كنت أنتظر فعلا أن أجد آلية تحول الفرد إلى إرهابي، لكن ما تفضلت فيه أخ عمر هو ما يتعلق عن جماعة التبليغ، وهؤلاء قوم من أجهل الناس، وأجبن الناس.. فكيف يتحولون لإرهابيين؟

بدأت الفرقة على يد مؤلف كتاب "حياة الصحابة"، ولهم اجتماع سنوي أعتقد في بنجلاديش يأتيه أكثر من مليون مسلم. و "الخروج" للقرى النائية البعيدة، هو "الجهاد" عندهم، فالجهاد جهاد النفس لا شيء آخر. والأمر بالمعروف هو الواجب، بينما لا تشديد على النهي عن المنكر.

حصلت لي قصة مشابهة لقصتك، ولكنها في دلالاتها تنفي ما تفضلت به.

في التسعينيات الميلادية نشطت في السعودية حركة إسلامية تجمع بين السلفية العقدية والحركية الإخوانية، يسميها مناوئيها بالسرورية نسبة لمحمد سرور زين العابدين، ويسمون أنفسهم بالصحوة. بدأت بالتشكل نتيجة سياسة الملك فيصل الذي حول المملكة لملجا لكل الأخوان المطاردين في دول عرب المركز... فجاءنا محمد قطب ومحمد سرور وغيرهم، فتخرج على أيديهم جيل من الدعاة يجمعون بين سلفية الوهابية وحركية الاخوان.

بعد الثورة الإيرانية، وزوال قوى اليسار في العالم العربي، وتفجر أسعار النفط، واحتلال جهيمان للحرم، وتخريج الدفعات الأولى من الجامعات الشرعية في السعودية، كل هذا جعل "الصحوة" تتجه اتجاها مصادما للسلطة... وصل حده الأعلى عندما رفعوا للملك فهد في مطلع التسعينات مذكرة النصيحة، وعارضوا الاستنجاد بالقوات الامريكية.

بعد الوصول إلى القمة هذه ، بدأ الانحدار: تم سجن المشايخ الرئيسيين كسلمان العودة وسفر الحوالي وغيرهم. خرج سعد الفقيه والمسعري لخارج المملكة وبدأوا بإرسال الفاكسات للتأثير على الرأي العام، جرت بعدها حملة اعتقالات عالية. عاد السعوديون الذين حاربوا في افغانستان محملين بكتب "الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية" و "رسائل جهيمان العتيبي".. وغيرها.


هذا الانشراخ تعمق أكثر بعد 11 سبتمبر، إذ انقسم الصحوة إلى ثلاث تيارات: اليسار الصحوي، وهم الشباب الذين نشاوا في محاضن الصحوة في منتصف الثمانينات أو اولئك الذين جاهدوا في افغانستان ثم عادوا، وسيكلون جناح القاعدة في المملكة وهم الذين سيكون الطرف في العمليات الارهابية المتتالية التي حدثت في السعودية. يساندهم من الخارج كل من الفقيه والمسعري. اليمين الصحوي وهم معارضي الأمس، إذ تحولوا إلى سلاح بيد السلطة، فسفر الحوالي مثلا هو من سيسلم أحد كبار المطلوبين، وغيره من المشايخ سيكونون هم أعضاء "لجنة المناصحة" التي ستقوم بتعديل أفكار "الشباب" في السجون. أما الفريق الثالث فهم الذين نشأوا في محاضن الصحوة ولم يحتضنهم سوى التبليغيون.

بعد 11 سبتمبر، اتصل بي صديق.. قال لي : "ودي ألتزم" (أي أريد أن أتحول إلى متدين وهذا يعني الامتناع عن سماع الاغاني وتقصير الثياب وهجر حياة اللهو والعبث).
قلت له " خير وبركة"
فذهبت أنا وهو، لمكان قصيّ من المدينة... فأخذ اشرطته الغنائية وأفلامه وسكب عليها البنزين وأشعلها... محرقا كل ماضيه "المليء بالذنوب".

بعد هذه اللحظة، سيكون عليه أن يغير الوسط الذي يعيش فيه، وينطلق لوسط آخر هو وسط رفقاء الخير. وكانت هناك ثلاثة محاضن: المحاضن الجهادية، وهم مجموعة يتزعمهم جهادي سابق، يذهبون لعمق الصحراء لأداء التمرينات العسكرية والتظاهر بالقيام برحلة صيد برية هي في عمقها رحلات تدريب. أو المحاضن التبليغية، وهم الذين ذكرت من مجموعات تحترف الدعوة السلمية، الدعوة الوعظية القشرية. والمحاضن الاخيرة هي المحاضن الصحوية التقليدية، والذين تقلمت اظفارهم وصاروا سندا لوزارة الداخلية.

عندما سألت أحد أصحابي: ماذا أفعل به؟
أجابني: " اعرفلك جهادي من حقين افغانستان عندهم مجموعة ممتازة، ليش ما تجيبه معنا؟ " ... صاحبي هذا الذي قال هذا الكلام، سافر عام 2003 إلى سوريا، وهو ورهط معه كي يستطيعوا النفاذ إلى العراق، لكن ما إن وصلوا لسوريا حتى اقتحمت القوات الامريكية بغداد، في ذلك اليوم المشهود. فقرروا العودة بعد أن ظنوا أن الحرب انتهت. عادوا من هنا، تلقفتهم المباحث من هناك .. وهم إلى الآن هناك، بلا محاكمة ولا تحديد مدة.

سألت صاحبي الآخر، فأجابني: جبه عندنا، بس لازم يكون متحدث لبق وما إلى ذلك.
الآن صاحبي هذا، لا يجد وقتا بسبب كثرة الاعمال التجارية التي استطاع توفيرها من علاقاته الصحوية، بل إني في آخر مرة رأيته... كان يتكلم حديثه المعتاد أمام "الشباب"، وما إن انفضوا.. حتى طلب مني فلم "آلام المسيح"، وأخبرني بألا أخبر أحدا بذلك.

صاحبي لم يدخل في أي من هذه المحاضن، بل توجه عند ابن عمه الذي يواظب على الحضور عند التبليغيين. كان مجلسا بسيطا يضم رجالا من مختلف الاعمار. قام أحدهم وبدا بقراءة رياض الصالحين، كانت قراءته متأتأة يرفع منصوبا ويجر مرفوعا. بعد أن يفرغ من القراءة، بدأ الآخر بالحديث عن مجموعة كبيرة من الخرافات: كالجن الذي استطاع التغلب عليهم بسورة الاخلاص، والاحلام التي وقعت كما فسرها تماما، والملائكة التي أنقذته بعد أن نفذ البنزين من سيارته في طريق لا يمر به أحد...إلخ. بعد ذلك، مسك كل واحد من الموجودين صاحبه، وبدأ يردد عليه المعوذات، والآخر يردها عليه. بعد اسبوع على هذه الحال... قالوا أن علينا أن "نخرج". ومن هذا اليوم لم ارى صاحبي إلا بعد شهر، أول ما حدثته قال لي "أنت علماني صوفي"..!

مرة من المرات كنت قد عزمت صاحبي الجهادي، في مجلس كان فيه بعض التبليغيين.. بعدها بيوم قام هؤلاء بتحير بعضهم من الحديث معي لأني أناصر الجهاديين.

يكثر هؤلاء "التبالغة" كما يسميهم المحليين عندنا، في قطر... إذ أن أمير قطر السابق كان يرعاهم ويمولهم حتى كونوا مجموعة كبيرة، وكل سعودي يدخل معهم لابد أن يمضي في قطر اربعين يوما.

هذه جماعة لا شان لها بالارهاب، هي لا تنتج سوى تخلفا. الجماعات التكفيرية على الأقل هي - على الرغم المصائب التي فيها- جماعات شجاعة تطلب التغيير وتاخذ معها أرواح مجموعة من المحتلين قبل أن تفارق الحياة. لكن هؤلاء يكرسون التخلف، وتدعمهم الدول العربية، ويتحلون بجلد وصبر لا ينتهي في سبيل الدعوة.

وانت بين هؤلاء وهؤلاء تسأل نفسك: أي لعنة حطت بي على هذه الأرض ؟