كان صباح دمشق الشام يوم الثلاثاء في 26 آذار 2013 هادئا" بشكل غير معتاد بعد يومين كان الأخير منهما حافلا" بالقصف الشديد ،حيث كانت أصوات المدافع والراجمات تصم الأذان في كل أنحاء العاصمة .. وكان هذا الهدوء يبعث على القلق والخوف من حصول أمر مفاجىء ..وشعور من الحزن العظيم ينتابنا عندما نفكر فجأة بالأرواح التي تذهب والحيوات التي تنتهي والعيون التي تغمض إلى الأبد من أبناء سوريا ، في الوقت التي يستمر بعض المعتوهين والمجرمين من أزلام وشبيحة الوحش بتنفيذ مجازرهم لأجل معتوه يريد الإستمرار بإستعباد شعب خرج من سجنه ويرفض العودة إليه مهما كانت التضحيات ..
وقت الظهيرة وبينما كنت جالسا" مع أحد أصدقائي في مكتبه الكائن في منطقة البرامكة، وبعد إنتهاء رفع أذان الظهر بدقائق قليلة سمعنا صوت إنفجار هز الحي تبعه بعد ثانيتين أواقل إنفجارٌ أخر ، لقد كانت قذيفة هاون إنطلقت من مكان قريب وسقطت في مكان قريب أيضا" !!..هذا الأمر جعلنا نشعر بأننا تحت القصف ، وتلاذلك سماع عدة إنفجارات أخرى ، لقد كانت قذائف الهاون تتساقط على المنطقة السكنية ،وعندما نظرنا من النافذة نستطلع مكان تساقط القذائف رأينا تصاعد عمود طويل من الدخان المغبر في السماء تلاه عمود أخر إنما كان أسود كالأفعى وهو يتسلق إلى الأعلى ..وعمود أخر .. وأخر ..
نزلت بعد فترة قصيرة إلى الشارع وإتجهت إلى أقرب مكان تعرض للقصف ، والذي يحوي عددا" من المدارس ،وقريبا" جدا" من المكان إنطلقت رشقات الرصاص، رافقتها أصوات بشرية .. رجال ونساء يجرون في الشوارع أغلبهم بثياب الراحة وبعضهم يعدو حافيا" ، وبعد فترة سمعت صرخات تلميذات المدرسة القريبة اللواتي كن يرتعدن من الخوف وهن خارجات من مدرستهن ويحاولن العودة إلى بيوتهن .. وفي أحد الشوارع الجانبيه كان هناك عدد من السيارات تحترق بينما أهالي الحي يحاولون إطفائها بما
يتيسر لهم من الماء غير المجدي قبل أن تصل سيارات الإطفاء ،بينما يخرجون من إحدى المدارس التلاميذ المصابين بحالة من الرعب .
لقد كانت النتيجة سقوط قذيفة على مدرسة ابتدائية مقابل مدخل مدينة تشرين الرياضية وإصابات في صفوف الأطفال وأنباء عن استشهاد بعض التلميذات وسقوط قذيفتين عند نقابة المعلمين في البختيار مما أدى لعدد من الإصابات واحتراق عدد من السيارات وسقوط قذيفة بالقرب من صيدلية في الشارع المؤدي لدوار كفرسوسة نتج عنها عدد من الإصابات الخطيرة ، فيما سقطت قذيفة بالقرب من كلية الفنون الجميلة وقذيفة أخرى بالقرب من وكالة سانا .
لقد تركزت ضربات الهاون الأخيرة على منطقة البرامكة في مرتين متتاليتين وهي مركز المدينة وأكثرها ازدحاماً، ومنطلق إلى كافة أنحاءه ،وفي المرتين إتهم النظام الجيش الحر بإستهدافها، وفي المرتين نفى الأخير علاقته بالأمر ..وأنه فقط يستهدف المراكز الأمنية في كفر سوسة وساحة الأمويين ولا يستهدف تجمعات المواطنين، وجاء القصف الأخير على مقصف كلية هندسة العمارة بمثابة مؤشر على استهداف مكان بعينه لغاية واضحة.
الغريب في الأمر أن المربعات الأمنية القريبة من منطقة البرامكة واضحة للعيان ومن المستحيل أن تخطؤها القذائف الموجهة إليها بهذا الشكل وبهذه المسافة ..فالمربع الأمني الأقرب والذي يضم مباني أمن الدولة ومعه جريدة الثورة ومجمع شرطة النجدة ومجمع محافظة دمشق وغيرها من التجمعات والمباني الحكومية التي تمتلىء بعناصر الأمن والشبيحة وأزلام نظام الوحش ،وتنطلق منها قذائف الهاون والراجمات بإتجاه الأحياء الجنوبية ، وتحرج منها الدبابات وقطعان الذئاب لتدمر وتقتل.. يتوضع على مساحة كبيرة لا يمكن لمن يريد قصفه أن يخطأه بهذا الشكل وعدة مرات !! ...
خلال الثورة السورية على المستعمرين الفرنسيين قال أحد القادة الفرنسيين
( إن طريقة إخضاع دمشق هي بسيطة تماما" ، يجب تقسيم المدينة إلى قطاعات .. فإذاحدث شيء ما ضمن أحد هذه القطاعات ، تم قصف شيء ما في قطاع أخر أو الرمي بالمدفعية عليه ... )) ويبدو أن نظام الوحش قد إستعار هذه النصيحة من المستعمرين الذين كان يعشقهم أجداده .. ولكن الحق يقال انه بهذا المسلك يشبه معلم المدرسة الذي هدم سمعته في الصف لنقص في شخصيته وأراد ان يعوض عن ذلك بمعاقبة التلاميذ بالضرب ..
إن دمشق ومنذ أسابيع تنسحب منها الحياة يوماً بعد آخر، وتكاد الطرق إليها شبه مغلقة إما بسبب الخناق الأمني أو الإشتباكات التي تدور على كافة محاورها ومداخلها، والمواطن فقط المضطر هو من يدخلها، ويبقى فقط طلبة الجامعات جزء كبير من الزوار اليوميين لها، والموظفين الذين لا يستطيعون التخلف عن الدوام خوفاً من البطش وإيقاف معاشاتهم أوتسريحهم .
وخشية من انتقال الصراع إلى قلب المدينة يحاول النظام إفراغها من سكانها وزوارها لذلك تقوم الحواجز بمحاولة منع المواطنين من دخولها والتضييق عليهم في الحركة، وهكذا يعود الناس إلى بيوتهم في أوقات مبكرة فيما يشبه حظر تجوال.
وأغلب المواطنين يتمنون عدم الدخول إلى العاصمة، وباتوا يستشعرون الخطر، والمقيمون فيها يدركون أن النظام يريد إخراجهم إلى ضواحيها ..وربما تتركز الضربات القادمة في قلب المدينة وقد تطال قسمها القديم الذي تتركز فيه التجمعات الأكبر للسكان .