بالنسبة للموطن الأصلي " لليهود" تاريخياً، أي للجماعة " العبرانية" يمكن أن ندرسه عبر مناحٍ متعددة، ترتبط بالقراءات التاريخية المعرفية، أي من خلال وضع التسلسل المعرفي للأحداث التاريخية عبر سياقاتها المتعددة، وإحداثياتها اللازمة، ومن خلال الاعتماد على الإحداثيات الجغرافية وارتسامها في المنظومة الفكرية، وما يعنيه ذلك من تأطير ملامح لخطاب خاص يرسم خطاه بنفسه.
فلم تكوِّن الشراذم القبلية التي انحدر منها اليهود، والمنحدرة أصلاً من خارج المنطقة العربية، بنيةً متميزةً بالمفهوم الديموغرافي أو الأناسي التطوري، أو المعرفي، وبالتالي، لم تتحقق الشروط اللازمة لإنتاج خطاب مثيولوجي خاص، يميز بنيةً أناسية لازمة، أخذاً بالاعتبار أن المراحل السابقة لتسلل اليهود إلى المنطقة العربية كانت تتصف بتطور تقني وحضاري وثقافي مميز للمنطقة الممتدة من الخليج العربي شرقاً وحتى الصحراء العربية الكبرى غرباً والمحيط الأطلسي في أقصاها، والتي تشمل بتمركز خاص بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ووادي ودلتا النيل وشبه الجزيرة العربية وسواحلها كلها.. الخ فمع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد وحتى الزمن المُفترض لهجرة إبراهيم النبي - عام 1850 ق.م - شمخت المنطقة على أعمدة حضارات جليلة: السومريون والبابليون والآشوريون وحضارة عبلة (إيبلا) والكنعانيون والفينيقيون وحضارة الفراعنة على امتداد مجرى ودلتا النيل، فلذلك لم يشعر ذلك اللفيف من الشراذم عندما تسلل كقطعان رعوية إلى المنطقة العربية باغتراب أناسي شامل فقط، بل وباغتراب حضاري وثقافي وتقني أيضاً، والمتابع الدقيق لرحلة أسفار العهد القديم وتفسيراته المتعددة، وحتى الاستشراقية أو الصهيونية منها، يدرك الفارق الحضاري المتعدد الوجوه الذي كان يفصل تلك الشراذم الرعوية عن المحيط الدائري الذي تواجدت فيه والممتد من جزيرة الديلم (البحرين حالياً) باتجاه عربستان والرافدين شرقاً، ومن ثم الاتجاه غرباً نحو الساحل الشامي فالانتقال إلى دلتا ومجرى النيل..
* في سفر التكوين (11-19) ومات هاران قبل أتارح أبيه في أرض ميلاده في أور الكلدانيين" وفي نفس السفر في الأصحاح(11-32)" فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان " يتضح حسب ذلك بأنَّ الميلاد والهجرة تما في / ومن أور الكلدانيين، ومن المعروف بالوثائق التي لا تقبل الجدل لدى أحد، أن الكلدانيين، باشروا ببناء دولتهم عام 830 ق.م، في حين كانت هجرة النبي إبراهيم المزعومة بين عام 1900- 1850 ق.م، فالفارق الزمني إذن بين تاريخ الهجرة الإبراهيمية وظهور المدينة الكلدانية يتعدى الألف عام .( مع العلم أن جميع الباحثين متفقٌ على أن كتابة وتدوين أسفار العهد القديم تمت بين القرن السادس- الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الأول بعده)..
* في سفر التكوين (11-21) فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك، و" حاران" منطقة تقع شمال الحدود العربية السورية الحالية مع تركيا على ضفاف نهر البليخ، شمال بلدة تل أبيض الحدودية السورية، وعلى خط عرض 37 أيضاً، وافترضنا شرطاً صحة ما ورد في سفر التكوين، فلماذا الاتجاه شمالاً من أور حيث خط عرض 31 إلى حاران حيث خط العرض 37، ومن ثمَّ العودة والاتجاه جنوباً نحو أرض كنعان إلى نفس خط العرض الذي انطلق منه 31.. في حين كان بإمكان الرحلة الإتجاه غرباً مباشرةً واختصار تضاعف المسافة إلى أكثر من خمس مرات؟ فالنص هنا صريح جداً، لا يحمل أكثر من تأويل واحد: وهو الخروج من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان، إلاَّ إذا كان هناك خلط متعمد بين أور الكلدانيين و" أور " أخرى تقع إلى الشمال من " حاران" فكان لابد من الرحلة أثناء مرورها جنوباً أن تمر من " حاران"..
* في سفر التكوين ( 2،8،10، 14) وغرس يهوه جنةً في عدن شرقاً، ووضع هناك آدم الذي جبله.. وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس، اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة، حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيجون، وهو المحيط بجميع أرض كوش اسم النهر الثالث حداقل (دجلة)وهو الجاري شرق آشور والنهر الرابع الفرات..".
ويعلق ليوتاكسيل في كتابه " التوراة - كتاب مقدس، أم جمع من الأساطير؟ فيقول رأيه بالآيات السابقة "، بهذه التفاصيل، أراد المؤلف رسم حدود المكان الذي تقع فيه الجنة الأرضية رسماً دقيقاً، ولكن حبذا، لو لم يقل شيئاً بهذا الصدد قط، لأنه من الصعب أن تجد من يضع نفسه في موقع أكثر غباءً من هذا الموقع..
فالباحثون يعترفون كلهم بأن نهر فيشون هو نهر فاز، الذي دُعي فيما بعد باسم أراكس، ويقع هذا النهر في أرمينيا وهو ينبع من منطقة هي أكثر مناطق القفقاس وعورة، وإذا افترضنا جدلاً، أن تلك المنطقة تحتوي على الذهب وحجر الجزع فإن أحداً لا يعرف ماهو المقل(11).
وهنا لا تهمنا طبيعة الجنة إن كانت وعرة أو حدائق غناء، بمقدار ما يهمنا موقعها الجغرافي، والمحدد في منطقة أرمينيا، وربما لا يدع مجالاً للشك، فكيف يمكن لذلك النص أن يرسم تلك الجغرافية بهذه الدّقة ويسمي تفاصيلها لو لم يكن هناك ارتباط موطني أصلي تاريخي، وكيف لكاتب النص أن يترك بلاد الرافدين والساحل الشامي وبلاد النيل وساحل الخليج العربي، والساحل العربي الإفريقي الشرقي والشمالي، بكل ما تحمله تلك المناطق من جمال وغنى طبيعة خلابة.. ويعين جنته في تلك المنطقة الوعرة الخربة الجبلية لو لم يكن هناك رابط موطني جذري بها؟؟
يضاف إلى ذلك أن المدقق بالخارطة المرفقة بكتاب الاستاذ أنطون موتكارت " تاريخ الشرق القديم" يلاحظ أن بلاد أرمينيا الحالية كان اسمها بلاد أور - أرتو، ومن هنا أتت التسمية اللاحقة لتلك المنطقة " أرارات" يضاف أيضاً أن أرفكشاد، ابن سام، ووالد شالح - كما هو نسبه في التوراة نفسها يتقاطع بالاسم مع منطقة أرفكشاد المحيطة ببحيرة فان في أرمينيا التي تنبع منها الأنهار الأربعة الواردة في التوراة، وحيث خصص كاتب الكتاب المقدس جنته هناك.
شمال بلاد الرافدين وجنوب القوقاز الأرميني" ومن جهة أخرى لا يمكن أن يكون ثمة خطأ بصدد نهري دجلة والفرات، وبناءً على ذلك يتضح أن التوراة تحدد موقع الجنة الأرضية في مكان ما، يقع بين أرمينيا وبلاد الرافدين، ومع أن منابع أراكس ودجلة والفرات ليست بعيدة إلاَّ أن لكل منها منبعه المستقل، فأراكس وهو أكبر روافد نهر كورا، ينبع من بينغيل - داغ في (تركيا) ويسير حتى بحر قزوين، أما دجلة والفرات فالأمر لايقتصر على أن لكل منهما منبعه المستقل، بل إنهما يلتقيان معاً قبل أن يصبا في الخليج العربي. أما فيما يتصل بالنهر الذي يدعوه سفر التكوين جيجون فإن خطأ المؤلف " المقدس " والكلام ل " ليوتاكسيل" يعبر خيالياً، فحسب السفر المذكور إن هذا النهر يحيط بجميع أرض كوش ( حوش) ولكن أرض حوش ( وهو ابن حام ووالد نمرود ) هي حسب التوراة اثيوبيا بعينها. أي أن نهر جيجون هو النيل، الذي من المعروف أنه يجري في افريقيا وفي اتجاه معاكس للاتجاه الذي يجري فيه دجلة والفرات، أي من الجنوب إلى الشمال، وإذا أخذنا نقطة انبثاقه في إفريقيا الاستوائية من منطقة بحيرة فكتوريا، فإن المسافة التي تفصل هذه المنطقة عن المنطقة، التي تقع فيها منابع الأنهار الثلاثة الأولى، هي ثلاثة آلاف كيلو متر، أما سفر التكوين، فيعلن أن الأنهار الأربعة تروي بستاناً واحداً هو، جنة عدن..
والحقيقة أن المسافة بين منبعي دجلة والفرات ليست أكثر من مائة كيلو متر، ومع ذلك فإنها مسافة كبيرة لري بستان واحد، ولكن ماهو هذا البستان المترامي الأطرف، الذي يحتوي على جبال ومنحدرات عظيمة تقع في أكثر بقاع الأرض وعورة(12)، بوصفها الموطن الأصلي للرعاة العبرانيين وذلك على سبيل الحقيقة والواقع لا على سبيل الكناية أو المجاز.
وفي مواقع أخرى يدور الحديث عن أور - أرتو " آرارات لاحقاً" في أسفار العهد القديم، لاكأنها، بل باعتبارها فعلاً الموطن الأصلي للرعاة " العبرانيين"، فبعد أن يتأكد من التوضع الجغرافي أرارات إلى الشمال من جنة العهد القديم والتي تحددها من الشرق أرفكشاد، يسمي المنطقة الواقعة بين نهري فيشون وميجون، أشكيناز، والتي يرد ذكرها بموقع العطف مع آرارات في الكتاب المقدس في سفر إرميا -27: " انصبوا الراية في الأرض وانفخوا في البوق في الأمم قدسوا عليها الأمم ونادوا عليها ممالك آرارات ومنى واشكيناز"..وفي موقع آخر وفيما هو ساجد في بيت نصروك إلهه قتله وابناه بالسيف وهرباً إلى أرض آرارات / شعيا: ( 37-38)
ومن ناحية أخرى".. يلاحظ المتتبع لدراسة وبائيات الأمراض وانتشارها خصوصاً ما يتعلق منها، بالعوامل الوراثية، أن كلَّ الأمراض ذات الصلة بالوراثة القوقازية تجمع بداخلها اليهود... فغالباً ما نقرأ : " يصيب هذا المرض (كذا) شعوب القوقاز واليهود..".
وهذا يعني امتلاك نفس البنية الوراثية وما يعنيه ذلك من امتلاك نفس الأصل الأثني بمعناه الأناسي (الانتروبولوجي) الحرفي المباشر، وبهذا الأسلوب بالذات يحددون الانتماءات العرقية الأصلية للأفارقة الأوروبيين، فمن المعروف أنه ونتيجة لانتشار الملاريا في قطاع خط الاستواء، حدثت بنية وراثية خاصة دفاعية تميزت بنقص مايسمى G.6-Pd وهي المسؤولةعن عمليتي الأكسدة والارجاع في كريات الدم الحمراء، وهي تظهر فيما نسميه نحن الفوَّال Favizm فكيف بنا ونحن نرى بأن الوبائيات الوراثية الامراضية تجمع شعوب القوقاز دائماً مع اليهود، ألا يعني ذلك بأن اليهود أصلاً منحدرين أثنولوجياً من شمال الهضبة التركية أي من أرمينيا؟ أولا تؤكد ذلك أيضاً الدراسات المورفولوجية والتي تقرأ التقاطع والتطابق والتشابه بين شعوب القوقاز واليهود..؟
ألا يدعم ذلك ما قرأناه أعلاه حول التأصيل التاريخي الجغرافي والجغرافي التاريخي لليهود..؟
من كتاب عودة التاريخ د حمال الدين الخضور الفصل الخامس ص 171
رابط الكتاب للاطلاع ومزيد من التفصيل
عودة التاريخ د. جمال الخضور
هل فعلا انحدر اليهود من أرمينيا ؟