رد
قراءة في «لماذا الانشغال بحزب الله» لعبد الرزاق عيد

غالب ابو مصلح
من الصعب نقد النص الذي كتبه عبد الرزاق عيد في جريدة «السفير»، ونشر على حلقتين بتاريخ 29 و30/1/.2007 لا تعود صعوبة نقد النص الى تماسكه وعلمانيته وأمانته التاريخية وقدرته على الإقناع، بل الى عكس ذلك كله، والى تطرقه الى مروحة واسعة من المواضيع والمفاهيم والحقائق التاريخية بسطحية ومن دون أمانة، غير آبه بإعطاء أي دليل على ما يدعيه، ومطلقا شتى أنواع الاتهامات الأقرب الى الشتائم منها الى النقد. يستند في ذلك الى شطارة لغوية. كما ان النص ينبض بغضب عارم يخفي حقدا كبيرا، لا على «حزب الله» فقط، بل على التاريخ العربي الحديث كما على إيران ونظامها وفكر قادتها، وعلى النظام السوري وفكر حزب البعث وثوابته القومية والنضالية، وعلى فكر ونضال مرحلة الستينيات التي قادها عبد الناصر. كما ينحاز الكاتب الى حزب الاخوان المسلمين المطارد في سوريا، والى رؤيته وارتباطاته، في الوقت الذي يظهر فيه عداء شديدا للمذهب الشيعي، مما ينم عن تعصب مذهبي ذميم. سأختصر نقدي بما يتعلق «بحزب الله» فقط حتى لا يطول الكلام.
يبدأ عبد الرزاق عيد، وهو اسم غير مستعار لأحد «مفكري» المعارضة السورية ـ على ما علمت ـ بالاعتذار عن نزوله من عليائه، وهو «المشغول بالقضايا الفكرية النظرية» كما يقول. أي ان صاحبنا من زملاء كبار المفكرين والفلاسفة والشعراء الجاهليين، من أمثال سقراط وأفلاطون وزرادشت، كما أمثال الحطيئة والشنفرة، لينتشلنا من جهلنا، من غبائنا وتخلفنا، وليزيل الغشاوة عن عقولنا القاصرة، لنتمكن من رؤية بواطن الأمور لا ظواهرها الخلابة. انه يستل «عقله العقلاني» ممتطيا غريب الكلمات والمفاهيم ليفتك برموز الشر والجهل في هذا العالم، قديمه وحديثه، من ستالين الى شافيز مروراً بعبد الناصر وكاسترو. إنه يعري ويسقط القيم الفكرية والنضالية المسيطرة على عقولنا، مثل النضال ضد الاستعمار والامبريالية والصهيونية، مسفهاً استعمال السلاح في الصراع ضد الأعداء. كيف يفعل ذلك؟ ليس كما فعل دون كيشوت عند هجومه على الطواحين، برمح وسيف وحصان متهالك، بل بليّ أواخر الكلمات، وإقحام الواو القاتلة في مؤخرتها ليقعدها ويهتك معانيها ودلالاتها المعرفية والقيمية، فتتحول الى نقيض ما كانت ترمز إليه. فالقومي يصبح «قومويا» واليساري «يسارويا» والنضالي «نضالويا» وهلم جرا. حتى الأشياء يستطيع الفتك بها بالأسلوب ذاته. فالسلاح يصبح «سلاحوي» على سبيل المثال، ويفقد فعاليته. هكذا يحطم صاحبنا جميع مفاهيمنا وقيمنا. كما يلجأ حينا آخر، بغية إقناعنا بمقولاته، الى استعمال كلمات لا نفهمها نحن العامة. ولا ندري ان كانت موجودة حتى في أقدم الشعر الجاهلي، ام أنها من أخوات «الشيفران»، الواردة على لسان حمار بشار ابن برد حين يقول شعرا:
ولها خد أسيل مثل خد الشيفران.
وأمثال هذه الكلمات الغريبة كثير، مثل «المسفيتة» و«أمشاج» و«ميتبة» و«المعاضلات» وغيرها العديد العديد من غرائب الكلام.
ويصر صاحبنا على تذكيرنا دائما بعقله العقلاني، فيذكر ذلك ربما أكثر من عشر مرات ليقنعنا بعقلانية كلامه وطروحاته. فهو يشهر عقله العقلاني ليسقط كاسترو وشافيز اللذين تعاطفا مع نضالات «حزب الله» ضد اسرائيل وأميركا، إذ لقي «خطاب» «حزب الله»، وليس نضاله، «صدى لدى أصوليات ليست إسلامية فحسب، بل يساروية نضالوية عالم ثالثية كمثال شافيز». فقد انتزع صاحبنا شافيز من كاثوليكيته المعلنة لينصبه إسلاميا أصوليا، وأصبح ـ يا لحقارة شافيز ـ نضالويا من العالم الثالث! ثم يستطرد هاجيا شافيز وكاسترو، فيقول:
«شافيز الشاب المتعاطف مع هذا الخطاب النضالوي، إنما هو في حقيقة الأمر تعبير عن طموح ان يكون نسلا نضاليا وفكريا أميركيا لاتينيا للنموذج الكوبي، أي ان يكون نسلا منحدرا من صلب شيخ طاعن ـ كاسترو ـ في الإصرار على شباب أفكاره الستينية، التي تعود الى زمن الستينيات من القرن الماضي... ممثلا بكاسترو... إذ يصر الشيخ آية الله الكوبي أن يربط مصير المشروع الثوري بمصيره الشخصي الأبدي اللاهوتي».
بجملة واحدة طويلة، يسقط صاحبنا الثورة الكوبية وقائدها، وربما أغرق كوبا كلها في المحيط لولا وجود قاعدة غوانتانامو الاميركية فيها. جريمة كاسترو أنه شيخ طاعن في السن، وأفكاره ومبادئه من إنتاج الستينيات. وجريمة شافيز تكمن في تبني مبادئ كاسترو والنضال من أجل إفلات فنزويلا من القبضة الامبريالية الاميركية. وبجرة قلم، يصبح كاسترو الشيوعي لاهوتيا إسلاميا من أتباع الخميني، وانه ربط المشروع الثوري التحرري في أميركا اللاتينية بشخصه «الأبدي اللاهوتي». ولكن لم يقل لنا صاحبنا كيف ومتى فعل كاسترو ذلك، أبالسر وبمعرفة السيد عيد فقط؟
ويستطرد صاحبنا في هجائه لشافيز فيقول: «هذا الشاب المندفع بمرح وبهجة للتجاوب مع نضالية «حزب الله»، بعد أن كافأه السيد نصر الله بمنحه الجنسية العربية».
الآن أدركنا جريمة شافيز وسبب نقمة وغضب صاحبنا عليه. انه سحب سفيره من اسرائيل إبان عدوان تموز، وذلك أمر لم تفعله الدول العربية «المعتدلة العقلانية»، التي تقيم علاقات مع اسرائيل. فيقول: «هذا الشافيز المسكين... غاب عنه ان هذه الهوية العربية الممهورة «بانتصار حزب الله» ليست في المآل إلا هوية هزائم لأكثر من نصف قرن». فهل حقا ان «تاريخنا كله نكبة وأيامنا كلها كربلاء» كما قال نزار قباني؟ ام ان تاريخنا فيه العديد من الهزائم، وكذلك فيه العديد من الانتصارات خلال نصف القرن الماضي؟ فهل ان تحرير المغرب العربي، وخاصة الجزائر، من الاستعمارين الفرنسي والاسباني من الهزائم؟ هل طرد الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن ومن قناة السويس من الهزائم؟ هل تأميم قناة السويس وكسر احتكار السلاح ورد العدوان الثلاثي من الهزائم؟ هل حرب تشرين من الهزائم؟ هل تحرير الارض اللبنانية حتى مزارع شبعا من الهزائم؟ ان «العقل العقلاني» الذي لا يرى في التاريخ العربي المعاصر إلا الهزائم هو عقل مريض مهزوم.
ثم لماذا التركيز على هجاء فكر ونضال الستينيات مرارا وتكرارا؟ ما هو المقصود ومن هو المستهدف بهذا الهجاء؟ ان صاحبنا لا يقصد هجاء كاسترو وماو تسي تونغ وسوكارنو وتيتو بالتحديد، ولا يهجو أفكار «ألونزو»، الجاسوس الأميركي في السفارة الكوبية في بيروت، الذي نظر لسقوط البرجوازية الصغيرة الحاكمة، أي عبد الناصر، وذلك بعيد هزيمة 5 حزيران، بل إنه يقصد عبد الناصر ومبادئه ونضالاته، التي لا يستطيع هجاءها بالاسم، لا بسبب نفحة عفة واستيقاظ ضمير، بل مراعاة لبعض رفاقه في المعارضة السورية من الناصريين، فيهجوه بالتلميح لا بالتصريح. فتاريخ الستينيات العربي مطبوع بطابع عبد الناصر فكرا ونضالا وممارسة. ثم يقول صاحبنا:
«حزب الله أعاد لنا ذاكرة شباب فجائعنا الأيديولوجية والسياسية والنضالية والوطنية والقومية الستينية، إذ يدعونا الى مائدتنا اليساروية القوموية، ليطعمنا من طبخاتنا الفاسدة، تماما كما فعل شافيز عالميا وأمميا».
واضح جدا من هذا النص انه يقصد ستينيات عبد الناصر وطبخاته التي يفضل عليها طبخات «الحداثة» الاسرائيلية «والديموقراطية» التي تزرعها الجيوش الأميركية في العراق، كما يقول لاحقا. ويصل صاحبنا الى ذروة فيض عقله وأخلاقه وأوج تشنجاته، فيقول:
«ولما كان المشروع النضالوي العربي قد دخل طور العناية المشددة، وجد «حزب الله» في ملالي إيران الأب البديل، ولذلك فقد ولد كائنا نغلا خلاسيا من صلب العروبة البعثية ممزوجة بالشيعية الايرانية الخمينية، فكان منذ اللحظة الاولى نتاج أبوة عربية ايرانية لأم لبنانية أجدب الدهر رحم شبابها العربي بفضل الأشقاء الكبار...».
إنه لا ينتقد «حزب الله»، لا ينتقد فكره وبنيته ونضالاته، لا ينتقد برنامجه السياسي، بل يشتمه بخطاب سوقي غير جدير بالاحترام، ومثير للقرف والاشمئزاز. وقديما قيل، «كل إناء ينضح بما فيه». هذا هو المفكر ذو العقل العقلاني عبد الرزاق عيد. ثم يضيف مشيرا الى أسباب حقده على «حزب الله» فيقول:
«ليكون حزب الله على يمين الأصولية الاسلامية الإخوانية المعاصرة، التي طورت برامجها منذ عقدين، باتجاه ان تكون ذات مشاريع مدنية تنبذ العنف وتعترف بالتعدد والتعايش والتغاير، وتدعو الى التداول السلمي للسلطة... والقطيعة مع النزعة التكفيرية، التي انتقلت لحوزة حزب الله في صيغة النزعة التخوينية، وذلك بإنتاج تأويل شيعي نضالوي جهادي... هو الترسيمة النظرية القطبية التي تخلت عنها معظم الحركات الاسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين السوريين...»
يبدو ان صاحبنا أضاع بوصلته، فلم يعد قادرا على تحديد الاتجاهات. فإذا كان «حزب الله» على يمين الأصولية الاسلامية الإخوانية المعاصرة، فأين يقع عملاء اسرائيل وأميركا ودعاة المصالحة مع اسرائيل والانبطاح أمام العدوانية الأميركية؟ هل يقع هؤلاء على يسار هذه الأصولية؟ وأين يقف السيد عيد؟ هل يقف على يسار هذه الأصولية ام على يمينها؟ ما الذي يحدد موقع أية فئة عقائدية أو فصيل سياسي؟ هل أفكاره ومبادئه، ام موقعه النضالي، ام الاثنان معا؟ بالنسبة لصاحبنا، ان الفكر المتقدم، أو العقل العقلاني الذي يمثله، يدعو الى نبذ العنف والتخلي عن السلاح والمقاومة وإخلاء ساحات النضال، يتمثل بالانبطاح أمام العدو الصهيوني الأميركي والاستسلام أمامه. أما الفكر «التكفيري» «لحزب الله»، فيتمثل في تخوين الخونة عملاء اسرائيل ودعاة الهزيمة، هؤلاء الذين يظنهم صاحبنا أصحاب العقل العقلاني وذوي حكمة ودراية. ان صاحبنا لا يضيع الاتجاهات، بل يعكس المثل والقيم والمفاهيم، فهو يدعو الى محبة الآخر، المتناقض، العدو، فيقول:
«إن فقه كراهية الآخر الأجنبي، والمختلف الداخلي، سيقود حتما الى ساحة الثنائي الأنطولوجي، حيث وجود الواحد يقتضي نفي الآخر مما يدخل في باب المستحيلات في إطار النظام الدولي والعالمي الراهن».
يعتقد صاحبنا ان العالم قد تحجر عند طروحات فوكوياما في مقولة نهاية التاريخ، وسيادة النظام الرأسمالي الحر، حسب أفكار وطروحات الليبرالية الجديدة، وسيادة أبدية على العالم للقطب الأميركي الواحد، فقد غدا التغيير من المستحيلات. فمن الحماقة محاولة رفع الظلم وتحرير الشعوب من الاستعمار القديم أو الجديد، وعودة الحقوق الوطنية الى أصحابها. استطرادا لذلك، غدا الصراع مع الصهيونية أمرا عبثيا وضربا من الجنون. من المستحيل تحرير العراق من الاحتلال الاميركي، ومن المستحيل تحرير ما تبقى من الأرض اللبنانية المحتلة، ومن العبث والجنون محاولة تحرير فلسطين. علينا أن نقبل هذا الآخر المحتل الغاصب وأعوانه في الداخل، وأن نستسلم لأقدارنا ولحكم التاريخ. هذه هي العقلانية التي تدعو الى إسقاط الكراهية وحب العدو والتغزل بحداثته المبهرة وديموقراطيته، كما يفعل صاحبنا. كما يقول:
«لقد أعادنا حزب الله الى طفولتنا السياسية الستينية المستندة الى مزيج من أمشاج العقل الغرائزي والعاطفي والانفعالي، على حساب عقلانية العقل أو العقل العقلاني، وذلك بعودة الحزب الى شعارات الستينيات، شعار رمي اسرائيل في البحر وإزالتها من الخريطة».
يبدو أن هذه الستينيات الناصرية عالقة في بلعوم صاحبنا، لا يستطيع إخراجها والتعبير بصراحة عنها، ولا يستطيع ابتلاعها، وتكاد ان تخنقه. ولا يمل من تكرار التذكير بالعقل العقلاني والعقلانية مرارا وتكرارا. فلماذا كل هذا الشوق والحنين الى العقل؟ الانسان عادة لا يحن لما يمتلكه. أما القول ان «حزب الله» استعاد شعار رمي اسرائيل في البحر، ففيه تزوير وقح للتاريخ والواقع. لم يرفع أحد من العرب شعار رمي اسرائيل في البحر، أي رمي اليهود في البحر، بل ان هذا الشعار هو من ابتكارات الإعلام الصهيوني الكاذب الهادف الى كسب عطف شعوب العالم على اسرائيل، وتقديم المساعدة لها كي لا تتكرر المحرقة التي يهدد بها العرب. ويلحق صاحبنا هذه الاكذوبة بطروحات عبد الناصر وشعاراته في الستينيات. فالدعوة الى إسقاط الكيان الصهيوني والى بناء دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني، بناء دولة ديموقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين بالحقوق والواجبات، مكان الدولة العنصرية اليهودية، ومع عودة اللاجئين الفلسطينيين الى وطنهم وممتلكاتهم، لا تعني رمي اسرائيل في البحر، كما يردد الصهاينة وصاحبنا ايضا. هذا الهدف في إسقاط الكيان الصهيوني يتماثل مع ما تحقق في افريقيا الجنوبية بعد إسقاط نظام التمييز العنصري فيها. فهل تم هناك رمي البيض العنصريين في البحر؟ والشعار الذي يتبناه «حزب الله» تجاه الكيان الصهيوني يتطابق مع الشعارات التي ترفعها فصائل المقاومة الفلسطينية جميعا. فهل سنية الفصائل الفلسطينية تشفع لها عند صاحبنا، وشيعية «حزب الله» تجلب عليه نقمته؟
وسرعان ما يتحول الهجاء الى عالم في التاريخ والحضارات، فيقول:
«أما على المستوى التاريخي، فقد أعادنا حزب الله الى حرب الحضارات الدينية ـ إسلام/ يهود، على حساب المكتسبات التي أنجزها العقل العربي على طريق إدراك الهوة الحضارية التي تفصلنا عن اسرائيل، وفق منظار صراع تقدم/ تأخر، أي منظور التقدم العلمي والتقني والحداثة السياسية والفكرية الذي تجسده اسرائيل بوصفها ممثلة الحداثة الغربية في مفاوز صحراء الاستبداد والطغيان والفساد والتأخر العلمي والتقني العربي. أي لقد ضيع لاهوت الجهاد علينا المكتسبات التاريخية التي تجعل من تقدم العدو مهمازاً للتحدي الحضاري.. مما يستدعي أطروحة النهضة الشاملة بدل النزعة السلاحوية الحربوية». يريد صاحبنا أن يقول ان الغرب الاستعماري أنشأ الكيان الصهيوني على أنقاض فلسطين وطرد العرب منها وشردهم في أربع رياح الأرض، ثم دفعوا هذا الكيان العدواني لشن اعتداءات متكررة على المحيط العربي، واحتلال واجتزاء أراض عربية مجاورة، مجبرين هذه الدول على الدخول في سباق تسلح مع اسرائيل الممولة أميركياً وأوروبياً، ومكّنوها من ارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية في حق شعوبنا، فقط لخيرنا وتقدمنا وحثنا للتماثل مع هذا المثال الحضاري الغربي، تقنيا وعلميا وسياسيا وفكريا وأخلاقيا ايضا. كان على العرب أن يرحبوا بإقامة هذا الكيان ويجعلوا منه منارة يهتدون بها وينصاعون لإملاءاتها ويلبون مصالحها بدل التصدي لها وقتالها. فالمسؤول عن تخلفنا وفساد مجتمعاتنا هو «لاهوت الجهاد»، من أيام القسام الى عبد الناصر، الى البعث وحركة القوميين العرب، الى فصائل الثورة الفلسطينية جميعا، وصولا الى «حزب الله». فطريق التقدم لا تتمثل بفك الارتباط مع المراكز الامبريالية العالمية، بل في الخضوع للاستعمار والامبريالية. هذه هي استنتاجات العقل العقلاني لصاحبنا، هذه الاستنتاجات التي لم يتجرأ النطق بها أو بمثلها غلاة دعاة الاستعمار والصهيونية والامبريالية، فأتانا بها أحد فلاسفة المعارضة السورية من حلب. وصاحبنا لا يفقه معنى الحضارة، ويساوي بين الحضارة والتقدم التقني والعلمي، بينما الحضارة أوسع وأشمل من ذلك بكثير. انها تعني في ما تعنيه عادات وتقاليد وسلوكيات وأخلاقيات جماعية أغرزت جذورها عميقا في التاريخ، ونمت فروعها، وأعطت أكلها عبر تاريخ طويل ومتميز. أما القول بأن «حزب الله» أعادنا الى حرب الحضارات الدينية إسلام/ يهود، فينم عن جهل كامل بالتاريخ أو تجاهل لوقائعه. ليس في تاريخ العرب والمسلمين حرب حضارات دينية، بل إن العرب والمسلمين قبلوا باليهود والمسيحيين مواطنين بين ظهرانيهم. حتى الصهاينة يقرون بذلك، ولكن ليس السيد عيد. العرب أطلقوا على الحروب الصليبية اسم حروب الفرنجة، نافين الصفة الدينية عن تلك الحروب. أما «حزب الله»، فلا يشن حربا طائفية على اليهودية أو الدين اليهودي، كما فصائل الثورة الفلسطينية، بل يشنون حربا على الصهاينة وكيانهم العدواني التوسعي. والفرق شاسع بين الاثنين، فقد استضاف «حزب الله» في لبنان العديد من اليهود التقدميين المناضلين من أمثال شومسكي، كما العديد من الحاخامات اليهود المناوئين للصهيونية في مؤتمرات عقدها في بيروت، ولا أعتقد أن صاحبنا يجهل هذه الحقائق، ولكنه يتجاهلها ويعمل على تزوير التاريخ القديم والحديث لغاية لا تخفى عن القراء.
وبعقله الثاقب، يرفض السيد عيد رؤية ظواهر الامور الخادعة. بل يستهدف رؤية بواطنها المحجوبة عن أنظار الناس. هو قادر على فهم حقيقة الاشياء الخافية عن أنظار العالم. يقول صاحبنا:
«إن النصر الذي توهمه حزب الله بالوكالة، يتأطر في نسق لاهوتي آخر، مغاير لكل الانساق العقلية التي هيكلنا مكتسباتها على طريق التأسيس لعقل عربي عقلاني نقدي، في مواجهة ذاته وثوابته القومية ويقينياته الظفروية».
إن السيد عيد، عندما كان قابعا في عليائه، مشغولا بالقضايا الفكرية والنظرية، كما يقول، أنتج نسقا عقلانيا وبنى نموذجا أو هيكلا، على العقل العربي الالتزام به لفهم ذاته المهزومة دائما، المتشبثة بثوابتها القومية والنضالية، وفهم تاريخه ومسيرته نحو المستقبل. على التاريخ أن يسير حسب هذا النموذج العقلاني الذي ابتدعه، وأن ينضبط ضمنه. يفرض هذا النموذج والهيكل العقلاني أن يهزم «حزب الله» أمام اسرائيل. ولكن مشكلة صاحبنا تكمن في انتصار المقاومة وانتصار «حزب الله» في عام 2000 كما في عام .2006 فأين تكمن الكارثة؟ لا يمكن أن يكون الخطأ في «العقلانية التي هيكل مكتسباتها»، ليس الخطأ في النظرية، بل في الواقع المعيوش، في الاحداث، في التاريخ القريب. بالتالي، من المنطقي والضروري تغيير ما نراه كواقع. علينا تأويل الواقع، أن نعيد قراءته بشكل باطني لحشره في النموذج الفكري الذي بناه بعقله العقلاني. فانتصار «حزب الله» يستحيل وهما وخدعة، ومراكز الابحاث الاستراتيجية في العالم، وكذلك الصحافة العالمية، وأكثرية قادة اسرائيل المدنيين والعسكريين، الذين يقولون بانتصار «حزب الله»، يغدو كل هؤلاء متآمرين ضده، ويحوكون مؤامرة دولية ضد «هيكل مكتسبات العقل» الذي بناه اولا، ثم ضد الأمة العربية والاسلامية ثانيا، فيقول:
«تتشكى (اسرائيل) من إرهاب حزب الله لأنها لم تتمكن من افتراسه كليا والمقاومة. أول من يصدق تشكيها هو حزب الله وأمته العربية والاسلامية عندما يستخدم تشكيها كوثيقة أو دلالة أو حجة على هزيمتها. وعندما يتمكن شيلوك اليهودي أن يفر بغنائمه وجرائمه مقهقهاً من سذاجة العرب ومن انتصاراتهم الخلّبية.. إن وعيا مقلوبا في فهم معادلة الانتصار والهزيمة. بهذا الشكل الغرائبي لا حل له إلا بصرع الاطروحة للاطروحة المضادة أو العكس».
هنا تصبح اسرائيل «شيلوك» يهودياً سارقاً ومجرماً، وليس منارة حضارية تقنيا وعلميا وسياسا وفكريا وأخلاقيا كما ورد أعلاه. ولكن صاحبنا يظن أن وعي الناس والأمة والعالم أجمع هو وعي مقلوب. ألم يدر في خلده ولو للحظة، انه ربما كان هو مقلوبا يقف على رأسه فيرى العالم مقلوبا؟
أعتقد انه من غير الضروري الاستمرار في نقد النص الذي كتبه السيد عيد، وفيه الكثير من تزوير للافكار والسياسات والوقائع بحق الجمهورية الاسلامية الايرانية كما بحق وطنه سوريا. ولكن يبقى هناك سؤال واحد: ما هو موقف المعارضة السورية من هذا الفيلسوف المتفلسف الذي يشكل انتماؤه إليها إدانة لها على كل الصعد الفكرية والسياسية والاخلاقية؟