"الجهاد" كأعلى مراحل الفكر القومي.
بشارة شربل
فرغت جعبة النظام السوري. وصفُ الثوار بـ "الارهابيين" والعصابات المسلحة لم يجدِ نفعاً. ووصمُ الحراك الشعبي بالتطرف والأصولية لم ينجز ما أريد منه.
قبل ذلك، وحين بدأت الثورة السلمية، قال النظام ان المتظاهرين يتقاضون أجراً في مقابل النزول إلى الشارع، من غير أن يوضح الثمن الحقيقي لتلقي رصاصات القمع، أو يفصح عن سعر ساعة التعذيب.
اللعبة صارت مكشوفة على عتبة دخول الثورة عامها الثالث. وحرب النظام التي أعلنها "لاستعادة النظام" تحولت إلى حرب مواقع وكر وفر مع "الجيش الحر" والمنظمات المسلحة. وبدل أن يتمكن النظام، حسب منطق الأنظمة، من استعادة السيطرة على المناطق التي فقدها، بات يباهي بالصمود سنتين في وجه محاولات زعزعته، وبما يسميه إفشال المؤامرة لاسقاطه.
في ذكرى تأسيس البعث التي مرت في الثامن من آذار بدا قاموس الحزب مضمحلاً الى درجة لم يستطع معها النظام تنظيم احتفال خطابي ولا اطلاق العنان لكل اللغة القومية التي استباحت العقل العربي أكثر من نصف قرن وتمكن مستخدموها من استباحة دول وشعوب متكئين على مفرادتها المنمقة والتراكيب المفرغة من المضمون.
وفي إطلالة العام الثالث على "صمود النظام" في وجه معارضيه، تقلص هذا القاموس الى حده الأدنى. فلا عاد موضوع "مواجهة العدو الصهيوني" شعاراً جاذباً لشعب تطحنه آلة القتل، ويقتتل بعدما تفتت النسيج الوطني، ولا عاد شعار العروبة والتصدي لمؤامرة الخارج على الداخل بضاعة قابلة للبيع. وإذ لم يلق العزف على "الوطنية السورية" آذاناً صاغية، تم تجريب تخويف الأقليات من التكفيريين.
فشل النظام عموماً في تحويل مسار الثورة السورية رغم أنه حقق "إنجازات" مؤقتة. فاستطاع على سبيل المثال دفع الحراك الشعبي السلمي الى العسكرة بعدما أنهكه بقتل الصدور العارية، وتمكن من استثارة مخاوف الأقليات لتقاتل من أجله، واستمر ممسكاً بألوية متماسكة من الجيش، وبقي قادراً على دفع الأموال لتستمر آلته الحربية في القتال، ناهيك عن الدعم الإيراني غير المحدود بالمال والخبرات ورجال "حزب الله"، إضافة الى العناد الروسي الشديد في مواجهة أي قرار دولي يطيح رأس النظام.
كل ذلك أطال عمر الأزمة. لكن النظام خسر ميدانياً مناطق واسعة وبات يدافع عن نفسه بالسكود والطيران الحربي وسياسة الأرض المحروقة، فحوَّل سوريا الى ملعب للقوى الاقليمية والدولية وتحول هو نفسه إلى أداة، وهو سيتحول إلى عبء على من سانده في الداخل والخارج على السواء... صحيح أنه يتحدث عن خلافات المعارضة وإشكالية علاقتها بالمقاتلين المتطرفين الذين تسربوا إلى الثورة، وصعوبة علاقتها بواشنطن والأسئلة عن مستقبل سورية،
لكن المأزق الحقيقي يعانيه النظام الذي يدخل على مرحلة جديدة من الثورة مستنفداً أعلى درجات العنف المسموح لترسانته وأقصى مواقف التضامن الروسي الإيراني. ولأجل ذلك ربما لم يجد أمامه لتدشين عامه الثالث من حربه ضد شعبه إلا دفع مفتيه إلى "إعلان الجهاد"، باعتباره "آخر الدواء" وأعلى مراحل الفكر القومي.