يهوذا ، بين الغنوصية والمسيحية
نشرت ناشيونال غيوغرافي مخطوطات إنجيلية عثر عليها حديثاً، أظهرت ان يهوذا هو الشخص الاقرب الى السيد المسيح وانه الوحيد الذي كان يفهمه بعمق. وفي الحقيقة فأن هذه الاوراق الانجيلية جزء من العديد من الاجزاء التي قامت الكنيسة بعزلها وإسقاطها من الانجيل، في سنوات الكنيسة الثلاثمئة الاولى، لتبقى لنا صورة مختلفة عن يهوذا.
في هذه الوثائق نرى رواية اخرى. قال المسيح ليهوذا: " لنبتعد عن الاخرين، حتى استطيع ان اروي لك عن اعجوبة العالم. انت ستصل اليها، ولكنها ستقدم لك مشاكل كبيرة، لان احد ما سيأتي مكانك حتى يتمكن التلاميذ الاثنى عشر من الاتحاد بالرب ثانية". وعندما سأل يهوذا متى سيقوم عيسى بالكشف عن هذه الامور، يمضي عيسى صامتاً.
قبل عيد الفصح بثلاثة ايام، وكان عيسى قد ضحك لتوه من التلاميذ الاثني عشرة لكونهم شكروا ربهم على مااعطاهم من طعام ليأكلوا. لقد اوضح عيسى انهم شكروا الرب الخطأ، الرب الذي خلق عالم الخطيئة والشر. الرب الحقيقي الذي يستحق الشكر او بالاحرى جزء منه، موجود في ذاتنا وفي المسيح نفسه، والمسيح يطلب من تلامذته التمعن بعمق لرؤيته امامهم وفيهم، ليعرفوا من هو.
احدى عشرة من التلاميذ يغضبون، في حين يهوذا هو الوحيد الذي يتجرأ على موافقة المسيح. يقول يهوذا لعيسى:" انا اعرف من انت، ومن اين اتيت". يهوذا يأخذ على عاتقه ايضا المهمة الاصعب والتي سيسئ الاخرين فهمه بسببها: التضحية بالمسيح، وبسمعته. او بالاحرى التضحية بالجسم الذي " يتجسد المسيح فيه"، حسب التعبير الوارد في الصحائف الجديدة. هنا يظهر ان عيسى هو الذي يطلب من يهوذا ان يقوم بمهمة: تسليم عيسى الى الكتبة، من اجل إلقاء القبض عليه. ويهوذا ينفذ ماأمره به المسيح ولهذا السبب يحصل على اعطية نقدية. بهذه الكلمات ينتهي النص الانجيلي.
الصورة التي يقدمها لنا انجيل يهوذا، عن ايام يسوع الاخيرة وعلاقته بتلاميذه (حواريه) بما فيهم يهوذا نفسه، تختلف عن الصورة التي يقدمها لنا العهد الجديد. وجود هدف اساسي وسامي خلف تسليم يهوذا ليسوع للتضحية به لغسل اخطائنا كان فكرا منتشرا وشائعا عند المسيحيين المبكرين والذي اطلق عليهم فيما بعد الغنوصيين. بالنسبة اليهم كان مساعدة يسوع للتخلص من جسده ليست إلا عملا يشكر عليه، فالجسد ليس إلا سجنا للروح. والاهم ان خروج روح اليسوع من الجسد كانت رمزاً للالتحام مع روح الله وإشعال شمعة امل وخلاص للانسان، تحققت بفضل الخدمة التي قدمها يهوذا.
لوثر هو الذي لطخ سمعة يهوذا
صورة يهوذا التي تقدمها هذه الصفحات الانجيلية تختلف تماما عن صورته الكلاسيكية التي نعرفها عنه في الثقافة المسيحية. في الرسومات الدينية نجده دائما عنوان الشخص الوضيع والرخيص، غالباً في ملابس بألوان صفراء او خضراء غامقة كسم الحية. في احدى الرسوم يظهر وهو يمسك بقوة بقطع بثلاثين قطعة من الفضة او يكون هناك شيطان على اكتافه. وبالطبع " صورة له" عندما ينسحب بخبث وهدوء من حفلة الفصح ليبيع يسوع الى الفريسيين.
وبالرغم هذا الحقد الكبير الذي يحيط صورته كان هو بالذات احد التلاميذ الاثني عشر الذي كتب عنه الكثير ، ولكن صورته كطماع وبخيل ووضيع هي التي انتصرت في الذهنية الشعبية وهي التي جرى تنميتها عبر التاريخ، بالرغم من ان رجال اللاهوت المبكر كانوا يعترفون بأنه وبالرغم من كل شئ لم يكن يهوذا إلا أداة بيد الله لتحقيق خطته في التضحية بأبنه من اجل إنقاذ البشرية الخاطئة.
هذه النظرة تتطابق مع نظرة رجال اللاهوت الحديث الذين قاموا بدراسة مصادر العهد الحديث في كتاباتها الاغريقية الاولى وعلى الاخص تعبير "paradidômi". التعبير يترجم عادة الى "التسليم" او "إعطاء" او "الايصال الى " سلطة حكومية عامة بالارتباط مع المحاكمة. في حالة يهوذا تم ترجمة الفعل الى "الوشاية او الخيانة". في الكثير من الامكان يظهر الفعل بشكل سلبي مما يظهر ان الكاتب كان يعلم انه عندما تم تسليم/خيانة يسوع الى السلطات ، كان الامر حلقة في سلسلة الخطة الالهية، ويهوذا كان خادم فيها فحسب.
دور يهوذا في " العهد الجديد" كان في الحقيقة زائدا عن اللزوم، إذ ان الانجيل نفسه وصف كيف ان السلطات كانت منزعجة مما يقوم به يسوع ومن انتقاداته المستمرة للكهنة اليهود ورجال الدين في اليوم السابق للفصح. بمعنى انه قد اصبح شخصية معروفة ومن السهل العثور عليها بدون مساعدة يهوذا. رواية الانجيل الحالي تعطي الانطباع عن يهوذا وكأنه جاسوس روماني واداة الله في نفس الوقت. الصورة الاخيرة تقترب من الصورة التي يعطيها له انجيل يهوذا المكتشف.
في نظر العامة سيبقى يهوذا رمز للجشع والوضاعة وهي صورة تلصق باليهود بشكل عام وكانت مصدر للتمييز العنصري وملاحقة اليهود عبر العصور.
صورة يهوذا الغنوصية تعطي انطباع اكثر ايجابية عن اليهود، عما هو الحال في الانجيل، بما فيها زعماء اليهود. ولكن كلا الطرفين ينقدون العهد القديم وينتقدون الصورة الكلاسيكية لله " كخالق"، ويتفقون في الموقف من اليهود لرفضهم العهد الجديد.
الجسد، سجن الروح
الغنوصيين في المئة الاولى كانوا متأثرين بالافكار الاغريقية/اليونانية واليهودية عن ان عالم الجسم وعالم الروح شيئان مختلفان ومتناقضان. الروح هو الجمال والسمو في حين الجسد وبقية الظواهر الارضية هي خصائص الكائنات المنحظة واللاقيمة لها. هذا التفكير ليس غريبا حتى عن المسيحية ، وفي البداية لم تكن هناك اي إعتراضات.
احد اوائل الغنوصيين واسمه Basilides, وعاش في مصر مابين عام 117-161، كان يعتقد ان الجسم الانساني كان سجن للروح الالهية السامية. ومن اجل تخليص هذه الروح جاء المسيح الى الارض. الغنوصيين لايؤمنون بعودة المسيح وانه سينهض من جديد، ولكنهم يؤمنون بأشياء اخرى مثل: التقمص، قوة الروح، الكونية، صوت الحق... الخ. قسم من هذه المفاهيم لازالت داخلة في روحانيات العهد الجديد.
Valentinos (100-175), كان تلميذاً للغنوصي بازيليديس وكان يعمل بنشاط من اجل خلق وحدة داخلية وكونية للفكرة المسيحية. إضافة الى ذلك كان يعتقد انه يملك الرسالة الحقيقية للفكرة اليسوعية. هذا الاعتقاد كان يميز الغنوصيين الاوائل، بإعتبارهم مالكين لسر الرسالة الذي اخذوه من الله/اليسوع مباشرة.
من امثال علمهم ماارتبط بمريم، حيث يقول يسوع لمريم المجدلية ان الخطئية لاوجود لها، ولذلك فالانسان لايحتاج ان يعير اهتماما للقيم الاحلاقية اليهودية السائدة في إسرائيل القديمة. هذا النص الانجيلي هو الذي أشار اليه دان براون في روايته "كود دافنتشي"، حيث يظهر منه ان يسوع لم يكن ابن الله وانما إنسان، انجبت معه مريم طفلا.
الغنوصيين كانوا اول المنشقين
احد الفرسان الاغنياء من منطقة البحر الاسود بإسم Markion, كان مؤسس احد الاتجاهات الغنوصية عام 144، والتي اعتبرها آباء الكنيسة القديمة إتجاها تخريبياً ومضراً، لكونها حظيت بشعبية واسعة. حركة المانيين حظت ايضا بإهتمام كبير وهو فصيل تأسس في القرن الثاني في بابل من قبل الفارسي ماني. استطاعت الحركة المانية المحافظة على وجودها حتى القرن السادس عشر. الطائفة المانية كان فيها نخبة مختارة تقوم على رأس الشعائر كالصيام والصلاة والعشاء المقدس، في حين تنتمي الغالبية الى الغير واثقين من انهم سيحصلون على الخلاص من الحياة الارضية الوضيعة. لذلك فهم يأملون فقط بأن يصبحوا من المختارين يوما ما وان ينالوا المباركة من خلال رحلة الروح والتقمص. الافكار المانية كانت منتشرة من الساحل الاطلسي والى الصين. في ايران تمكنت المانية من تطوير الديانة الفارسية القديمة zoroastrism. ماني اعدم تحت التعذيب عام 272 ميلادي.
في القرون الوسطى انتشرت المانية من قبل مبشرين غاضبين على آباء الكنيسة التي ازدادت سطوتها. حركة الكاتارير، وهي احدى الحركات المانية كانت منتشرة في فرنسا وايطاليا واسبانيا. في عام 1179 هددت الكنيسة اعضاء هذه الحركة بالحرق إذا رفضت هذه الحركة الخضوع للكنيسة. لقد كانت البداية لحركة تفتيش واسعة ادت الى اعدام وحرق الاف المؤمنين خلال 500 سنة اللاحقة.
الانجيل الحقيقي يتشكل
تقريبا جميع النصوص الغنوصية تنقد او تتعارض مع النصوص الانجيلية التي شكلت اساس المسيحية التي اعترف بها من قبل الامبراطورية الرومانية. التحام الدين مع السلطة اكدت نظرة الغنوصيين عن الكنيسة المسيطرة بإعتبارها عامل من عوامل الشر.
مجموعة من رجال الدين حاولوا حفظ وحدة الدين وعرقلة نشوء حركات وفرق دينية وتوحيد القديمة التي نشأت في القرن الاول بعد موت المسيح. في هذا السبيل قررو إختيار النصوص التي يروها تملك ارتباطا مباشرا بالنسطوريين الاوائل الذين عاصروا المسيح. لقد اختاروا النصوص التي تتكلم عن حياته على الارض وعن كونه ابن الله وعن كيفية موته خلاصا للانسان وعن عودته المنتظرة، وعن رسالته في حبنا لبعضنا البعض. هذا الرسالة كانت مضمون النصوص السبعة والعشرين التي اصبحت العهد الجديد. هذه النصوص جرى اختيارها بالذات لان الاغلبية كانت تعرفها وكانت متعودة عليها وتفهم مضامينها.
النصوص التي اقصيت كان من بينها نصوص الغنوصيين. السبب الرئيسي لاقصائهم كان ان المعاني التي تضمنتها لم تكن تنسجم مع الخط الرئيسي للمسيحية. حسب الغنوصية لم يهبط المسيح للارض من اجل خلاص جميع البشرية من خلال غسل خطاياهم بدمه على الصليب، في حين يعتبر هذا المبدأ من اهم مبادئ المسيحية. العديد من النصوص الغنوصية لم تتطرق الى موت المسيح، بما فيه انجيل يهوذا. اما انهم لايذكرون الصلب على الاطلاق او يشيرون اليه وكأنه جسم شخص اخر.
موقف الغنوصية من العهد القديم هو سبب اخر للاقصاء، إذ ان الغنوصيين لايعترفون به على الاطلاق، في حين هو جزء من الانجيل المسيحي. السبب الثالث المحتمل كون الغنوصية لاتملك رسالة متكاملة وواضحة المعالم وبالتالي فأن مجاميعهم لم تكن منظمة بشكل واضح وبدون عزيمة.
الكنيسة تقلل من اهمية الاكتشاف
في الكثير من النصوص الغنوصية يظهر ان المسيح قد جاء الى الارض من اجل مساعدة الافراد الذين يملكون شعلة الله في جوانبهم لتخليصهم من سجنهم الجسدي. من هنا يختفي الامل الذي تقدمه المسيحية بوجود عودة للمسيح ليعم السلام والحياة الخالدة للجميع. العطف على الضعفاء ومساعدتهم ايضا ليست من ضمن الفكر الغنوصي، إذ ان مايحدث على الارض ليس إلا وضاعة الجسد لاعلاقة له بالروح.
لربما هذه الفروق هي التي ادت الى انتصار المفهوم المسيحي، إذ انها اعطت املا للجميع واهتمت بعطايا الخير. الاعمال الخيرية ساعدت التبشير والمجموعات الاولى في بناء مجتمعاتها وخلق روح جماعية وشعور بالانتماء، بما فيه شعورهم باحترام الاخرين لهم. الكثير من التجمعات المسيحية الاولى كانت تجتمع مرة في الاسبوع من اجل إقامة الصلاة وجمع التبرعات للدفن وللفقراء بما فيه لغير المسيحيين. عندما اعترف القيصر كونستانتين بالمسيحية تغير المؤسسة المسيحية الى مؤسسة سلطة بيروقراطية. لقد اخذت المؤسسة الدينية شكل الدولة الداخلية برؤساء ومتسلطين، يتعاونون مع الدولة ويطالبون بالاعتراف واحترام نموذجهم بالذات. الفردية والغرابة جرى اخفائها وإلغائها ببطء وهدوء.
الغنوصية بقين ديانة فردية لمن لم تتمكن الكنيسة من احتوائهم ولمن رفض ديانة القطيع ولمن خرج عن الكنيسة، إذ انه ولو كان هناك من يناضل ضد المؤسسة الدينية لايعني ذلك انه لايؤمن او لايحتاج الى ايمان بل انه يحتاج ان يقرر بنفسه على شكل ايمانه ومضامينه. الغنوصية اعطت الشعلة الداخلية والتفكير والتقمص لهؤلاء اصحاب الاحتياجات الخاصة وهي افكار، لازالت حية في الكثير من الاديان الاخرى حتى اليوم.
مصادر:
The Coptic Ps.Gospel of Judas
Judasevangeliet
Mysteriet Judas
16/2006 s.66-73