فصلُ الحوار فيما يكتبه فؤاد النمري وكامل النجار
الاربعاء 11 شباط (فبراير) 2009, بقلم نادر قريط
(
الأوان)
يبدو لي أنّ ثقافة النت وطوفان المعلومات خلطت الحابل بالنابل وأصبحت مفاهيم (يسار، وعلمانية، ورجعية، ديمقراطية، قومية، فاشية) أسماء دون مسميات، ولم تعد الأيديولوجيا فيصلا في تحديد هوية الكتابة، ولم يعد مستهجنا أن ترى تروتسكيا مع حماس وماويّا مع عبّاس أو ترى سفيرا بريطانيا يفتتح مقرّ حزب شيوعيّ، بداخله مصلّى وحسينية؟
لقد هُجرت خنادق الأيديولوجيا أخيرا وأصبحت كتابة النت السياسية تتوزّع بين فريقين أوّلهما مثاليّ مناهض لمشروع الأمركة (والأسرلة) والثاني براغماتيّ يعتبر هذا المشروع نموذجا للحضارة المعوْلمة التي تحدّد معالم المستقبل والدولة ونظام الحكم والديمقراطية، وقدرا يجب الرضوخ له والانحناء، وهذا الفريق هو نفسه الذي تماهى مع احتلال العراق، وساق الأعذار لتبرير العدوان على لبنان 2006 وغزّة 2009 وغضب وانزعج حتى من حذاء الزيدي وكاريزما أردوغان؟
لكنّ هذا الفيصل بين الكتابات لم يمنع قطّ تسلّل نصوص رؤيوية تدعم فكرة العلمانية وقيم الضمير والعدالة، ولم يمنع أيضا تسرّب كتابات الفوضى والعشوائيات. أو تلك المختبئة وراء رداء المدنية والعلمانية وتتنفّس أمراضا قبلية وشوفينية وطائفية.
بعد هذه المقدّمة المقتضبة أودّ تناول نصّين علمانيين (لا علاقة لهما بما ورد آنفا؟)، نصّان أثارا استغرابي وأطربا جمهرة خاصّة من القرّاء. وسأقتصر عليهما حصرا لمناقشة بعض إشكاليات الكتابة العربية
لا حرية مع الاستلاب الديني1 (أسطورة إبراهيم أبي الأنبياء)
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ فؤاد النمري نصّا تناول فيه أسطورة إبراهيم كما استقاها من العهد القديم، مدعمة باستنتاجات تدعو للخلاص من الخرافة الدينية..لكنّ الغريب والمدهش أنّ استنتاجاته جاءت دون إشارة لمراجع بحثه، باستثناء قصّة سردها في المقدّمة وقدّم فيها فيض احترامه وتبجيله للدكتور كامل النجار، واصفا إياه بالقامة الفارعة في نقد الخطاب الديني؟
وللحقيقة أعترف بأنّي لست من متابعي "ستالينيات" الكاتب، لكنّ دعوته الأخيرة لإيقاف كلّ أشكال الصراع مع قوى الاحتلال والاستيطان بحجّة عدم وجود عدوّ طبقيّ أثار استغرابي بعكس بحثه في قصة إبراهيم الذي سبب لي مغصا معرفيا بسبب غياب مراجعه، رغم وجود مئات المصادر والدوريات التي تبحث في مضمار ما يُسمّى (بحوث الكتاب المقدس).
وإذا تجاوزنا قصّة المراجع هذه واعتبرنا الأستاذ النمري مرجعية بذاته، اسمحوا لي بالتوقّف عند الأمور التالية:
1ـ قبل أن يسرد الكاتب أسطورة يعقوب وصراعه مع شخص إلهيّ، كان السبب وراء تسميته "إسرائيل" (آسر الله) يخبرنا الكاتب بأنّ العراك حدث في جبال عجلون (مانهايم كما تقول التوراة) والحقيقة أن التوراة تقول في يبوق (تكوين إصحاح:32)، ولا أدري من أين جاء بـ"مانهايم " (ولا أظنّه يقصد مدينة مانهايم في ألمانيا) وإذا ما تغاضينا عن اسم زوجة يعقوب ليا (ورد سهوا رفقة) فإنّ السرد لا يدلّ على ارتباك وحسب، بل على تناقض إشكاليّ. فالحديث عن أسطورة ثمّ تقرير مكان الحدث الجغرافيّ، يشير إلى أنّ الكاتب لم يطّلع على الدراسات الكثيرة التي تشكّك أساسا بالجغرافيا التي تحرّك عليها الآباء (من إبراهيم حوالي 1800ق.م حتى نهاية المملكة الموحّدة لداوود وسليمان حوالي 900ق.م) وباختصار، هنالك من يحسم هذه الجغرافية في فلسطين (وهذا رأي تمثّله معظم البحوث الكلاسيكية لأمثال ماكسويل اولبريت والفرنسي دوفو وعشرات غيرهم)، وهنالك من أمثال الهولندي راينهارد دوزي (قرن 19) الذي رأى أثارا لعصر الآباء في الجزيرة العربية، وبحوث لفينكلر وهوميل الذين عثرا على خطوط للرواية التوراتية شمال الجزيرة (جنوب العقبة)، والتي كانت تسمّى في القرن 7ق.م "مصر" فاعتبراها مرادفا لمصراييم التوراتية. وصولا إلى نظرية كمال الصليبي التي نقلت جغرافية عصر الآباء إلى منطقة عسير وتهامة جنوب الحجار..
ويعود الكاتب مرّة أخرى لتكرار قصّة قاطعة حول هذا الموضوع، ويخبرنا أنّ موسى وافته المنية في جبل "نيبو" بالقرب من مدينة مادبا. وكأنّ موسى حقيقة لا غبار على تاريخيتها؟
2ـ وقبل أن ينتقل الكاتب لتناول قصّة إبراهيم الذي خرج من أور مع ساراي وابن أخيه لوط، يخبرنا سلفا بأنها أسطورة سومرية؟ نقلها الأسرى الذين حرّرهم كورش عام 537 ق.م من براثن أسر نبوخذنصر.
عظيم جدّا؟ لكن السؤال كيف استطاع أن يحدّد أنّها أسطورة سومرية ونحن نعلم أنّ عهد سلالات المدن السومرية انقضى قبل السبي بأكثر من ألف سنة؟ لماذا لا تكون أسطورة أكدية، بابلية؟ آشورية، حثية مصرية؟ وما تجدر الإشارة إليه أنّ النص العبرانيّ القديم ذكر حرفيا لفظ " أور كيسيديم" منشأ لإبراهيم (مكان مجهول) ثم حُرّف في النص الجديد إلى"أور الكلدانيين"، وكلنا يعرف أنّ الكلدانيين يبتعدون عن الزمن الافتراضي لإبراهيم بأكثر من ألف ومائتي سنة.(انظر خفايا التوراة لكمال الصليبي).
ويضيف الكاتب: وألوهيم الذي هو الإله الأعظم لدى السومريين!(إنتهى) لا أدري من أين أتى بهذه المعلومة؟ فالمعروف وفق قواعد اللسانيات أن إلوهيم صيغة جمع "إله" في اللغات السامية الغربية ومن المستبعد أن تكون سومرية.
3ـ بعدها يقرّر الكاتب بيقين وحتمية بأنّ أسطورة إبراهيم نقلها أسرى بابل، وجعلوا إبراهيم ويعقوب يرحلان إلى مصر، كي يدّعوا أنّ القبائل التي خرجت من مصر بقيادة موسى هي من أنسال إبراهيم!! وذلك لخشيتهم من الوقوع بالأسر ثانية!! وبهذا يدافع الكاتب عن قصة موسى وسفر الخروج من مصر وكأنها حقيقة لا يأتيها الباطل. مع أنّ كل الدلائل والدراسات الحديثة لعلماء المصريات والفحص الأركيولوجي لسيناء وكنعان (من قبل علماء آثار إسرائيليين) تؤكد أسطورية سفر الخروج وقصة اقتحام كنعان (انظر دراسات فنكلشتاين، سيلبرمان).
4ـ ثم يقول حرفيا: ما يؤكّده البحّاثة المختصّون هو أنّ التوراة كتبها الرهبان المسيحيون في القرن الميلادي الأوّل ليؤكّدوا صحة النبوءة بالمسيح على لسان أشعيا (انتهى)؟؟ أيضا نحن أمام فكرة غريبة (من يكون هؤلاء البحاثة؟) فلو تجاوزنا قضية وجود رهبان وأديرة في القرن الأول لأسباب منطقية؟ كيف يفسّر الكاتب ذكر الأناجيل لمقولات التوراة والناموس؟ وماذا عن ذكر الكتبة والفرّيسيين والصدوقيين وكهنة الهيكل؟ هل كان هؤلاء أميين و"خيال مآتة" وجب عليهم انتظار الرهبان المسيحيين ليكتبوا لهم التوراة؟ وماذا عن ألواح قمران الأسينية التي تضمّ بعض الأسفار والأبوكريف (أشير إلى أن لكاتب السطور رأي مختلف في كيفية وزمن نشوء الكتاب المقدّس "بعهديه" لا مجال لسرده في هذا المقال).
5ـ ويستمرّ الكاتب ويقول: ماذا لو تمّ نبش قبر إبراهيم في الخليل أو قبر سارة قرب بيت جالا وتبين أن الرمّة فيهما تعود لإنسانين عاشا في عصر مختلف جدّاً عن عصر إبراهيم… ألا يؤدّي ذلك مباشرة إلى تحرير الإنسانية دفعة واحدة من الاستلاب والخرافة (انتهى الاقتباس).
هكذا إذن!! عندما نثبت أنّ الرمّة في الخليل لا تعود لإبراهيم، عندها يمكن تحرير الإنسانية من الخرافة دفعة واحدة!! لأننا نكون قد فنّدنا وكذبنا قصة ميثاق إبراهيم (وفكرة أرض الميعاد) خصوصا أن هذا الميثاق هو أساس الإسلام أيضا؟
عندما وصلت إلى هذا السؤال (الفذّ) عرفت أزمة الكاتب؟ الذي لم يدرك أنّ الأديان بعمقها صيرورة تاريخية وطقوس مركّبة، ووجود داخل فضاء لغوي ميثولوجي مشكل لهوية جمعية، ومؤسّسة إكليروس لغوية تاريخية مازالت تحتكر القوامة على الوعي الجمعي..فالأديان ليست مجرد قصة لإبراهيم أو موسى أو المسيح أو محمد..لقد نسي أيضا أنّ كلّ دين حفر صيرورته وخطابه عبر أجيال من المقدَسين والمقدِسين (فطقوس الحسين الكربلائية لا شأن لها بمحمّد ولا بقبر إبراهيم، والتضرّع تحت صورة العذراء وتقديسها والسجود للمسيح لا شأن لها بقبر سارة، وكذلك الأمر فإنّ وجود اليهود لا علاقة له بإبرام وساراي، فهؤلاء هامش بسيط من الحتوتة، ولا يختلفون كثيرا عن آدم وحواء والحية والشجرة المحرمة، وليس مهمّا إذا كانت الرمة في الخليل تعود له؟ وكيف تعود له إذا كان صاحبها مجرد أخيولة داخل تاريخ مُتخيّل).
إنّ فكرة الكاتب وطريقته (الخارقة ) للتحرر من الاستلاب الديني ذكّرتني بنائب برلمانيّ أوروبيّ ظريف اقترح إلغاء شهر يناير (كانون الثاني) وشطبه من الروزنامة لتوفير الطاقة!
نشر الإسلام على حساب الأيتام2 (كامل النجار)
بداية أنوّه إلى أنّ معرفتي بكتابات د. النجار تعود لسنوات خلت، وأذكر أني كتبت له أحيانا بعض الانطباعات، ولا أشكّ أنّ الرجل يراعي جيّدا معايير الدقة والتوثيق، ويرفد كتابته بمراجع معتمدة.
لكن مع الوقت يكتشف المرء أنّ نقده للموروث الإسلامي يقوم على انتقائية شديدة والتواء، ولا يعتمد أفكار النقد الديني الحديثة التي تقوم أساسا على العلوم المقارنة (فيلولوجيا، أنتربولوجيا وعلم نفس التاريخ) وأذكر أني كتبت له مرة بأنّ الموروث الديني هو نسيج قصصيّ أنتجته الأسطورة، وشيدت هرمه بالمعجزة وما يلهب الخيال، ولا يجب على الباحث الحاذق أن يأخذه بحرفية شديدة كحقائق مطلقة، بل أن يقتبس المعنى من خلال فهم آلية عمل ذلك الفضاء الأسطوري الذي أنتج الموروث، وللطرافة فقد علّقت يوما على مقولة أوردها في أحد نصوصه عن ضرب الكعبة بالمنجنيق أيام يزيد .. وأخبرته بأنّ هذه الروايات محض أسطورة، لأنّ التجارب الحديثة أثبتت أنّ استخدام المنجنيق في حصار المدن ودكّ الأسوار يحتاج إلى غابة قريبة لتأمين الخشب اللازم لإنشائه فهو كتلة تزن أكثر من 90 طنا (لقذف كرة لا تزيد عن 10كغ، لمسافة أقل من 200ياردة) وليس بمستطاع الجيوش القديمة نقل مثل هذه الكتلة العملاقة. ولا أظن أنّ أرض (لا زرع ولا ضرع) سوف توفّر إمكانية لوجود منجنيق كهذا.
أما موضوعه نشر الأيتام على حساب الإسلام ؟ فيقوم على فرضيات وظنون واستشهادات وخلاصات لا تليق بمنهج علمي استقرائي:
1ـ يفتتح مقاله بالشكوى من تردّي الوضع الصحّي في المحروسة(لا غبار على ذلك) ثم يلقي الجملة التالية: والانفجار السكاني المريع بسبب أحاديث "تناكحوا تناسلوا" (انتهى). هذه المقولة قد تجوز في نصوص الأدب والبلاغة، لكنها لا تليق بالبحث الرصين، لأنّ الأحاديث والآيات لا تصنع حركة التاريخ ولا تقرّر مصائر الأمم، بل تؤدّي دورا وظيفيا ليس أكثر؟ فالانفجار السكاني له سياق يرتبط بمركبات وموروث وجهل وحاجة للعمالة الزراعية في مناطق لم تصلها المكننة، وبسبب ثورة البنسلين التي قللت وفيات الأطفال. وهو شأن ارتبط بسياسات الدول، فدولة مسلمة مثل تونس كبحت ولجمت الانفجار السكاني ( بفضل علمانية بورقيبة وليس بسبب علمانية الشعب التونسي المشابه بتقاليده لباقي شعوب المنطقة) في حين أن دولا مسيحية مثل راوندا وأوغندا وغيرها ودول أمريكية لاتينية لم تسيطر على التضخّم السكاني، ولو ذهب المرء إلى الريف المصري أو السوري سيجد أنّ معدلات نمو القرى المسلمة يتساوى تقريبا مع القرى المسيحية التي لم تسمع بحديث تناسلوا تناكحوا.
2ـ أمّا مقولته الثانية فتذكر حرفيا: والكلّ يعرف أنّ مصر الرئيس المؤمن أنور السادات وخليفته حسني مبارك تدار بالتعاون الخفيّ مع الإخوان المسلمين والجامع الأزهر والوهابية السعودية(انتهى) هذه الجملة يمكن قبولها كمجاز لغويّ، إذا اعترفنا بما تعرّض له المجتمع المصري من وهبنة وتغيّر واضح في بنية طقوسه الدينية، ومدى هيمنة مظاهر التزمت وشيوع التدين الطقوسي. لكن النجار يعتمد هذه الفرضية المجازية ذريعة لتفسير آفات كالرشوة الفساد والمحسوبية ونهب المال العام؟ وبرأيي هذا خلط غريب، لأنّ الفساد ينخر دولا أفريقية غير إسلامية ولا تحدده أحكام أخلاقوية. بل يرتبط ببنية ونهج سُمّي حينها "سياسة الانفتاح" وتحرير السوق، وظهور طبقات النهب والثراء السريع.
3ـثمّ يدخل الكاتب في هوايته المفضلة وهي نقد الدين، ويبدأ بسرد قصة مركز طبيّ إسلامي مصري في تنزانيا، تديره السفارة، التي اشتكت من رفض السلطات التنزانية إدخال معدات وأدوية بقيمة 900ألف.. وهنا يُعلمنا الدكتور (بدون دليل) بأنّ الرفض جاء بسبب خشية تنزانيا من عمليات التبشير وحملات أسلمة الفقراء الأفارقة !! يقول حرفيا: وطبعاً تنزانيا رفضت العرض لأنّ المركز الطبي الإسلامي ما هو إلا وسيلة تبشيرية لنشر الإسلام (انتهى) وهذا لعمري استنتاج باهظ الكلفة على دولة (هبة النيل) التي تبحث عن موطئ قدم في شرق أفريقيا حيث الدول المشاطئة لبحيرة فيكتوريا ومنابع نهر النيل، وربما تكون فرصة لكاتب السطور دعوة مصر(الأمة) أن تمدّ جسور الثقافة والأسلمة والقبطنة وتستثمر أضعافا مضاعفة، للدفاع عن أمن قومي مهدّد، فالحرب السرية على مياه النيل اشتعلت (3 راجع الدراسة الهامش) وعندما تجفّ مياهه فلن يموت المسلمون وحدهم؟ لكن على المرء أن يعذر الدكتور على هذا الاستنتاج الظنّي لأنّه قرأ على يافطة المركز الطبي كلمة "إسلامي" ولم يقرأ ما خلفها؟ ووفق قاعدة "الملدوغ يخاف من الحبل" فلا بدّ أن تكون وظيفة هذا المركز أسلمة أفريقيا ب(900ألف دولار)!!
4ـ وبناءا على هذا البراديغم الذي شيّده، يستنكر تبذير الأموال على أعمال التبشير الإسلامي، سيما وأن 40% منها تدفع من أموال الأقباط والبهائيين وبعض اليهود!! وكلّ هؤلاء يعتبرهم الأزهر كفّاراً تباح دماؤهم؟ هكذا يقول النجار؟ وهنا أودّ التوقف عند الشطر الثاني من قصيدته النثرية، ولو سمحتم لي أعيد عليكم ما قاله حرفيا: وكلّ هؤلاء (أقباط بهائيون ..) يعتبرهم الأزهر كفاراً تباح دماؤهم!! والسؤال:هل يجوز لباحث أن يلقي هذا الكلام على عواهنه وبدون مسؤولية في بلاد تتعايش فيها الأديان منذ آلاف السنين؟ وتتجاور فيها المساجد والكنائس. كيف تباح دماؤهم؟ ونحن نعرف أنّ نصف سكان بلاد الشام (إحصاء القناصل الأوروبيين عام 1912) كانوا من الطوائف المسيحية والفرق الإسلامية الغير أرثودوكسية، ونصف سكان إستنبول لحين مجيء الكمالية كانوا من اليونان والأرمن واليهود.. وثلث سكان بغداد(عام 1908) كانوا من اليهود.. لا أدري كيف تهدر دماؤهم وكيف يحافظون بنفس الوقت على وجودهم عبر آلاف السنين؟ أقول هذا مع رفضي الشخصي لسلطة الأزهر وشنودة وغيرها من المرجعيات الفولكلورية.. لكني أفهم وأقدر مشكلة الكاتب الذي يقصر فهمه للدين على عبارات منتزعة من مدوّنات قروسطية (لابن كثير وابن تيمية، وابن القيّم وأمثالهم) وهي مدوّنات منتهية الصلاحية. والدليل أن الدولة منذ محمّد علي ساهمت في إدخال الحداثة واعتماد مبادئ القانون الفرنسي، وترسيخ قيم المواطنة (بنسبية) وأن معظم كنائس مصر الحديثة شُيدت في عهد الرئيس عبد الناصر.. رغم ما يعانيه المجتمع من غصات وآلام وتشنج طائفي وتزمت.
5ـ بعدها هذه الفقرة يقع الكاتب في تناقض عقلي ملفت، أثناء سرده لآليات التبشير الإسلامي في أفريقيا، ويقدم مشكورا قائمة بأسماء الجمعيات الإسلامية الناشطة في تشاد، وهي دولة إسلامية قح، ويستهجن أسباب هذا التبشير، الذي تمارسه تلك الجمعيات، سيما وأنّ تشاد دخلت الإسلام في بداياته؟ جميل هذا المنطق الذي يقدّم من حيث لا يدري تبرئة لتلك الجمعيات، فهي موجودة في بلد مسلم فأي شيء ستبشّر به؟ لقد فات الدكتور أنّ الجمعيات المذكورة وغيرها تمارس بواسطة البترودولار وَهْبَنَة َالإسلام الأفريقي الصوفي (المهرطق)، الذي لم يتعرف بعد على فقه ابن تيمية وابن عبد الوهاب، ولا أدري لماذا يستغرب ذلك إذا حدث شبيهه في المحروسة نفسها؟
6ـ وكعادته يعود الكاتب لينتقي حديثا من الموروث (من كان عنده فضل ظهر فليجد به على من لا ظهر له). ثم يبني (من الحبة قبة) وبموجبه يطالب مصر (أو حكومة الأزهر الخفية) أن تعطي فضل ظهرها للفقراء والمعوزين؟ اقتراح جيد؟ وحبذا لو أنه يطالب بتوزيع فضل ظهر "ساويروس"وغيره من أصحاب المليارات أو يطالب بمصادرة أموال لاهطي المال وتجار الحديد السياسي ويوزعها على المعوزين.. لكن سؤالي يدور حول انتقائه هذا الحديث بعينه، الذي يكشف مرة أخرى تهافت الطرح، فالمجتمعات والدول لا تسيّرها الأحاديث أو الآيات بل صيرورة ومركبات ومصالح أكثر تعقيدا مما يتصور الدكتور.
7ـ ومع نفاذ واضمحلال طروحاته، يتحفنا الكاتب بروايته عن جمعية ليبية تبشيرية قدمت زهاء 12مليون خلال أربع سنوات مساعدات طبية لدول، ثم يعرفنا مشكورا على فروعها في تنزانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وغانا وبنين وأوغندا. ولو قسمنا تلك الأموال المذكورة على عدد الدول والسنين فإنّ كل دولة تكون قد حصلت بالمتوسّط على مبلغ سنوي قدره 400ألف دولار؟ أستحلفكم بحقّ (هبل) هل تكفي هذه الأموال لدفع إيجار ورواتب موظّفي هذه الجمعية الليبية ناهيك عن الاختلاسات (في الطريق) وصور العقيد والرايات والأعلام وتكاليف احتفالات الفاتح السنوية والموائد التي ستفرش بتلك المناسبات؟ من يصدق أن العقيد يهمّه أسلمة أفريقيا، بعد محاولته مع بوكاسا، الذي اعتنق الإسلام مع دولته أفريقيا الوسطى (لقاء مبلغ من المال) وسمّى نفسه أحمد صلاح الدين بوكاسا، ولما استهلك المبلغ عاد لمسيحيته.
8ـ ختاما واختصارا لمساحة المقال، أسأل نفسي لماذا يفزع مثقف يدّعي العلمانية من مركز طبي إسلامي في أفريقيا وغيرها؟ (سواء كان للتبشير أو للطبابة أو للتجسس) ما المشكلة في ذلك؟ أليس هذا أقل خطرا من التبشير بديمقراطية الإف 16 والفوسفور الأبيض (وقتل ألف صومالي في يوم واحد انتقاما لمقتل طيار أمريكي).
كلنا يعرف أن تنصير أجزاء من أفريقيا حدث خلال قرنين من الحقبة الاستعمارية، وتحت راية الثورة الفرنسية العلمانية وشعارات الحرية والإخاء والمساواة؟ تم هدم الجامع الكبير لمدينة الجزائر، وبناء الكاتدرال على أنقاضه!! آنذاك كان الرهبان يشقون أدغال أفريقيا للكرازة بملكوت السماوات في وقت كان الجنود البلجيك في زائير يجمعون آذان القتلى الأفارقة، ليثبتوا لآمريهم عدم تبذير طلقاتهم في الهواء أو في الصيد واللهو. وفي نفس الوقت كان ذوو الياقات البيضاء ينهبون مناجم الذهب والنحاس ويسلخون بالسياط ظهور عمال مزارع الكاكاو والكاوتشوك. ألا يستفزّنا هذا التاريخ المرعب للقارة المنهوبة؟ أم أنّ هذه (التفاهات) لا تعني أحدا.