RE: امرأة تلبس الأخضر دائما ورجل يلبس الأخضر أحيانا - الشاعر محمد عفيفي مطر
الليل في آخرة السهل عصافير ينفضن عن
الريش بقايا القطر أضغاث النباتات
هباء الذر والغبشة و يسلمن المناقير
إلي دفء الجناحين
النهار التم في أعضائه واصاعدت شيبته من
تحت حناء الذري ,
الصخرة تأوي للنعاس الرطب والهوة تثائب
والقرية جرو مرح لاذ به النوم البعيد
مفردات بيئة الشاعر , تبدأ في النوم , لأن الشاعر سوف يستيقظ , أنومها هو النوم الطبيعي الذي يعتري الكائنات أم هو النوم الذي يريده الشاعر لها لكي تتيح له الحرية في إعادة نسج تلك المفردات الواقعية مرة أخري علي ضوء تجربته الشعرية التي سوف يعيشها ؟, الليل هو وقت الرؤية , يبدأ الليل في التسلل بحركة مثل حركة العصافير التي تنفض عن الريش بقايا القطر وشذرات النباتات العالقة والهباءات الصغيرة ثم تضع مناقيرها تحت أجنحتها , والنهار في استسلامه لليل كأنه يلم أعضائه ويلتف بها , وقد أصابه الكبر وتصاعدت شيبته في حمرة المغيب الباهتة , حتي الصخور التي لا تنام تأوي إلي النعاس باستسلامها لندي الليل البارد , كما أن الهوة تتثائب , والقرية تطوي حركتها النهارية مثل الجرو المرح الذي هده التعب فراح في النوم العميق , هذا التصوير لحالة مفردات بيئة الشاعر له أهمية بالغة لأن الشاعر بعد يريد أن ينسج من هذه البيئة الزراعية القروية لحمة رؤيته , وسوف نتناول فيما بعد طريقة الإضافة التي ينتهجها الشاعر حين يقوم بصنع صوره ولكن ما يهمنا هنا الآن هو عرض رؤيته .
رجل وامرأة تفتح في عروة ثوبيها الشفيفين
بخورا ولبانا زاكيا , تفتح في الطوق هلالا
خفق نهدين , حفيف المخمل الناعم بالحلمة ,
والمرأة تمشي خضرة معتمة في
هودج الليل ويمشي الرجل النائم يقظان ,
يدان انفتحت بينهما عشر عيون يتواشجن مياها
وارتعاشا ودما تصهل فيه الخضرة الدافئة
القمح ربا للركبتين , اخضرت الطينة ,
أوراق الشفاه اصاعدت عليقة عطشي ,
اقتراب , قبلة توشك ..
يبدأ الشاعر هنا نسج أسطورته الخاصة , رجل وامرأة , كان الإنسان الأول يتصور الخليقة لا علي نحو خيالي محض بل علي ما يشبه الظروف الإنسانية فيري الخليقة كميلاد وأبسط شكل لذلك هو افترض وجود اثنين أولين هما والدا كل ما في الوجود ( راجع ما قبل الفلسفة ص 20 ) , كان هذا هو المعتقد الأسطوري , فقد ظل يقام الاحتفال بطقس الزواج المقدس وسط أجواء من الابتهاج والحبور في جميع أنحاء الشرق الأدني القديم , طوال ألفين من الأعوام , ولا عجب فالفكرة الكامنة خلفه بسيطة وذات جاذبية ومقنعة جدا فقد كان من واجبات الملك الباعثة علي السرور أن يتزوج من إلاهات الخصب والإنجاب ذات الشهوة الطاغية والعواطف الهائجة , ألوهية الفتنة التي تتحكم بإنتاجية الأرض والخصوبة في الإنسان والحيوان لكي يضمن لشعبه السعادة والرفاه والكثرة العددية ( راجع طقوس الجنس المقدس ص 77 ) , والشاعر في رؤيته للرجل والمرأة كأنه يخلق أسطورة جديدة مستلهما التراث الذي كان يسود المجتمعات الزراعية القديمة , ولكنه لا يصوره أو ينسخه كما هو , بل يجعله في الخلف من رؤيته , فليس هناك أسماء أو أي سمات للرجل والمرأة لكي تردنا إلي الأصل القديم , لأسطورة محددة كتموز وعشتار أو إيزيس وأوزوريس أو أدونيس إلخ , إنما هي أسطورة خاصة تمتح من الأسطورة القديمة كتراث لها دون أن تتمثلها أو تشخصها أو تستخدم رموزها , والسر في ذلك , أن المرأة والرجل عند عفيفي مطر ما هما إلا الشاعر الرائي والرؤية الشعرية / القصيدة , فمن الصعب أن يدل بأسطورة محددة عن هذا اللقاء الحيوي بين الرجل والمرأة لأن باقي رموز الأسطورة سوف تظهر في وعي المتلقي وهو يريد أن يجعل هذا القاء الحيوي فوق أنه باعث للخصوبة للأرض والحيوان باعث أيضا لخصوبة الشاعر / الرائي ,فكان عليه أن يقف عند الحدود الدنيا الجامعة لكل الأساطير الزراعية السائدة في الشرق القديم .
إن المرأة إذ تفتح في عروة ثوبيها الشفيفين بخورا ولبانا ذاكيا ويري الشاعر خفق نهديها وحفيف اصطدام حلمة نهدها بالمخمل الناعم وهي تفتح في طوق صدرها فتحة كالهلال , فإنما يدخل عالم الرؤية الشعرية بجمالها الذي لايقاوم وسحرها العطر - والذي صوره عفيفي مطر بمفردات جسد المرأة من صورة وحركة - لكي يتملي من ملكوتها كأنه الزواج المقدس القديم بين الملك وإينانا , لكي يمنح العالم الخصب أو هو الخليقة الأولي التي تنساب من الزوجين الأولين , ونلاحظ أن للمرأة ثوبين شفيفين مما يوحي أن المرأة هنا وهي تعكس الرؤية الشعرية , أنها ليست واضحة وإنما تذخر بالثنائية, الواقعي والخيالي , ثم يستطرد النص أنها تمضي في الليل خضرة معتمة , خصب عام لا شكل ولا ملامح له , توحي به للرجل وتموضع الرجل فيه , دون أن تمليه عليه أو تكتبه له , والرجل / الرائي / الشاعر يمضي في الليل يقظان , انفتحت في يديه أدوات الكتابة ( عشر عيون ) يستطيع أن يري بهم ما لم يكن يري من قبل , عيون تمتزج بمياه الخلق الفني بما يصاحبه من لذة تتساوي مع لذة اللقاء بالجسدي مع المرأة , بينما تصهل في دمائه خضرة المرأة الدافئة .
تنسل المرأة إلي طينته فتزهرها بخضرتها , عندئذ يبدأ الطين ينبت القمح الذي ينمو إلي الركبيتن , حتي يصير الطين من كثافة الخصب أخضر ويتداخل الرجل والمرأة وكأنهما توحدا في مفردات الخصب وصارا كأنهما نبات واحد تستحيل فيه الأوراق شفاها , تبدأ فصول الالتحام بينهما بالقبلة وفجأة في هذا المشهد العشقي الجميل تبدأ الرؤية في الهبوط علي الشاعر .
- يتبع -
كوكو
|