ابن سوريا
يا حيف .. أخ ويا حيف
المشاركات: 8,151
الانضمام: Dec 2001
|
فريدريك نيتشة .. الفيلسوف الشاعر
عبقرية نيتشة جعلت منه الفيلسوف الأكثر إثارة للجدل, في تاريخ الفلسفة في العصر الحديث . و كعادة العظماء لا سيما الفلاسفة و المجددون منهم فلا بد لهم من أعداء يصورونهم كمجرد مفكرين لا قيمة حقيقية لفكرهم , أو أن هذا الفكر لا ينتمي لحدود العالم الفكري الذي يدعون الإنتماء إليه دون أن يحددوا إلى أي فكر بديل ينتمون , و هذه كما تعلمون شتيمة و انتقاص ذكي .
و ماذا أثر بخلود شجرة الدر "قباقيب" الجواري , و ماذا أثرت النازية بفكر نيتشة الخالد الذي انتحلته الجارية النازية دون وجه حق ؟
بدأ نيتشة بدراسة علوم اللغات و والاداب اليونانية و اللاتينية (الفيلولوجيا) , و قد بدأ ت معالم عبقريته تتجلى حين اختير لتدريس الفلسفة الكلاسيكية (الفيلولوجية الكلاسيكية بالأحرى) في جامعة بال و ذلك قبل إنتهائه من شهادة الدكتوراة . مما جعل له أكثر من عدو .
ترك نيتشة التدريس نهائياً فيما بعد ليفاجئ عالم الفلاسفة التقليدي بعمله الأول : "ولادة التراجيديا" 1872 . هذا النص ثارت حوله علامات استفهام كثيرة منذ نشره و قضى نيتشة وقتاً طويلاً عائداً إليه لشرحه و للمزيد من التوضيح حوله . هذا النص الذي يشرح نشوء التراجيديا من النفس و الموسيقا اعتبره البعض في البداية مجرد نص داعم للفكر الموسيقي الفاغنري .
منذ هذا الدخول المثير للجدل لنيتشة بدأت "حالة الحرب" مع التقنيين , تقنيي التاريخ الفلسفي , آخذين على نيتشة هشاشة معرفته للفلسفة في ميدانها الكلاسيكي الحديث , و لكن هذا ما جعل من نيتشة مبدعاً : رفضه للنظام الفلسفي القائم و رجوعه للفلسفة القديمة و تساؤله حول معنى الحضارة و الوجود بحد ذاته . مزجه لفلسفته بنص أدبي مميز و تفاعله مع الثورة الموسيقية الفاغنرية المبدعة أي أنه بشكل عام لم يتوقف على مجالات الفلسفة التقليدية التي كانت لا تعتبرها من ميادينها الفكرية.
كل عبقرية نيتشة كانت بتركه للطرق الفلسفية التقليدية و التساؤلات الأكاديمية التي كانت غارقة في أبراجها العاجية و تفاصيل الإختصاص و تقنية البراهين المملة .
الجذرية ...
كان نيتشة جذرياً بإنفصاله عن الطرق التقليدية إذاً بالتفكير الفلسفي , و قد تأثر حسبما يمكن أن نعتقد بإعجابه بفيلسوف ألماني معاصر كبير : "شوبينهاور"* .
لكن هذا الإعجاب لا يعني اتفاقه الكامل مع أفكاره.
المسألة أكثر عمقاً :
أكثر ماكان يعجبه لدى شوبينهاور هو رفضه للطرق القديمة لفلاسفة العصر : موقفهم من الإيمان و الإعتقاد و افتقادهم للكثير من الدقة الفكرية :
"شوبنهاور , كفيلسوف , كان أول ملحد معلن ومقتنع في تاريخ الفلسفة الألمانية ... و هذا بالذات ما يجعل منه الأكثر تجانساً بإلحاده المعلن و غير المشروط . ... و هو ما يشكل العنصر المؤسس الذي ترتكز عليه فلسفة شوبنهاور . بحيث أن الإلحاد إنتصار نهائي من الصعب الحصول عليه في الضمير الأوروبي ....و بإعتبارها النتيجة الأصعب و الأثقل معنوياً للوصول للحقيقةالتي تحرم على نفسها كذبة الإيمان ..." **
نتابع فيما بعد
مع فائق الإحترام
ابن سوريا
-------------
*أرثر شوبنهاور 1788-1860: فيلسوف ألماني و أول من تحدث عن إرادة الحياة بإعتبارها أساس كل "عذاب" .
** الفقرة 357 من (المعرفة المرحة) "نيتشة"
|
|
06-09-2002, 04:10 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
ابن سوريا
يا حيف .. أخ ويا حيف
المشاركات: 8,151
الانضمام: Dec 2001
|
فريدريك نيتشة .. الفيلسوف الشاعر
واجه نيتشة منذ عمله الأول إذاً ما سيستمر لاحقاً مع بقية أعماله و كتاباته , سوء فهم أعماله , لا سيما أن عمله الفلسفي بمجمله لم ينته من شرحه أبداً , إذ عاجلته المنية .
كان الفيلسوف و الشاعر يشعر بعزلة فكرية في محيطه و حرباً شديدة و جدلاً حول أعماله و ذلك ما يرافق عادة التجديد و الإبداع في أي فكر.
في رسالة لنيتشة بعثها لأخته* في 26-01-1887 يقول :
"... لا أعرف من هو قادر على استيعاب الخلفية الفكرية لأعمالي و غرابة قدري المميز ... تصلني رسائل من "المعجبين" في كل يوم , تمتلئ بالإزدراء ... "**
من المثير أن نرى أن الكاتب يستمر بعمله رغم أنه مقتنع بأن أحداً لن يفهم أعماله , و مع ذلك فلقد تابع نيتشة بإرادة و عناد شديدين مهمته : وحدة نصوصه و إن بدت متفرقة و مشتتة للوهلة الأولى فهي تحتوي ذات التساؤل , التساؤل حول القيم.
لن يتوقف الفيلسوف عن طرح هذا التساؤل و تناوله من جوانب متعددة و تحليل تداعياته . فلا بد لديه من التفكير بطريقة جديدة مختلفة أكثر دقة و أكثر تجانساً مع جذرية المشروع الفلسفي .
أحد مميزات عمله الأول "ولادة التراجيديا" ,الذي لا يستخدم فيه بعد تعبير "القيم", تتجلى في تأمله حول الأشكال المختلفة التي يمكن أن تسير عليها الحياة الإنسانية في مجالاتها الثقافية . بدراسته للشكل الثقافي التراجيدي مثلاً لدى الحضارات القديمة و اهتمامهم بالعنصر الجمالي الفني و قوته التمثيلية (لدى اليونان خصوصاً في عصر ما قبل سقراط , في مجتمع أثينا).
أو في تناوله للحضارة النظرية بالتحليل التي تعطي الأهمية الأولى في الثقافة للمعرفة و العلماء , كالحضارة البوذية .
يطرح نيتشة في عمله الأول هذا التساؤل الأساسي التالي :
كيف استطاعت الحضارة اليونانية في عصرها التراجيدي تجاوز التشاؤم و التخلص من الإحساس بالكآبة الذي كان يراودهم ؟
ليصل للإستنتاج التالي :
" اليونانيون يمسكون بأيديهم مقاليد حضارتنا الأوروبية الحالية , و كل حضارة أخرى" ***
بعد بضع سنوات , يعود نيتشة في عمله (المعرفة المرحة) ليشرح بوضوح أكثر المعالم الأساسية لبحثه الفلسفي : فكره يتجسد بملاحظته للعدمية (النيهيلية) التي تحملها "القيم" الطاغية في الحضارة الأوروبية الحديثة , ذات التأثير الأفلاطوني و من ثم المسيحي .
وحدة الفكر النيتشي تتجسد و تفهم من خلال وحدة بحثه , الذي سيستمر و سيصبح أكثر وضوحا و تركيزا ً خلال السنوات اللاحقة بداية من عمله الأول ثم في عمليه الهامين : "إنساني ,إنساني جدا"ً و "الفجر" الذين قام بنشرهما في عام 1880 . ثم جامعاً لنتائج بحوثه خلال 15 سنة تقريباً و نشرها في عامي 1886-1887.
هذا البحث لم يتوقف إلا حين إصيب بأزمته المرضية النفسية عام 1889.
نتابع بعد قليل .
مع فائق الإنسان
ابن سوريا
-------------
* دار جدل شديد فيما بعد حول علاقة نيتشة بالأفكار النازية الناشئة بسبب أخته التي تزوجت بضابط ذي أفكار عنصرية معادية للسامية , سنرى فيما بعد أن هذا الأمر قد أثر على نيتشة كثيراً من خلال الرسائل بينه و بين أخته و كيف أنه قاطعها و أرسل لها مؤنباً على "فعلتها السوداء" .:) نافياً التهم السخيفة حول علاقة فكره بالنازية .
** نيتشة , رسائل مختارة , باريس , غاليمار , 1937 , صفحة 241.
*** "ولادة التراجيديا" الفقرة 15.
|
|
06-09-2002, 05:30 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
ابن سوريا
يا حيف .. أخ ويا حيف
المشاركات: 8,151
الانضمام: Dec 2001
|
فريدريك نيتشة .. الفيلسوف الشاعر
|
|
06-09-2002, 11:04 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
ابن سوريا
يا حيف .. أخ ويا حيف
المشاركات: 8,151
الانضمام: Dec 2001
|
فريدريك نيتشة .. الفيلسوف الشاعر
نجد فكرة انتشرت بكثرة و بقوة و هي أن فكر نيتشة يحمل طابعاً انتقادياً و مدمراً , و لكن رغم هذه الفكرة المسبقة فهناك الكثير من تصريحات الفيلسوف التي تكذب هذا الإدعاء :
"ال ’نعم’ السرية الكامنة بداخلكم أقوى من أي ’لا’ و أي ’ربما’ , هذه الآلام التي تحملونها و تتعذبون بسببها في هذا العصر ... "* كما جاء في عمله "انحسار الآلهة"** , و به يصرح أيضاً :
"من طبعي أن أؤكد بأني لا أهتم بالإعتراضات و الإنتقادات إلا بطريقة غير مباشرة و لا إرادية ..."
هذا التأكيد يظهر جلياً في عمله المعرفة المرحة (في بعض الترجمات العربية اسم العمل : العلم المرح) ..
عمل نيتشة المتميز "المعرفة المرحة" , أراد به إذاً أن يكون نوعاً من التأكيد , أو نوعاً من البعث . نشيد للسلامة الصحية التي عاد إليها بعد حالة من التشاؤم . الخروج من حالة القرف العام و أخطاره نحو المعرفة المرحة .
و لكن نيتشة يتفاعل مع الأمر كفيلسوف , فليس هو عمل لمدح أو قدح بل عمل تحليلي بالرغم من الأسلوب الشاعري للعمل .
فهو يعتمد فعلاً على تحليل عميق في الفكر الفلسفي حول المعنى الفلسفي و القيمة للعذاب . حول الحالة النفسية للفلاسفة و المعنى لمثلهم . لكي نفهم أخيراً الفلسفة كشكل و حالة من حالات التحول و التقنع الروحي لحالات فيزيائية جسمانية . تغييرات الحالات الصحية كمنبع للتغييرات من وجهة نظر فلسفية ." ***
مجمل هذا العمل يتمحور حول هذا التأكيد "لقد مات الله"****
في أعماله السابقة و لا سيما "الفجر" انتقد نيتشة و بصراحة و بشكل مفصل الأخلاق و قيمها المعتمدة في عصره , لا سيما قيمة "الشفقة" .
و لكن من الآن و صاعداً أي منذ عمله الجديد "المعرفة المرحة" و إعلانه عن موت الله ففكره يأخذ منحى جديداً و تحليله يصبح أكثر كثافة و قوة بإكتشافه لطريق جديد نحو الإعدام الذاتي لكل شكل من أشكال القيم المثالية . لا سيما الأخلاق المتفانية (التفاني الديني مثلاً ) . هذه الأخلاق التي تأسست على النفي العام لكل إرداة أساسية في أي حياة (حياة الإنسان كفرد) . ليخلص نيتشة للنتيجة : الرغبات الذاتية المدانة من الإخلاق العامة المسيطرة هي أساسية لإستمرار الحياة الإنسانية كما تلك الرغبات النبيلة التي تستعير اسمها من الأخلاق.*****
نتابع غداً فالموضوع طويل مع هذا الفيلسوف المبدع .
مع فائق المحبة
ابن سوريا
* انحسار الآلهة , فقرة "ماذا يخسر الألمان اليوم" , الجزء 6 .
** الترجمة ليست دقيقة , يمكن أن نفهمها كإنحسار فترة الآلهة , أو انحسار فترة تأليه الزعماء : idoles .
*** هناك شرح لهذه المسألة في مقدمة العمل "المعرفة المرحة" .
**** المعرفة المرحة , الفقرة 125.
***** الفقرة الأولى من "المعرفة المرحة" مثلاً حين يقول : "الشخص الأكثر ضرراً هو أيضاً الأكثر فائدة للحفاظ على الجنس البشري , لأنه يساهم بالحفاظ لدى الإنسان على مشاعر معينة لولاها لكانت الإنسانية قد انفنت منذ زمن بعيد أو لربما فسدت . الحقد , الفرح بتعاسة الآخرين , رغبة العنف و التسلط , و كل ما نطلق عليه و نصفه بأنه "شر" . كانت دوماً تشكل نوعاً من الأمور المدهشة التي حافظت على النوع البشري . صحيح أنها كانت مكلفة و مجنونة و لكنها قامت, و هذا مبرهن عليه , بالمحافظة على جنسنا البشري .."
|
|
06-10-2002, 12:04 AM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
|