البحث في كنه ذات الله
أعظم معجزة لمحمد
لا ريب أن نشأة محمد بن عبدالله المعلومة, وقيامه بأعباء النبوة, وما لقيه فيها من المصائب, وما اقتحم في سبيلها من المتاعب والمشاق, وما آتاه الله من عزم شديد وخلق عظيم وعقل راجح حصيف, وما أوجده بقرآنه وبسيفه من جمع الأشتات المترامية, لهي المعجزة الكبرى التي تتضاءل دونها المعجزات وإن هذه المعجزة على عظمها وجلالها لم تقع إلا وفق ما جرت عليه سنة الله في خلقه, ولولا ذلك لما كانت معجزة , ولما دلت على ما لمحمد من مقام رفيع وفضل عظيم
غير أن الجامدين يعمون عن هذه المعجزة, فلذا تراهم يهيمون في وادي الخرافات يبتغون بها المعجزات الدالة على صدق نبوة محمد وعظم شأنه كانشقاق القمر وتسليم الحجر, وكمجيء الشجرة إليه تشق الأرض شقاً حتى قامت عليه تظله لما نام في الشمس, وكشكوى البعير إليه, وتكليم الحمار إياه, وسجود الغنم له, ونطق الغزالة بالشهادتين , وشهادة الذئب له بالرسالة , إلى غير ذلك من الأمور التي هي مخجلة أكثر مما هي مضحكة (1)
رسول الله
فإن قلتَ: إن خالق الكائنات الأعظم أعظم وأجل من أن يعمد إلى واحد من الناس فيرسله إليهم ليدعوهم إلى الله, فإن هذا لا يليق بالقادر المطلق, ولا يتفق وسنته التي هي قدرته المطلقة, فكيف يكون محمد بهذه المعجزة التي ذكرتها رسول الله ؟ قلتُ: لو كان معنى الرسول هو معناه المتعارف عندنا لكان الأمر كما تقول, ولكنه ليس كذلك إن المتعارف عندنا هو أن أحدنا إذا أرسل رجلاً آخر ليبلغه عنه أمراً أو ليدعوه إلى أمر سمينا ذلك الرجل رسولا ورسول الله ليس بهذا المعنى , ومن ذا الذي يحظر علينا أن تستعمل ما شئنا من الكلمات في غير معانيها الأصلية مجازاً
الله والمكان
قد علمنا مما تقدم أن ذات الله سرمدية أي ليس لها أول ولا آخر, وبعبارة أخرى هي كلية ولا نهائية وإذا كان كذلك صح أن يقال بأن الله حاضر في كل مكان, كما صح أن يقال بأن الله لا في مكان أي منزه عن المكان وليس في هذا تناقض , وإليك بعض الإيضاح
من البديهي أن كلية الذات السرمدية تستلزم كونها في كل مكان في كل آن, وإلا انتفت الكلية إذ لا شك أن خلو بعض الأمكنة منها يستلزم كونها جزئية متناهية وقد قلنا إنها متصفة بالكلية اللانهائية فيلزم وجودها في كل مكان في كل آن , ولا يلزم من كونها في كل مكان أن تكون متحيزة لأن التحيز أي الكون في الحيز إنما هو من شأن الجزئي المحدود فحصوله مع الكلية اللامتناهية مستحيل
هذا بالنظر إلى كلية الله, وأما بالنظر إلى اتصافها باللانهائية فيصح أن يقال بأنها لا في مكان بمعنى أنها منزهة عن أن تكون في مكان دون آخر , وبهذا المعنى يندفع التناقض بين كونها في كل مكان وبين كونها لا في مكان فإن قلت لماذا يصح أن يقال بأن الله لا في مكان إذا كانت ذاته متصفة باللانهائية قلت لأن اللانهائية محيطة بكل شيء الذي في مكان لا يكون إلا متناهياً محاطاً , فمن المستحيل تصور اللانهائية في مكان, أي في مكان دون مكان
وخلاصة القول إن كلية ذات الله تجعله حاضراً في كل مكان وأن لا نهائيته تجعله لا في مكان, أي لا في مكان دون مكان, وإلى كلية الذات السرمدية أشار القرآن بقوله:( وهو معكم أين ما كنتم) (3) , وبقوله:( فأينما تولوا فثم وجه الله) (4) , وإلى كون ذات الله لا نهائية أشار القرآن بقوله:( والله من ورائهم محيط)
رؤية الله
من المسائل التي اختلف فيها علماء الإسلام رؤية الله فمنهم من أثبتها ومنهم من نفاها أما نحن فنقول: مما يترتب على كلية ذات الله ولا نهائيته استحالة رؤية الله لأنها تستلزم إحاطة الجزئي المحدود بالكلي اللانهائي وذلك محال, فإن المرئي مهما كبر وعظم لا يكون إلا محدوداً متناهياً, وإن مدى النظر مهما اتسع فهو جزئي محدود ويستحيل عقلاُ إحاطة الجزئي المحدود بكلي غير متناه 0 والمرئي لا يكون إلا متناهياً 0 وإلى استحالة رؤية الله أشار القرآن بقوله:( لا تدركه الأبصار) (1) , وبقوله :( لن تراني) (2) وأما ما ورد في بعض الأحاديث النبوية المثبتة لرؤية الله فينبغي أن يجزم بعدم صحته لمخالفته للقرآن وللمعقول معا0 وإذا قلنا بصحته فرضاً حملناه على أن المراد به غير الرؤية الحقيقية بل ما يترتب عليها من السرور والابتهاج فتكون من المجاز, أو قلنا أن محمداً في بعض الأحيان كان يكلم الناس على قدر عقولهم
عرش الله وكرسيه
فمن بحثنا هذا في الوجود الكلي المطلق اللانهائي يتجلى لنا بكل وضوح أن الكلية هي عرش الله الذي جاء ذكره في القرآن في قوله:( الرحمن على العرش استوى) (3) , إذ لا يسعه شيء سوى الكلية اللانهائية, وأما اللانهائية فهي كرسيه الذي ذكره في قوله:( وسع كرسيه السموات والأرض)
بقي هنا شيء لا بد من ذكره, وهو أنه قد يقال : إن البحث في كنه ذات الله إشراك فنقول: إن بحثنا هذا ليس بحثاً في كنه ذات الله, فإن العقول والأفكار أقل وأحقر من أن تدرك كنه الذات السرمدية, وإنما نحن في كلامنا هذا نحوم حول معرفة الله فلا نرى في أبعاد اللانهاية سوى لألاء نور سرمدي نلحظه من طرف كل الخفاء , على أن هذا اللألاء تقصر عن بيانه كل العبارات وقد قلت:
في النفس ما أعيا العبارة كشفه وقصر عن تبيانه النظم والنثر
ويا رب معنى دق حتى تخاوصت إليه من الألفاظ أعينها الخزر
رجوع إلى أول البحث
قلنا في أول بحثنا هذا تحت عنوان" هل لمحمد معجزات" : إن القرآن صريح في أن محمداً لم يأت بمعجزة سوى القرآن, وأن كتب القوم تذكر له معجزات كثيرة , فأيهما الصحيح وبأيهما تأخذ وعلى أيهما في العقيدة نعتمد
أن الجواب على هذا السؤال سهل بسيط لا يحتاج إلى النظر وتفكير , فإن القرآن هو العمدة الكبرى والمرجع الأعلى لنا في عقائدنا وسائر أمورنا الدينية فلا نأخذ إلا به ولا نعتمد إلا عليه ونترك ما يرويه لنا الرواة من الأحاديث المخالفة له فنبذها نبذ النواة
ذلك لأن القرآن وصل إلينا بطريق التواتر لأنه كان في عهد رسول الله يكتب ويثبت في الرقاع ويحفظ في الصدور ويتلى في الصلاة وفي خارج الصلاة, وقد جمعه في الصحف الخليفة الأول بعد وفاة رسول الله, ودوّنه في المصاحف الخليفة الثالث بمحضر من أصحاب رسول الله, فوصلت إلينا تلك المصاحف كما هي من دون أن يقع فيها تبديل أو تحريف
فالقرآن بالنظر إلى هذا قطعي الورود وإن كان ظني الدلالة فكيف نتركه ونأخذ بما يذكره لنا الرواة من أحاديث أسانيدها مختلة, ورواتها معتلة, وكلها أخبار آحاد ولم تدوّن في الكتب إلا بعد مضي قرن وربع قرن عليها بعد وفاة رسول الله, فبقيت طول هذه المدة تلوكها الألسن وتمضغها الأفواه متنقلة من فم أبله إلى فم ألثغ إلى فم ألكن إلى فم أبخر إلى فم كاذب مختل إلى فم مدلس دساس, ثم هي بعدما تداولتها هذه الأفواه أكثر من قرن , دونّت في الكتب فتلقاها الجامدون بالقبول وأخذوا يسطرونها في كتبهم غير ملتفتين إلى ما فيها من أباطيل تصادم العقل الرزين وتخالف الكتاب المبين, حتى صيرونا بذكرها في كتبهم ضحكة للعالمين
نحن لا ننكر أن القرآن قد أسقط منه بعض الشيء عند إثباته في المصاحف في عهد الخليفة الثالث , إلا أن ذلك شيء ضئيل , وإن الذي وصل إلينا منه صحيح لا مرية فيه وليس كذلك الأحاديث التي نقلها إلينا أناس من الرواة قد أخذت بهم الأهواء كل مأخذ ولعبت بهم السياسة شتى الألاعيب وكان أكثر هؤلاء الرواة من الأمم المغلوبة من الذين دخلوا في الإسلام قهراً, أو من الذين استرقهم العرب الفاتحون بالأسر فكانوا هم ومن تناسل منهم من الموالي , فعاشوا في ولاء العرب موتورين تغلي في صدروهم الضغائن والأحقاد, كالحصين بن سلام اليهودي الذي تسمى بعبد الله بن سلام, وكعب الأحبار, وابن سبأ اليهوديين, وكمحمد بن إسحاق, وابن سيرين من الموالي الذين يمتون بأنسابهم إلى الفرس, وكعطاء الخرساني , ومغلطاني, وابن منده, والجوزقاني, والبيهقي وغيرهم وغيرهم
زد على ذلك أن من عني من الحفاظ بجمع هذه الأحاديث وتدوينها لم يسلكوا في تصحيحها وتمحيصها طرقاً علمية, وإنما اعتمدوا في ذلك على ما ظهر لهم من أحوال الرواة فاغتروا بظاهرهم, فلذا تراهم في الأكثر يشيدون بصحة بعض الأحاديث لمجرد أن رواتها ثقات وإن خالفت القرآن وصادمت المعقول , كما ينكرون بعضها لمجرد أن في رواته من هو مطعون فيه, وإن كان الحديث الذي رواه مما يؤيده القرآن ويعضده المعقول وخلاصة القول إن حفاظ الحديث كانوا في طريق جمعها وتدوينها ينظرون إلى من قال لا إلى ما قال
(1)سورة العنكبوت , الآية: 50- (2) سورة الإسراء, الآيات : 90- 93- (3) سورة الإسراء, الآية: 93 (4) سورة الإسراء, الآية: 59- (5) سورة القصص, الآية: 48 –(1) سورة القصص, الآية: 48 – (2) سورة يونس , الآية: 20 – (3) سورة النمل , الآية: 65 –(4) سورة الأنعام , الآية: 50 – (5) سورة الأعراف, الآية: 188- (1) انظر السيرة الحلبية , 3/ 278- 296 (2) سورة الأحزاب , الآية: 62 ؛ وسورة الفتح , الآية: 23- (3) سورة فاطر , الآية: 43- (1) سورة الأعراف, الآية: 158- (2) سورة الحديد , الآية: 3- (1) سورة الأنفال, الآية: 17 – (2) سورة الفتح , الآية: 10 – (3) سورة الحديد, الآية: 4 – (4) سورة البقرة , الآية: 115- (5) سورة البروج , الآية : 20 – (1) سورة الأنعام , الآية: 103- (2) سورة الأعراف , الآية: 143-(3) سورة طه, الآية: 5-(4) سورة البقرة, الآية: 255 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب معروف الرصافي
|