الحلقة الرابعة :
هذا تصريح واضح أن منهجه في التفسير هو الخبث ، اي تفسير البراءة بالخبث .. وبالتالي فالخبث معتمد في كل نظرياته ..
الحقيقة ان تفسيره هو للحلم غير بريء .. فرويد فسر نفسه ولم يفسر الحلم ، فهذا ربط سخيف وبعيد ، وكأن الجنس هو محور الكون ! كأنه ينسى او يتناسى أن الجنس له اجواؤه اصلا .. فامرأة منشغلة بسوق و شراء حاجيات للمنزل وصرف و اسعار و اخطار طريق إلخ .. كيف ستفكر بهذه الاشياء من خلال اشكال الخضر نفسها ، و كانها لا تعرف الخضر !!؟؟
حتى المريض بالادمان الجنسي لا تستثيره اشكال الخضر او المطارق او البنايات ، وتحرك فيه دوافع جنسية .. الجنس مرتبط بالجنس الآخر من البشر وليس مرتبط بالخضر والاشكال الهندسية ..
حتى الناس المدمنين على النكات الجنسية ، لا يشعرون بدافع جنسي ، بل بدافع الفكاهة التي لا تغضب احدا ، وهي قادرة على اضحاك اي شخص حسب اعتقادهم ..
اذا كان الحلم مرتبط باحداث اليوم السابق ، هذا يعني ان فرويد يقول ان الحلم مرتبط بالواقع ، بينما الواقع يقول : لا يمكن لأحد أن يدخل سوق الخضار و الجزارين ، ويخرج وهو مستثار جنسيا ! اذا تفسيره خيالي وليس واقعي ، ما دام ان الحلم يفسّر بالواقع كما هو منهجه ..
ثم إن محل القصاب اخر مكان يثير الغريزة الجنسية ، انه مكان يذكر بالمشرحة والموت والدماء والروائح الكريهة والحشرات الطائرة و ليس بالجنس ، وهي اكثر الاشياء تنفيرا من الجنس .. وهذا ما يفسر ضعف الدافع الجنسي عند رؤية اثار اصابة او اعاقة كالاعضاء المبتورة او الجروح النازفة او الاورام عند الطرف الاخر .. فالمرض والموت في تضاد مع الجنس ..
وحتى لو كان للفظة اكثر من معنى ، فالمعنى الاخر للفظة لا يتبادر الى الذهن ابدا ما دمت منشغلا بأحد معنييها .. لا أحد يجمع معنيين في وقت واحد .. فالعقل لا يستطيع التركيز الا على شيء واحد .. فعندما يقول الطبيب للطلبة وهو يشرح لهم العين و تركيبها ، لا يمكن ان يتبادر الى ذهنه او ذهن الطلاب المعنى الآخر لكلمة عين بمعنى نبع الماء او البئر .. ولا ان يسبب هذا اشكالية في الفهم .. فالكلمة يحكمها السياق دائما ..
اذا كانت كل هذه الرغبات الجامحة والتي تنزّز مع كل جهة ومع كل اداة و كل شيء نتناوله في حياتنا وأحلامنا .. اذا اذا اُطلق الامر لعنانه و فتح صمام الخزان على مصراعيه ، فماذا سيكون الوضع ؟ هل سيقضي الناس ليلهم ونهارهم بالجنس ؟ هذه الفكرة لا تتحمل تطبيقها كما يريد .. فتطبيقها يفضح تهافتها .. و لماذا يتقزز ممارسو الجنس كلما اسرفوا في الجنس ، و يفقدون اثارتهم ؟
بموجب كلام فرويد ، الجنس مثل بئر البترول الذي يريد ان ينفجر باي وسيلة ، او البركان ، لانه جعل الانسان لا يفكر الا بالجنس ولا يحلم الا بالجنس .. على راي المثل (حلم الإطط كله فيران) .. و بقية حياة الانسان واهتماماته لا قيمة لها و لا وجود ! الانسان من وجهة نظر فرويد انبوب او اسطوانة مليئة بالمواد الجنسية ليس الا ، و تخرج مكنوناتها من ادنى شق او فتحة !
السؤال الفلسفي : أليس الجنس لبقاء النوع ، وهي واحدة من حاجات الانسان وغرائزه ، و ليست كلها ؟ اليست عملية التلقيح تتم من خلال حيوان منوي واحد إلى بويضة واحدة من بين ملايين الحيوانات المنوية التي تخرج في وقت واحد و تكون كافية وقادرة لو اعطيت الفرصة ان تملأ الارض بملايين الأطفال دفعة واحدة ؟ الانثى كل ما تملكه في كل حياتها هو 400 بويضة ، و حيوان منوي واحد يكفي لتلقيحها واستمرار الحياة ..
اذا عملية ابقاء النوع لا تستغرق الا وقتا بسيطا من حياة الانسان ، فلماذا يوظّف اللاشعور كل طاقاته و وقته للجنس . مع ان سكان الارض يقارب السبع مليارات ! ولا مشكلة ابدا في بقاء النوع ولم تواجه البشرية هذه المشكلة في يوم من الايام !! بل المشكلة هل العكس : كثرة الزحام ، مما اضطر إلى موانع الحمل و تحديد النسل ..
وغريزة الجنس لا تتحكم بالغرائز الاخرى الا اذا اندفعت هي ، بل هناك غرائز اخرى اقوى منها وتتحكم بها ، فالمريض مثلا او الخائف لا يستطيع ممارسة الجنس ؛ لأن حاجة البقاء اهم من حاجة تكثير النوع ، بل ان الغرائز العليا غير الحيوانية في الإنسان قادرة على ابعاد غريزة الجنس ، مثلما يمتنع الانسان بدافع الامانة ان يمارس الجنس مع امراة اؤتمن عليها وتعهد بحفظها . اذا غرائزه المثالية منعته من ممارسة هذه الغريزة ، بل حتى ان كرامة الانسان قادرة على منعه من ان يمارس الجنس ، وهذا شيء حاصل و كثير . نتخيل ان رجل على وشك ممارسة الجنس مع امراة ، لكنها قالت له كلاما اشعره بالاهانة ، ستجد انه ينسحب و يموت الدافع الجنسي في تلك اللحظة لديه .. وهذا الشيء معروف ، لهذا تعطى النساء دروسا لتجعل الرجل يتقبلها جنسيا ، كالنظافة و الرائحة ، مما يدل على ان غريزة الجنس ليست هي اقوى الغرائز ، لأنها تحتاج إلى محفزات .. وكأن هناك شعرة بين الاثارة الجنسية وبين التقزز ..
أما غريزة الغذاء مثلا ، فعند الضرورة قد يأكل الانسان حتى الجيف . اذا غريزة الجنس تحتاج الى مسوغات كثيرة حتى تتم ، فكيف تكون هي المتحكمة في سلوك الانسان ؟ و رأينا كيف ان الغرائز الاخرى تتحكم بها ، قوة غريزة الجنس تكون اذا تحركت ، حينها يصعب ايقاف اندفاعها . ولكن تحركها محدود ويحتاج الى اثارة و شروط كثيرة وعدم تدخل الغرائز الاقوى في الموضوع .. لكنها اذا اندفعت فمن الصعب ايقافها باي دافع اخر .. حتى لو كانت الدوافع التي تحاول ايقافها اقوى ..
هذا مع ان الجنس غريزة اصيلة من غرائز الانسان ، و هدفها معروف ، ولا يسمى الشيء غريزة حتى يكون هدفه معروف وفي مصلحة الجنس البشري . وحب التملك ليس غريزة كما يزعمون . لأنه ليس في مصلحة الجنس البشري .. وغريزة الموت (أو الفناء) التي يدعيها فرويد عندما اشتعلت الحرب العالمية الثانية و رأى الدول تتسابق على الحرب ، هو افتراض سخيف جدا ، فالغرائز لا تتناقض ، فكيف توجد غريزة البقاء وغريزة الفناء و تعملان جنبا الى جنب في الانسان ؟ هذا تناقض ، والحياة لا تقوم على التناقض ، لان التناقض نفسه فناء ، مثلما تتصادم قوتان متساويتان ، سوف تذهب كلا القوتين ، وتكون محصلة القوى المتصادمة صفر . هؤلاء قاموا للحرب ليسوا لاجل ان يقتلوا انفسهم ، بل ليقتلوا غيرهم ويأخذوا اموالهم ليواصلوا الحياة بشكل افضل ماديا ..
فرويد رأى كثرة الحروب في تلك الفترة في اوروبا ودخول دول كثيرة و بسرعة فيها ، فتخيل ان غريزة الفناء اشتغلت لدى سكان اوروبا ! ونسي ان غريزة الطمع والاستعمار هي السبب ، وان الحروب يشعلها الراسماليون و المنتفعون منها ، وليست بارادة الشعوب . بل ان وقودها هم الشعوب المسكينة . وها هي توقفت الحرب العالمية الثانية بارادة الشعوب وضغطها ، وبسرعة ، فهل انتهى دور غريزة الفناء ؟
اذا على كلام فرويد : العقل الباطن مجنون ويصرف طاقاته في مالا فائدة منه للحياة ، لأننا عرفنا ان هدف الجنس هو بقاء النوع ليس الا .. فاذا تلقحت بويضة الانثى ، فهي تحتاج الى اكثر من سنة للاستعداد لعملية تلقيح اخرى .. بدليل ان اللذة الجنسية تخبو مباشرة بعد القذف .. اي تمت الرسالة .. فماذا يفعل شعورها واحلامها وعقلها الباطن في هذه الفترة ؟ هل يبحث عن بقاء النوع وهي حامل بالنوع ؟ هذا جنون !!
عملية بقاء النوع من اسهل العمليات و انجحها ، العالم يعاني من كثرة المواليد و ليس من قلتها . لا في القديم ولا في الحديث .. لننظر الى الحيوان : هل يقضي وقته في الجنس ؟ ام ان لديه عقلا واعيا يمنعه و افسده الدين وجعله يمنع الثور من القفز اليومي والدائم على الاناث ؟ !!
فرويد وضح نفسه عندما قال انه سيفسر بخبث .. هذه هي الحقيقة .. والخبث دائما يكسره المنطق .. فالخبث قرين الغباء وليس قرين الذكاء كما يتصور الكثيرون .. اليست حاجة البقاء هي اقوى حاجات الانسان وليست حاجة حفظ النوع ؟ بدليل استئصال المبيض او الخصيتين في حالة السرطان حتى تبقى الحياة ؟ اذا اين تفسيره للأحلام النابعة من هذه الحاجة ؟ لماذا يلتف على تفسير المخاوف والكوابيس و يفسرها بدوافع جنسية ؟ هذا تعسف يثير الشفقة على طريقة التفكير ..
لو كان الجنس بهذا الحجم الهائل الذي يتخيله ، فلماذا نجد الكثيرين لا يتزوجون ؟ مع ان الزواج مسموح ويدفع اليه العقل الواعي بحكم ضغوط المجتمع المتكررة على الفرد حول عدم زواجه .. اذا اين هي الطاقة الهائلة مع ان اكثرهم قادرين جنسيا و من الجنسين ؟ ولا نجده يمارس الجنس بطريقة خاطئة مثلا ، و اذا سُئل عن الموضوع قال بانه لا يهتم بهذا الشيء كأولوية ، و لديه من الاعمال والهوايات ما يجذبه اكثر .. او يبحث عن الشريك المناسب لافكاره واخلاقه و نظرته للحياة ، اي غرائز عليا تحكمت في الغريزة الدنيا ..
ليس صحيحا ان نفسر الاشياء في الحلم بتفسيرات محددة تنطبق على كل شخص ، و المشكلة انه هو نفى هذا الشيء في اول حديثه .. ثم يعود ليقول ان الشمعة بطبيعة الحال ترمز للعضو الجنسي .. فان كانت مستقيمة فهو قادر على الانتصاب ، وإن كانت رخوة فهو مصاب بالعجز .. وهذا تناقض وقع فيه فرويد ..
هناك من يرى الشمعة في الظلام ، ترمز له بالامل الذي انفتح لشعوره بعد حالة ياس و كآبة ..
فسياق الحلم هو الذي يشرح الحلم ، و ليس اجزاء منتقاة من الحلم .. فالحلم رسالة شعورية ، وعند فرويد الحلم رسالة جنسية أو حقدية .. والشعور اوسع من الجنس ، فبينهما علاقة خصوص وعموم .. اذا فرويد خصص العام بدون دليل ، حتى يدعو للاباحية ، و تبعه بذلك الغاوون .. لكن الغواية لا تصمد للمنطق ..
ثم لو كان الجنس بهذه القيمة الاساسية ، والعقل الواعي يمارس السيطرة والتسلط ، فلماذا تتم العلمية الجنسية في دقائق احيانا ؟ لماذا لا تطول ما دام ان العقل الواعي سمح هذه المرة ؟ فهذه فرصة العقل الباطن ، فلماذا يقطعها بمشاعر التقزز ؟ لماذا يقطعها و يذهب الى النوم لكي يحلم بالجنس على شكل باذنجان او كوسة و قد قام عن الجنس الحقيقي ؟