد.

ثم إن فويرباخ، الذي انتقد محاولات عزل الفكر عن أرضيته الحسية، لم يتبين ارتباط المعرفة النظرية بالممارسة العملية. صحيح أنه يتكلف أحيانا عن الممارسة، ويسعى لإدخالها إلىعملية المعرفة، اذ يؤكد مثلا، أن الممارسة تحل المسائل التي تعجز النظرية عن حلها. ولكننا لا نلمس عنده فهما علميا للممارسة، فقد بدت له الممارسة المادية أمرا غريبا، حتى ومعاديا للفلسفة، وللفكر النظري عموما. ومع ذلك تضمن طرحه لمسألة الدور الحاسم للنشاط الحسي في عملية المعرفة بدايات جنينية على طريق الحل العلمي الصحيح لهذه المسألة المعرفية الجذرية.


آراؤه الاجتماعية والأخلاقية:


تشكل الآراء الاجتماعية والأخلاقية الجزء الأقل معالجة وأصالة في فلسفة فويرباخ. إن فويرباخ، كغيره من ماديي ما قبل الماركسية، لم يستطع أن يفهم ماديا الحياة الاجتماعية، الوعي الاجتماعي، والأخلاق ضمنا. لقد وقف ضد التفسير الديني والمثالي للحياة الاجتماعية، لكنه لم يرتفع إلى مستوى الفهم المادي للتاريخ، إذ أنه يستعيض عن القوى الغيبية المحركة للتاريخ بالمشاعر والرغبات البشرية، أي بأشياء واقعية فعلا، ولكنها غير مادية ويعارض فويرباخ الرؤية الدينية المثالية للتاريخ بنظرة طبيعانية، تنطلق من الفهم الأنثروبولوجي للحساسية البشرية على أنها القوة الرئيسية المحددة لسلوك كل فرد على حدة، ولسلوك المجتمع عامة.

ويدحض فويرباخ المذهب الكانطي في "الأمر القطعي" ("الأمر المطلق") القبليّ، السابق على الحساسية والمستقل عنها، فيؤكد أن الإنسان يتصرف وفقا للحساسية. وأشكال الحساسية جد متنوعة: حب الحياة، والنزوع إلى السعادة، والأنانية، والمصلحة، ومتطلبات الطبيعة الحسية البشرية، واللذة بالمعنى الأوسع للكلمة، إلخ. ثم إن الإنسان، إذ يسير وراء نزوعه إلى السعادة، فإنه يسير وفقاً للضرورة، ويتصرف بحرية في نفس الوقت. والحرية الحقيقية غير ممكنة خارج الزمان والمكان، ودونما ارتباط بالأشياء الحسية، وبذا يبطل فهم هيجل للحرية على أنها جوهر الفكر: "الحرية الحسية، وحدها، هي التي تشكل حقيقة الحرية الروحية، والنزوع إلى السعادة، وحده، هو الذي يربط الحرية بالضرورة، أي يجعل الأفعال الضرورية مرغوبة، حرة، متى يتصرف الإنسان بحرية؟ فقط عندما يتصرف وفقاً للضرورة". هذا التعريف الفويرباخي للحرية ينطبق، في ملامحه الأساسية، مع رأي سبينوزا. ولكن فويرباخ يختلف عن سبينوزا بأنه يؤكد على البعد الفعلي لحياة الفرد الحسية، أما عند سبينوزا فتعني الحرية، على الأغلب، سيطرة العقل على المشاعر.

إن فويرباخ يرفض الفهم الهيجلي المثالي للحرية، دون أن يلاحظ المحتوى الإيجابي في طرح هيجل لمسألة تطور الحرية التاريخي. فالحرية، بالنسبة لفويرباخ، هي وحدة الإنسان مع الشروط التي تتكشف فيها ماهيته. فالطائر حر في الهواء، والسمكة حرة في الماء، والإنسان حر حيثما وعندما تسمح له ظروف حياته بتلبية نزوعه الطبيعي إلى السعادة، إلى تحقيق قدراته. وهذا الفهم الطبيعاني الأنثروبولوجي، المجرد للحرية الإنسانية شبيه بمطلب المنوّرين البرجوازيين في جعل ظروف الحياة البشرية تتفق مع الطبيعة الإنسانية، في جعل هذه الظروف إنسانية حقا.

وفي السوسيولوجيا تتسم النزعة الأنثروبولوجية بطابع ديمقراطي برجوازي جلي. وإن أهم ما في هذه النزعة هو قولها بالوحدة الأنثروبولوجية للناس جميعا. وإذا كان البشر متساوين بطبيعتهم فإن كافة المراتب والامتيازات الاجتماعية مناقضة للطبيعة البشرية، ولذا يجب إلغاؤها. ولكن هذا الفهم للمساواة محدود محدودية الفهم الديمقراطي البرجوازي للحرية. فلم يكن فويرباخ يهتم بالتركيب الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع، الذي تسيطر فيه طبقة على أخرى. ولم يتبين العلاقة بين الاضطهاد والاستغلال، من جهة، وبين الملكية الخاصة، من جهة أخرى.

إن فويرباخ، الذي ينظر إلى الإنسان على أنه كائن طبيعي، يحاول أن يجد في إطار المجتمع البرجوازي الظروف الطبيعية للوجود الإنساني، أي الظروف التي تتيح للفرد، إلى هذا الحد أو ذاك، تحقيق نزوعه نحو السعادة. وهنا يخلص إلى القول بأن "كافة الأشياء - باستثناء الحالات المنافرة للطبيعة - توجد، عن طيب خاطر، في المكان الذي تتواجد فيه، وتتجلى، عن طيب خاطر في الصورة التي هي عليها في الواقع". وقد أشار انجلس إلى أن هذا الاستنتاج الفويرباخي، وبغض النظر عما قصده الفيلسوف، يتضمن دفاعا عن المجتمع البرجوازي.

ومن الناحية الذاتية كان فويرباخ، بالطبع، بعيدا عن تبرير عوز الكادحين واستغلالهم. فقد كان يؤمن إيمانا عميقا بإمكانية تصفية البؤس والحرمان، حتى أطلق على نفسه لقب "الشيوعي"، وإن كان لم يضمن مفهوم الشيوعية محتوى اجتماعيا سياسيا محددا. ومع ذلك لم يتمكن فويرباخ من الناحية الموضوعية، الارتفاع فوق التصرفات الديمقراطية البرجوازية عن المجتمع. فهو، كما أشار ماركس وانجلس، "ينتقد العلاقات الحياتية الراهنة … ولكنه لم يصل أبدا إلى فهم العالم الحسي كنشاط حسي، كنشاط حي، جماعي، للافراد الذين يتكون هذا العالم منهم. ولذا فإنه، حين يرى بدلا من الناس الأصحاء حشدا من الفقراء الذين أضنى التعب أجسادهم وفتك بها السل وداء الخنزير، يضطر للاستنجاد بـ "التأمل الحسي"، بـ "مساواة الناس الطبيعية"، أي يعود من جديد إلى مواقع المثالية، وذلك بالضبط في المكان الذي يرى فيه المادي الشيوعي ضرورة وشرط تحوير الصناعة والنظام الاجتماعي على حد سواء.

إن مثالية فويرباخ في فهم الحياة الجتماعية تتجلى على أشدها في محاولته اتهامه آرائه السوسيولويجة الإنسانية على أساس أخلاقي محض. فهو يفترض، على غرار مادي القرن الثامن عشر الفرنسيين، أن الأنانية المعقولة، أي المصلحة الفردية المفهومة فهما صحيحا، تتطابق، في نهاية المطاف، مع المصلحة العامة، ولذا فإنه لا يمكن ولا يجب، أن يكون بينهما أي تعارض. ولكن إذا كانت الأنانية والغيرية تشكلان وحدة أنثروبولجية، فإن الحب يغدو الوسيلة الكفيلة بتحقيق الحياة الاجتماعية المنسجمة. فالإنسان المحب لا يمكن أن يكون سعيدا بمفرده، فسعادته وثيقا بسعادة محبوبه.

وهكذا فإن السعادة الحقيقية تنشد السعادة للجميع، ولا تتطلب أي تنزل من الواجب للشعور، ولا أي تعرض بينهما. فكل المصاعب، التي تقف عند كانط وهيجل عائقا على طريق تحقيق متطلبات الحياة الأخلاقية، لا وجود لها في حقيقة الأمر عند فويرباخ. وفي ذلك يقول أنجلس:"إن الحب يبقى في كل مكان وزمان، صانع المعجزات عند فويرباخ … وهذا كله في مجتمع منشطر إلى طبقات ذات مصالح متناقضة تماما! وعليه فإن فلسفته هنا تفقد آخر ما تبقى له من نزعتها الثورية، ولا تبقى غير المعزوفة القديمة: أحبوا بعضكم بعضا، وتعانقوا دونما تمييز في الجنس أو المكانة".

وبما أن الحب جوهر الحياة البشرية وهدفها يرى فيه فويرباخ القوة المحركة للتقدم الاجتماعي، والأخلاقي خاصة. ولكن هذا التفاؤل الأخلاقي يصطدم لا محالة بوقائع التاريخ والحياة اليومية. ولذا يحاول فويرباخ الارتفاع فوق هذه الوقائع بالاعتماد على تصوره المثالي، الذي يسرف في التأكيد على تطابق جوهر الإنسان كفرد مع جوهره كممثل للجنس البشري.

وإبان ثورة 1848 توجه فويرباخ مخاطبا مستمعيه من طلاب وعمال: "أين يبدا عصر جديد في التاريخ؟ هناك، وهناك فقط، حيث تطرح الجماهير أو الأغلبية المضطهدة، أنانيتها المشروعة في مجابهة الأنانية الضيقة لأمة أو فئة، هناك، حيث تحرز طبقات من الناس، أو أمم بأكملها، النصر على غطرسة الأقلية المسيطرة للتخلص من وضع البروليتاريا البائس والجائر، ولتظهر على مسرح النشاط التاريخي المجيد. وهكذا فإن أنانية الأغلبية العظمى من البشرية، التي تعاني الآن من الاضطهاد، يجب أن تمارس حقها وسوف تمارسه، فيحل عصر جديد في التاريخ". ويعلق لينين على قول فويرباخ هذا: "بذور المادية التاريخية". وفي موضع آخر من تلخيصه لـ "محاضرات حول جوهر الدين" يورد لينين قول فويرباخ: "بالإضافة إلى الأنانية الفردية هناك أنانية عامة، أنانية عائلية، طوائفية، قبلية، وطنية". فيصفها أيضا بأنها "بذور المادية التاريخية". ولو تبين فويرباخ أن وحدة البشر الأنثروبولوجية لا تنفي الفوراق الاجتماعية الناشئة تاريخيا، ولو بحث في هذه الفوارق وبالتالي – في "الأنانية العامة"، في مصالح الطبقات المتعارضة، لاستطاع تجاوز النظرة الأنثروبولوجية، ولكنه "ببقائه في مواقع النزعة الأنثروبولوجية والديمقراطية البرجوازية، لم يتمكن من تطوير الأفكار المتفرقة، التي يقترب فيها من الفهم المادي للتاريخ. هذا فضلا عن أن فويرباخ حاول تقديم البرهان الأنثروبولوجي على تلك الأفكار، مما أعاق تطويرها وتعميقها. فهو يقول، مثلا: "في القصور يفكرون على نحو يختلف عنه في الأكواخ، فالسقف المنخفض يبدو وكأنه يضغط على الدماغ. والناس في الهواء الطلق يختلفون تماما عنهم في الغرفة الضيقة، فالازدحام يخنق، أما الرحابة فتشرح القلب والرأس". وهذا "التفسير" الطبيعاني، الانثروبولوجي، للتناقض الجذري بين الطبقات "العليا" والجماهير "الدنيا" لا يؤدي في الحقيقة إلا إلى جعل هذا التناقض أكثر إبهاما.

وعلى العموم فإن قيمة آراء فويرباخ الاجتماعية والأخلاقية تتمثل في نقد التصورات الدينية والمثالية عن المجتمع والأخلاق. فقد فند محاولات الفلاسفة المثاليين ورجال اللاهوت اعتماد الدين في "البرهان" على صحة مبادئ الحقوق والأخلاق البرجوازية، وعلى غرار ماديّي القرن الثامن عشر الفرنسيين يؤكد فويرباخ أن الدين لا يمكن أن يكون اساسا للقانون أو للأخلاق. "فعندما تؤسس الأخلاق على اللاهوت، والحقوق - على الفروض الإلهية، يغدو بالإمكان تبرير أكثر الأمور لا أخلاقية وجوراً وعاراً". كذلك يدحض فويرباخ التزمت الأخلاقي المرائي، الذي يقيم تعارضا بين الأخلاق والحق وبين متطلبات الإنسان الطبيعية والواقعية، فهو يذهب إلى أن الأخلاق عاجزة أمام الطبيعة البشرية، ولذا فإن القيم الأخلاقية نسبية، ومن السخف إقامة تعارض مطلق بين الفضيلة والرذيلة. فليس ثمة رغبات أو متطلبات حسية، تكون مشينة بحد ذاتها، بطبيعتها، فما رذائلنا إلا فضائل لم تتحقق، وكان بإمكانها أن تغدو فضائل لو كانت ظروف حياة الإنسان أكثر تلاؤما مع متطلبات الطبيعة البشرية.

تشكل آراء فويرباخ الاجتماعية والأخلاقية الأساس النظري للنزعة الديمقراطية البرجوازي، ولذا فإنها لا تخلو من الأوهام الديمقراطية البرجوازية. فذلك الإنسان "الطبيعي" و"السوي" الذي كثيرا ما يتحدث عنه، والذي يرى فيه إنسان المستقبل، الإنسان المتحرر من كل ما يشوّه فرديته، هذه الذات الأنثروبولوجية المحضة، المجردة واللاطبقية، تبقى، في نهاية المطاف، صورة مثالية لإنسان المجتمع البرجوازي. "وللانتقال من الإنسان المجرد، كما يفهمه فويرباخ، إلى الناس الحقيقيين، الأحياء، كان لا بد من دراسة هؤلاء الناس في أفعالهم التاريخية. ولكن فويرباخ كان يعارض ذلك بعناد. ولذا فإن عام 1848 الذي لم يفهمه، لم يعن بالنسبة له سوى القطيعة النهائية مع العالم الواقعي، والانتقال إلى العزلة المطلقة، أما الذنب في ذلك فيرجع أساسا إلى نفس تلك العلاقات الاجتماعية الألمانية، والتي أدت به إلى هذه النهاية المفجعة.

غير أن الخطوة التي لم يخطها فويرباخ كان لا بد مع ذلك من خطوها. كان لا بد من الاستعاضة عن تقديس الإنسان المجرد، الذي يؤلف محور الدين الجديد الفويرباخي، يعلم عن الناس الحقيقيين، عن تطورهم التاريخي"، كما يقول أنجلس. وإن حل هذه المسألة، التي لم يستطع فويرباخ - بحكم كونه مفكرا برجوازيا - حلّها، قد أصبح ممكنا في الفلسفة الماركسية. وهنا يجب ألا ننسى أن فويرباخ مارس تأثيرا قويا على ماركس وأنجلس في فترة تشكل آرائهما الفلسفية.

في مذهب فويرباخ بلغت الفلسفة الكلاسيكية البرجوازية الألمانية أوج تطورها. وإن القيمة التاريخية لهذه الفلسفة تكمن في أنها صاغت - وإن لم يكن من مواقع مثالية - الفهم الديالكتيكي للعالم والمنهج الديالكتيكي في البحث. ولهذا بالذات غدت الفلسفة الكلاسيكية الألمانية أحد المصادر النظرية للفلسفة الماركسية، للمادية الديالكتيكية والتاريخية.

الحواشي :

1 - أي ثورة 1848 - 1849 الديمقراطية البرجوازية في ألمانيا (المعرب).

2 - لودفيغ فويرباخ. مختارات فلسفية في مجلدين، المجلد الأول، موسكو، 1955، ص 199.

3 - المصدر السابق، ص 202.

4 - المصدر السابق، ص 203.

5 - المصدر السابق، المجلد الثاني، موسكو، 1955، ص 713.

6 - المصدر السابق، المجلد الأول، ص 129.
03-11-2008, 11:06 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  فويرباخ و هيجل لايبنتز 1 2,564 03-16-2008, 02:01 AM
آخر رد: لايبنتز

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS