المحترم / بهجت
المحترم / جقل
أصدقكما القول - حاولت ترتيب أفكاري لكني فشلت في إختيار الأولويات. و من أين أبدأ و لأين أسترسل نظرا لضخامة طرح العزيز بهجت و تنوعه.
و من ثم فقد قررت أن أسترسل بالأفكار بدون ترتيب و أرجو أن يكون هذا مناسبا.
(f)(f)
البساطة و التعقيد في الكون - النماذج الإسترشادية في العلوم (Paradigms).
و قد يكون من الأنسب أن نبدأ بالمصطلحات.
بداية فمفهوم البساطة في العلوم - أو على الأصح في مباحث المعرفة - هو مفهوم قد يكون مراوغا لحد كبير.
Arrayهذا العرض "المبسط" يبين أن البساطة كانت معيار الرواج , و البساطة هنا تعني القدرة على التفسير مع توفر أداة رياضية تجعل النظرية أكثر وضوحا و قبولا , و يمكنك أن تعتبر أن ما يعبر عنه ببساطة بسيط اصلا . أو حتى من غير المهم أن نعرف طبيعته أن كان فهمة متيسرا. و أريد أن افرق هنا بين التعقيد و الكثرة , فهما مفهومان مختلفات تماما حيث يعني التعقيد التوقف عن الفهم للوقوع في التناقض أو في المخالفة لمبدا اولي أو مسلمه , أما الكثرة كتعدد المجرات و الأنظمة الشمسية أو تنوع الكائنات الحية او تمايز أجهزة جسم الإنسان فهي تكرار لذات الشيء مرات عديدة, فالكثرة ليست تعقيدا طالما يمكن ردها الى ذات المبدا أو التعبير عنها بذات الطريقه.
الميل الى التبسيط نزعه إنسانية لذلك وجد نصل أوكام ليجتث كل ما هو زائد للإقصاد بالفكر الى الحد الأدنى ,و لاحظ المنطق كيف يرد الى ثلاثة قوانين ناصعة الوضوح ,و يلحظ أن شرط الإقتصار على أقل قدر ممكن من الأوليات في اي نسق فكري أو رياضي ضروري لنجاح ذلك النسق , و أعظم محاولة للتبسيط في تاريخ الفكر الإنساني محاولة رسل في رد الرياضيات كلها الى المنطق و قد نجح في ذلك الى حد بعيد و بذلك يصبح القانون التالي الذي يبدو تافها "أ هي أ" اساس كل تفكير و مبدأ كل فهم.[/quote]
Arrayبداية أحب أن أقول أن هناك فرق بين أن نرى العالم بسيطا لأننا لا نستطيع إدراك سوى الأشياء البسيطة و بين أن يكون العالم بسيطا في ذاته ، بالرغم أني أيضا سأتفهم من يرى المقولتين متطابقتين ، فلا وجود الكون خارج ما يمكن أن ندركه ، فأن تكون هناك تعقيدات في الكون بينما هناك استحالة عملية أو منطقية في إداركها تعني ببساطة أنها ستبقى دائما غير موجودة بالنسبة لنا وهو نفس الشيء لو قلنا غير موجودة إطلاقا ، فما لا يدرك غير موجود ، و لكن هذه القضية البسيطة لن تبقى كذلك لو توغلنا خلالها .
إننا في الحقيقة لا ندرك الكون كما هو ، بل نحن نقرأه بمفرداتنا الإدراكية التي هي إمتداد للحواس ، إننا في هذا أشبه بمن يريد ترجمة قصيدة لشيكسبير إلى لغة لا يحتوى قاموسها سوى عشر كلمات ، كي نفهم الكون نحن نعيد بناءه خلال نماذج هندسية أو فيزيائية مستخدمين الأشكال التي تكونت في عقولنا نتيجة تجريد الصور التي نراها ،و تلك كلها عمليات عقلية إدراكية ، إن العقل البشري يدرك الكون خلال ميكانيزم بالغ التعقيد ، فهناك أشياء غير موجودة ماديا مثل الزمان و المكان افترضهما العقل البشري ليمكنه بناء صورة مترابطة للكون ، وهناك الآن من يقترح وبشكل مبرر تماما 10-11 بعدا بدلا عن الأبعاد الأربع لتكوين نموذج أكثر قدرة على التفسير ، ببساطة هذا يعني أن العقل البشري و كي يفهم العالم المادي يفعل ذلك خلال نماذج مفترضة كلية ، فالعقل لا يدرك المادة بل يصنع الصور كل الوقت .
إن ما نفعله لإدراك الكون ومن ثم التعامل معه هو بناء نماذج إرشادية ( باراديم ) تزداد تعقيدا و تنوعا -و ليس بساطة – كي تلائم حاجاتنا العملية التي تزداد أيضا تعقيدا ، و هكذا فالتطور الإنساني هو في صميمه تطور البراديم ، خلال العمر الواعي للإنسان كانت هناك نماذج ثابتة نسبيا تفسر الكون ، هذه النماذج توالت بوتائر بطيئة للغاية و لكنها تسارعت مع نمو المعرفة ثم انفجرت في العصر الحديث لتكون نماذجا متنوعة و مختلفة الطبيعة كل منها يتطور بسرعة و كثيرا ما يكون ذلك بشكل ثوري ، لم يكن التبسيط هو الذي أفرز النماذج الأحدث بل عدم قدرة النماذج الأقدم على تفسير الظواهر التي دخلت في مجال الوعي البشري ، إن النموذج يبقى سائدا طالما أثبتت التجربة صحة مستتبعاته المنطقية CONSEQUENCES ،و عندما يفشل في ذلك سيكون ذلك إيذانا برحيله ،و دائما يكون النموذج الأحدث أكثر تعقيدا ، أما أن تكون هناك محاولات لصياغة النموذج في مدركات عقلية عن طريق تجريدات المنطق الرياضي أو الفيزيائي فذلك أيضا منطقي في ضوء المقدمة ، مالا يدرك غير موجود ، إن تعدد البراديم مع التعاصر( أكثر من براديم في نفس الزمن الطبيعي ) يعني أننا في سبيلنا ليكون لدينا عوالم مختلفة ( أطر معرفية ) بينها قطيعة ابستمولوجية و لكل منها زمانه النسبي ، و هكذا سيصبح الإنتماء البيولوجي للجنس البشري لا يعني شيئا ذا بال ، و ما سيعول عليه حقيقة هو الإطار المعرفي أو بعيارة أخرى البراديم السائد .[/quote]
بداية و كما أسلف الزميل المحترم / جقل يجب أن نفرق بين البساطة من حيث هي سهولة الفهم - نسبة للعقل البشري - و بين مفهوم البساطة من حيث هي نقيض للكثرة أو التنوع أو التداخل. إلا أنه و مع إختلاف المفهومين يبقى إشتراكهما في أن أيا منهما هو مفهوم نسبي و لا يستقيم بذاته.
فالجملة "بساطة فهم قضية ما" لا يمكن إستيعابها إلا مقارنة بأخرى مع تثبيت عامل للمقارنة مثل الزمن اللازم للفهم أو المجهود المبذول في ذلك و تغيير عوامل أخرى مثل الإنسان الذي يفهم تلك القضية و درجة تعليمه أو جنسه أو سنه .. إلخ.
و كذلك بساطة أو تعقيد قضية ما من حيث كثرة / تعدد / تنوع / تداخل العوامل التي تتحكم فيها و بنتائجها تباعا - هي أيضا و كما سبق تحمل ذات النسبية حيث تقارن الكثرة بالقلة و هكذا.
و يقع هذا التشابه بين المفهومين حيث كلاهما ذاتي مرتبط بالمتلقي (الإنسان) و ليس موضوعي أي ليس صفة في الأشياء بذاتها. اللهم إلا إذا تم معايرتها (Standardization) و هذا مالم يحدث.
فنحن حين نقرر أن طول الشئ 10 سم طولي فهذه الصفة موضوعية لا لشئ إلا لأنها سبق و أن تم معايرتها و وضع قواعد للقياس بها - و تباعا يمكن لأي متشكك أن يحمل آداة قياس معايرة و يقيس بها هذا الشئ الخارجي.
لكن تبقى الجملة "قوانين الحركة لنيوتن معقدة" خارج الموضوعية و خارج الأشياء بذاتها لعدم وجود وحدات قياس معايرة لتلك الصفة - بل و لعدم الحاجة لوجود تلك الوحدات أصلا - فهي قد تكون صحيحة نسبة لتفاسير ميتافيزيقية عن الحركة و قد تكون جد خاطئة قياسا مع نظرية النسبية مثلا - ناهيك عن درجة علم المتلقي و نوعية دراسته و .. إلخ.
فنحن لكي نطلق على أية صفة أنها موضوعية أو أنها للأشياء في ذاتها لابد أن تملك تلك الصفة أدوات قياس معايرة و
مشتركة - Inter subjective بين البشر على إختلافهم.
و على هذا الأساس فبينما أتفق مع المحترم / جقل فيما تفضل و شرح الفرق بين مفهومي البساطة و كذلك في كون البساطة قد تكون من معايير رواج نظرية ما إلا أنها لم تكن لا دافعا أو شرطا لتكون تلك النظرية و أبدا لم تكن معيارا للحكم عليها.
و كما أسلف الزميل المحترم / بهجت فالنظرية هي إعادة بناء الواقع بإستخدام نماذج صورية / أطر / تجريد عقلي أو ما يمكن تسميته بالتكميم الفكري للظواهر الطبيعية.
و أيضا فمعيار الحكم على تلك النظريات يأتي مع العودة لذات الطبيعة بواسطة تجربة صحة نتائجه و هذا بغض النظر عن بساطة النظرية من تعقيدها.
لكن ما بين تلك المرحلتين (الملاحظة و التجربة) و قبيل تكون تلك الأطر الصورية يأتي دور ما نصطلح على تسميته بالميل للبساطة لدى الإنسان.
فبينما قد تقبل ذات الظواهر الطبيعية إستخدام أكثر من إطار / نموذج لتفسيرها و التعامل معها إلا أنه يتم إعتماد الأسهل أو الأبسط دائما. و الأبسط هاهنا نسبيا بين النموذج المعتمد و النماذج الأخرى التي تم إهمالها و ليس له علاقة للظواهر في ذاتها.
و هذا الميل للأبسط هو ميل عقلي غريزي و هو لا يعني بحال صحة النموذج الذي تم إعتماده أو فساد باقي النماذج.
إذ أنه حال ظهور ما يستدعي سقوط نموذج ما لصالح آخر (كما النسبية و قوانين نيوتن) لا يشفع للقديم أنه أكثر بساطة. فالمعيار هنا هو التجربة.
و يمكن هنا الإستعانة بالمثال الكلاسيكي لتوضيح مفهوم البساطة في حركة الأجرام السماوية - فإنه من الأبسط إفتراض دوران الأرض حول نفسها كنموذج بدلا من إفتراض دوران كافة الأجرام السماوية حول الأرض.
و في مثال آخر فعند إكتشاف دوران الكواكب حول الشمس تم آليا إفتراض الشكل الدائري (الأبسط) - لكن هذا لم يمنع من سقوط هذا الفرض لصالح شكل الإليبس الأكثر تعقيدا لأنه الأكثر صحة.
و إذ يشترك كلا من مفهومي البساطة (السهولة في مقابل صعوبة الفهم / القلة و النمطية في مقابل الكثرة و التنوع و التداخل) في كونهما مفاهيم ذاتية غير موضوعية لا تستقيم في ذاتها و لا توصف بها الأشياء في ذاتها إلا أنها تختلف في دورها و مكانها على قطار التقدم المعرفي.
فبينما المفهوم الأول للبساطة (السهولة في مقابل صعوبة الفهم) يأتي دوره لحظة إختيار نموذج / إطار لتفسير ظواهر طبيعية ما من عدة نماذج قد تكون متاحة - فإن المفهوم الثاني للبساطة (القلة و النمطية في مقابل الكثرة و التنوع و التداخل) قد ظهر لأسباب مخالفة.
و يمكننا القول أن هذا المفهوم هو رد فعل لحالة إحباط في الوعي الجمعي الذي توقع بعد فورتي قوانين نيوتن ثم النسبية - توقع و بشكل عاجل نظرية كل شئ.
فبينما بعد نظريات نيوتن و الإعتقاد الجمعي الخاطئ - نتيجة آفة التعميم في العقل البشري - توقعت البشرية أن يتم تفسير كل شئ بواسطة تلك القوانين و حتى المتعلق بالمباحث الإجتماعية - و هذا بإستخدام مداخل Approaches خاطئة و غير علمية لدراسة تلك المباحث. و يمكن الرجوع للفلسفات المادية لتفاصيل تلك المداخل الخاطئة.
و ما حدث هناك هو عملية عكسية للمدخل العلمي - فبينما في التطور السليم لخلق نظرية علمية قويمة - يتم إفتراض النموذج النظري / الإطار الصوري الذي يفسر ظواهر طبيعية ما تمت ملاحظتها - فإن العكس قد حدث في تعميم تلك النماذج.
فبعد أن تم إعتماد و إنتشار تلك النماذج حال نجاحها في تفسير ظواهرها الطبيعية التي إفترضت لأجلها (مثلا قوانين نيوتن لتفسير حركة المقذوفات الحرة .. إلخ) تمت حركة عكسية بدءا من فرض تلك النماذج أولا ثم تعميمها قسرا على ظواهر ما في مجال ما في طريق معاكس للمدخل العلمي.
لكن و لحسن الحظ - فالعلوم تخلق طريقها بغض النظر عن إفتراضات البشر - فطريق التقدم العلمي ذاتي و لا يتم شقه بالتخطيط. فإكتشاف علمي واحد قد يفتح الطريق لألف سؤال جديد في مباحث جد مختلفة - و قد يساعد في بناء تقنية جديدة نتمكن بها من إستشعار ظواهر جديدة لم نكن نحلم بها و هكذا دواليك.
و لكن بينما إنهارت تلك الفلسفات أو النظرات العامة التي تمسحت بنماذج علمية - و قد إنهارت بواسطة العلوم أيضا كمثال النسبية و دورها في إنهاء الفلسفات المادية الميكانيكية بإنهاء النموذج الفيزيقي لها أصلا و هذا جنبا لجنب مع عمل العلوم الإجتماعية الأخرى و التي إنتحت منحا علميا - ظلت البشرية تحلم بنظرية كل شئ على الأقل في مجال الفيزياء. و بوجه خاص بعد ظهور النسبية العامة لألبرت آينشتين و إمكانها إحتواء كلا من نظريات نيوتن و ما لم تستطع نظريات نيوتن تفسيره - كل هذا في إطار واحد بل و قانون واحد عبقري.
لكن و كما سبق و أسلفنا فالطريق العلمي غير مدفوع بالأمنيات - فالعلوم تحدد طريقها المجهول دائما سلفا.
فالنسبية تقف عاجزة في حالات تفترض هي أنها تتعطل عندها قوانين الفيزياء المعروفة عن العمل - كما لا تستطيع تفسير ظواهر الجسيمات الدقيقة بنفس قوانين تفسير ظواهر الأجرام الكونية الكبيرة. و هو مدخل فيزياء و ميكانيكا الكم.
لكن هل معنى ذلك أن كلا المبحثين بنماذجهما يمثلان إطرا منعزلة و عوالم مختلفة لا يوجد ما يجمعها؟ و هل يوجد ما يمنع من نظرية جديدة تحتويهما معا كما إحتوت النسبية قوانين نيوتن؟ أي هل يوجد ما يمنع من تكامل تلك النماذج بل و تكامل معظم أو كل العلوم كل في نهاية طريقه الخاص؟
بل و عودة للخلف هل يعني ذلك أنه بمجرد ظهور نظرية النسبية فقد ظهر خطأ و تكذيب نظرية نيوتن للحركة و أنها لم
تعد نهائيا قابلة للتطبيق؟ و أنه لا يوجد ما هو مشترك بين النظرتان للحركة؟
و بصيغة أخرى هل بظهور النسبية أكتشفنا كون قوانين نيوتن لم
تكن قابلة للتطبيق أم أنه بظهورها ظلت قوانين نيوتن قابلة للتطبيق في حدود ما و فسرت النسبية ما بعد تلك الحدود؟
فنحن لو آمنا أن قوانين الحركة لنيوتن لم تعد صالحة للتطبيق بعد النسبية - فهي لم تكن أبدا صالحة للتطبيق قبلها. و معنى ذلك أن الذي تغير بعد النسبية هو العالم الخارجي ذاته و ليس فهمنا له - حيث أن التجربة قد أثبتت صحة قوانين نيوتن قبل النسبية!
أم أنه هو ذات العالم و نظرية نيوتن مازالت صالحة و هذا في إطار فروضها الظاهرة و المستترة و هي غير صالحة خارج تلك الفروض؟
إن العالم الخارجي مازال هو ذاته مشتركا بين البشر - و المعايير و المقاييس الموضوعية مازالت هي هي - مشتركة بين البشر - و تباعا فالتجربة و قياس النتائج على ذلك العالم بواسطة تلك المعايير هو أيضا مشترك بين البشر و لن يستطيع أي إطار / نموذج أن يغير من ذلك - فتلك المشتركات أو المعرفة ممكنة النقل Inter subjective هي التي تخلق الأطر ثم تحكم عليها لتستمر أو لتفنى لصالح أخرى أكثر صحة و ليس العكس - فالعالم بمشتركاته (وجوده و معاييره و إمكان تجريبه) لا يتغير تبعا للنماذج.
Array إن تعدد البراديم مع التعاصر( أكثر من براديم في نفس الزمن الطبيعي ) يعني أننا في سبيلنا ليكون لدينا عوالم مختلفة ( أطر معرفية ) بينها قطيعة ابستمولوجية و لكل منها زمانه النسبي ، و هكذا سيصبح الإنتماء البيولوجي للجنس البشري لا يعني شيئا ذا بال ، و ما سيعول عليه حقيقة هو الإطار المعرفي أو بعيارة أخرى البراديم السائد[/quote]
سأختلف نهائيا مع الزميل المحترم / بهجت في هذا الطرح بالمداخلة القادمة.
لكما مني كل إحترام و تقدير ...