لخميس 14 صفر 1429هـ الموافق 21 فبراير 2008م العدد (2701) السنة الثامنة
كتاب اليوم
حمزة قبلان المزيني
الفصل العظيم
يتابع البروفيسور مارك ليللا تشخيصه لأسباب عدم فهم الغربيين لخطاب الشرقيين، ويرجعها إلى عوامل تاريخية تتصل بالعلاقة بين السياسة والدين في الغرب انتهت إلى الفصل بينهما في نهاية الأمر.
يتساءل في البدء عن سبب وجود اللاهوتية السياسية. ويرى أن هذا سؤال ظل يتردد صداه طوال تاريخ الفكر الغربي، من اليونان والرومان حتى اليوم. وقد اقتُرحت نظريات كثيرة لتفسير هذه الظاهرة، خاصة من قبل المتشككين في النزعة الدينية. إلا أن قلة وحسب اكتشفت عقلانية اللاهوتية السياسية أو وصلت إلى كُنْه منطقها. فاللاهوتية منظومة من الأسباب التي يُقنع الناس أنفسهم بها لاكتشاف ماهية الأشياء والطريقة التي ينبغي أن تكون عليها. وهو ما يوجب أن نتخيل الطريقة التي أمكن لهذه المنظومة أن تتوسل بالرب وكيف كانت مقتضياتها على السياسة.
ويتحدث عن اكتشاف الإنسان لمبدأ السببية الذي يتمثل في أن لكل حادث مُحدِثاً، وهذا ما قاده إلى تخيل قوة متعالية تتحكم في الظواهر الطبيعية.
ويرى أن العقل البشري وجد نفسه، بعد اكتشافه للسببية، في مواجهة صورة لاهوتية ينتظم فيها الرب والإنسان وطبيعة العالم في سلسلة إلهية واحدة. ولدى المؤمنين أسباب تجعلهم يفكرون أنهم ينتظمون في هذه السلسلة، مثلما أن لديهم أسبابا للافتراض بأنها تهديهم في مجال الحياة السياسية. وتعتمد الكيفية التي يجب على المؤمنين أن يفهموا بها هذه الهداية، وما إن كانوا يظنون أن لها سلطانا، على كيف يتصورون الرب. فإذا ما تخيلوا أنه سلبي، أيْ قوة صامتة تشبه السماء، فربما لا يترتب على ذلك شيء. إذ سينظرون إليه على أنه فرضية يمكن الاستغناء عنها. أما إن أخذوا بجد فكرة أن الرب شخص ذو مقاصد، وأن النظام الكوني نتيجة لهذه المقاصد، فسيترتب على ذلك أمور كثيرة جدا. ومنها أن قصد مثل هذا الرب يوحي بشيء لا يمكن للإنسان أن يعرفه معرفة كاملة اعتمادا على نفسه. لهذا يصبح الوحي مصدرا لسلطة هذا الرب، على الطبيعة والبشر، وهو ما يقضي على أي خيار إلا طاعته والحرص على تنفيذ مقاصده على الأرض. ومن هنا تأتي اللاهوتية السياسية، في رأيه.
ويكمن أحد الوجوه المغرية للاهوتية السياسية، في أشكالها كلها، في شمولها. فهي توفر طريقا للتفكر عن الطريقة التي تعمل بها الشؤون الإنسانية وتربط تلك الأفكار إلى أفكار أعلى وأهم عن وجود الرب، وبنية الكون، وطبيعة الروح، وأصل الأشياء جميعها ونهاية العالم. وكان تخيل الغرب للرب التثليثي مصدر إلهام لأكثر من ألف سنة يرى فيه حاكما لكونٍ من صنعه، ويهدي الناس عن طريق الوحي والاعتقادات الداخلية والنظام الطبيعي. وكانت تلك صورة باهرة سمحت بنشوء حضارة باهرة قوية وبازدهارها. لكن كان من الصعب دائما ترجمة تلك الصورة لاهوتيا إلى شكل سياسي: ذلك أن الرب الأب أنزل وصايا، وأن المخلِّص بُعث، فأعاد تأويلها ثم غادر؛ وبقي الآن الروح القدس على شكل حضورٍ إلهيٍّ شَبحي. ولم يكن من الواضح أبدا ما الدروس السياسية التي يمكن استخلاصها من هذا كله. فهل ينبغي أن ينسحب المسيحيون من عالم فاسد هجره المخلِّص؟ أم إنهم كُلِّفوا بأن يحكموا المدينة الأرضية، التي تجمع بين الكنيسة والدولة، بإلهام من الروح القدس؟ أم يُتوقع منهم أن يبنوا القدس الجديدة التي ستعجِّل بعودة المسيح؟
وظل المسيحيون يتجادلون طوال العصور الوسطى عن هذه الأسئلة. فقد وُضعت مدينة الإنسان ضد مدينة الرب، والمواطنة المشتركة ضد الزهد الفردي، وحَق الملوك الإلهي ضد الحق في مقاومتهم، وسلطة الكنيسة ضد الخارجين عليها، والقانون المدوَّن ضد التبصر الغامض، والجلاد ضد الشهيد، والسيف العلماني ضد التاج الكنسي، والأمير ضد الإمبراطور، والإمبراطور ضد البابا، والبابا ضد مجالس الكنائس. وصار الإحساس بالأزمة واضحا جدا في أواخر العصور الوسطى، بل لقد اكتشفت الكنيسة الرومانية نفسُها أنه لابد من الإصلاح. لكن لم يكن هناك في القرن السادس عشر مسيحية موحدة لكي تُصلَح، وهو ما يعود الفضل فيه لمارتن لوثر وجون كالفن، فليس هناك إلا تنوعات من الكنائس والفِرَق، وكان أكثرها متحالفا مع حكام مطلقين علمانيين يسعون إلى تأكيد استقلالهم. وغذَّت الاختلافات العقائدية، في الحروب الدينية التي جاءت بعد ذلك، الأطماعَ السياسية والعكس، في موجات وحشية قاتلة استمرت قرنا ونصفا تعقَّب خلالها مسيحيون شوَّشتهم الرؤى القيامية مسيحيين مثلهم وقتلوهم بحماس مجنون كانوا يدخرونه في الماضي للمسلمين واليهود والزنادقة.
وقد حاول الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز إيجاد طريق للخلاص من هذه المتاهة. وكانت اللاهوتية السياسية تؤوِّل، تاريخيا، منظومةً من الأوامر الإلهية الموحى بها وتطبقها على الحياة الاجتماعية. لكن هوبرز تجاهل في كتابه leviathan المنشور في 1651 ببساطة مضمون تلك الأوامر وتحدث بدلا عن ذلك عن كيف ولماذا يعتقد الناس في الرب الذي أوحاها. وأنجز أكثر الأشياء ثورية مما يمكن أن يقوم به مفكر على الإطلاق ـ إذ غيَّر الموضوع، من الرب وأوامره، إلى البشر واعتقاداتهم. وعلل ذلك بأنه بعملنا ذاك نستطيع أن نبدأ في فهم السبب الذي يجعل الاعتقادات الدينية تقود غالبا إلى الصراعات السياسية ثم ربما تجد طريقا بعد ذلك لاحتواء النزوع إلى العنف.
وأوجدت أزمة المسيحية الغربية المعاصرة لهوبز مستمعين له ولأفكاره. إذ بدت وجهة نظره معقولة، في معمعة الحرب الدينية، عن أن العقل البشري ضعيف ومسكون بالانفعالات مما يحد من قدرته على الوصول إلى أية معرفة مؤكدة بالأمور الإلهية. كما أن من المعقول الافتراض بأنه حين يتحدث الإنسان عن الرب فإنما يُحيل حقيقة إلى تجربته هو، وهي كل ما يعرفه. ثم ما الذي يصوِّر تجربته بأجلى وجه؟ ويرى هوبز أن ذلك هو الخوف. فحالة الإنسان الطبيعية يقهرها القلق، فـ "قلبه يعتصره الخوف من الموت أو الفقر أو البؤس طوال اليوم". وهو "لا يستريح ولا تغادره الرهبة إلا حين ينام". وليس غريبا أن يتخذ بنو الإنسان أصناما لحماية أنفسهم مما يخافونه أكثر من غيره، بل إنهم يضفون قوىً ربانية، كما كتب هوبز، على الرجال أو النساء أو على طير أو تمساح أو عِجل أو كلب أو ثعبان أو بصلة أو كراث". إنها حال محزنة لكن يمكن فهمها.
ولا تنتهي ديناميات الاعتقادات المهلِكة عند ذلك الحد. فحالما نتخيل أن ربا قويا يحمينا فغالبا ما يقودنا ذلك مباشرة إلى الخوف منه، كما يقول هوبز. فماذا لو غضب؟ وكيف يمكن أن نرضيه؟ وعلل هذه التخوفات الدينية الجديدة بأنها هي ما أوجد سوقا للكهنة والمتنبئين الذين يزعمون أنهم يفهمون أوامر الرب الخفية. وكانت تلك سوقا وحشية في زمنه، فكانت هناك دكاكين لطوائف مسيحية لا تحصى، ولكل واحد منها طريقها الخاص إلى النجاة ووصفتها لمجتمع مسيحي. وهي تختلف بعضها عن بعض، ولأن أرواح هؤلاء المؤمنين هي الهدف فقد أدى ذلك إلى تقاتل تلك الطوائف. وهو ما يقود إلى الحروب؛ التي تقود إلى مزيد من الخوف؛ الذي يجعل الناس أكثر تدينا؛ وهكذا.
وكان قراء هوبز الذين خرجوا للتو من الحروب الدينية يعرفون الخوف حق المعرفة. إذ صارت أرواحهم، كما يقول: "منعزلة وفقيرة وشريرة ووحشية وقصيرة". وحين أعلن أنه يمكن لفلسفة سياسية جديدة أن تحررهم من الخوف، أنصتوا إليه. وقد ألقى هوبز بذرة، أي فكرةَ أنه ربما يمكن أن نبني مؤسسات سياسية شرعية لا تقوم على الوحي الرباني. وكان يعرف أن من المستحيل دحض الاعتقاد بالوحي الإلهي؛ ومن هنا فكل ما يمكن أن يقوم به أن يشكك بالمتنبئين الذين يزعمون أنهم يتحدثون عن السياسة باسم الرب. وبذلك لم يعد الفكر السياسي يهتم بالسياسة المرتبطة بالرب؛ بل بالسياسة التي تهتم ببني الإنسان بوصفهم مؤمنين بالرب وتحاول أن تمنعهم من إيذاء بعضهم بعضا. وسوف تخفِّض هذه السياسة تطلعاتها إلى ما هو أدنى من المستوى الذي كانت تتطلع إليه اللاهوتية السياسية المسيحية، لكنها ستوفر ما هو الأهم، ألا وهو السلام.
ولم يكن هوبز ليبراليا ولا ديموقراطيا. وكان يرى أن جمع السلطة في يدي رجل واحد هو الطريق الوحيد لإنقاذ المواطنين من الخوف المتبادل. لكن المفكرين الغربيين، في القرون القليلة التالية، مثل جون لوك، الذي تبنى مقاربته، بدأوا يتخيلون نوعا جديدا من النظام السياسي تكون فيه السلطة محدودة وموزعة ومشتركة بشكل واسع؛ وفيها يتنحى الذين كانوا في السلطة عنها إلى الآخرين بشكل سلمي، من غير خوف من الثأر؛ وفيها يحكم القانون العام العلاقات بين المواطنين والمؤسسات؛ وفيها يسمح لأديان مختلفة كثيرة بأن تزدهر، حرة من تدخل الدولة؛ وفيها يمتلك الأفراد حقوقا غير قابلة للسلب لحماية أنفسهم من الحكومة ومن الأفراد الآخرين.
ويقول ليللا إن هذا النظام الليبرالي الديموقراطي هو الوحيد الذي ننظر إليه نحن الغربيين الآن على أنه شرعي، ونحن ندين به في المقام الأول لهوبز. فمن أجل الهرب من الانفعالات المهلكة للاعتقاد الخلاصي فقد استبدل بالسياسة اللاهوتية فلسفة سياسية تتمركز حول البشر. وهذا هو الفصل العظيم.
*أكاديمي وكاتب سعودي
http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetai...01&Rname=25