من ذاكرة معتقل سابق
من ذاكرة معتقل سابق 8
محمود جلبوط
mahmud_jalboot@yahoo.de
الحوار المتمدن - العدد: 1078 - 2005 / 1 / 14
السّجن الحقيقي
عندما كان الأقارب و المعارف تأتي لتهنئتي بمناسبة الإفراج عني , وبعد الإنتهاء من تهنئتي لتخرجي من السجن بالسلامة تبادرني بالسؤال
المكرر" عذبوك هناك في السجن؟ كيف إحكيلنا" وصرت كلما ألتقيت مع أحدهم ويعلم بأنني كنت في السجن ,يبادرني أيضا بنفس السؤال, حتى عندما
هربت إلى أوربا وصدف و قابلت أحدهم و علم بأنني خريج حبوس , نفس السؤال, لدرجة أنني كرهت هذا السؤال, لأنني أتصور أن هذا السؤال
يختزل معاناة السجن إلى مجرد ضرب وتحمل آلام الضرب, أو مجرد آلام مادية وآثار تعذيب جسدي تزول بعد فترة تطول أو تقصر من إيقاف
التعذيب, وما أسرع اندمال الجروح الجسدية, وأسهل نسيان عد الضرات أو كمية الفولطات الكهربائية ما دام السجين قد نفذ وبقي حيا.
ليس السجن المتبقي فينا تلك الجد ران الرطبة التي سرقت سنوات الشباب, وليس بالتأكيد شخصيّة الجّلاّ د, فهي ضحيّة النموذج السائد من علا قات
البنية السّائدة, وليس طبعاّ حفلات التّعذ يب إن كانت التي للتحقيق لانتزاع الإعترافات,أم تلك المخصصة للإستقبال في مراكز التوقيف, إنّما هذا
الإحساس الدّا ئم بالغربة ولاّ إنتماء المكنون نحو المحيط , هو الحنين الدّ ائم للماضي الذّ ي كان, للعائلة التي دمروها, للمرأة التي أحببت و الزهرات
التي أنجبت فصار اللقاء معهم مستحيل. السجن الحقيقي هو الإشتياق اللا محدود للإنعتاق, هو الإحساس المستمر بأنّك مراقب, هو تلك الحمّى
الّتي تطوّف بك من مكان إلى آخر, هو عجزك عن النوم الهاديء بسبب رموز مناماتك التي لا تنقطع, هو إحساسك بأنّه قد فاتك الكثير بالمقارنة مع
الآخرين الذين لم يدخلوا السجن وأنّك لن تستطيع اللّحاق بهم بسبب السّنوات الطويلة المهدورة خلف الجد ران بلا عمل ولا مشاريع.
إنه الإعاقة الصحيّة المستد يمة التي لا تمكّنك من القيام بواجب العمل المتنوّع والكامل لتستطيع النّهوض بمستلزماتك ومستلزمات عائلتك.
الألم الحقيقي هو إحساسك بأنّك تقف على حافّة جرف و ستأتي يد أبو العز لتد فعك إلى الهاوية, إحساسك بأنّك مطارد من أحدهم وأنّه ينصت إلى كلّ
ما تقول, بأنّ الظّلام سيسقط ويتكاثف إلى حدّ اللا رؤية بالرّغم من سطوع النّهار. إحساسك الدّ ائم بالعطش فتمدّ يد ك لكوب الماء لتتجرّعه فتحسّ
بالشرد قان , إحساسك الأزليّ أنّ يداَ تطبق على رقبتك حتى الإختناق. إحساسك بأنّ فرحك ناقص, إبتسامتك ناقصة, وعندما تضحك تشعر بعد ها
بالإنقباض, إحساسك بأنّك عصفور ترفرف تكره الأماكن المغلقة وتريد أن تبقى طليقا. الألم الحقيقي شهوتك الدائمة للصّراخ, للبكاء, وأنّ هناك قوّة
دائماَ تشدّ ك إلى الأسفل.
|