تحياتي للجميع
الان اسمحوا لي أن أقدم مشاركتي في الموضوع والتي تحمل نظرة أخرى

كيف نشأت مكة ؟
المصادر التاريخية الموثقة كالنقوش واللقى الأثرية معدومة حتى الآن لذلك سيتم الاعتماد في هذه المشاركة على مصدرين أساسيين هما
رواية الإخباريين
الأدلة الأثرية في المناطق المجاورة في جنوب الجزيرة العربية بشكل أساسي
بعكس من يرفض أن يعتمد على روايات الإخباريين المسلمين كمصدر للمعلومات التاريخية للفترة التي سبقت الإسلام بسبب التزوير أو الانتحال أو المبالغة فإنني سأفترض صحة ما روته هذه المصادر جزئيا فقط في تلك الأخبار التي لا يفترض فيها مصلحة إسلامية والتي تتوافق مع المصدر الثاني ( أي الأدلة الأثرية في المناطق المجاورة في جنوب الجزيرة العربية بشكل أساسي )
إذا ماذا يقول الإخباريين بشأن مكة ؟
بعد استبعاد أسطورة إبراهيم وإسماعيل من إخبارهم ولو مؤقتا حيث سأعود إليها لاحقا فأنهم يجمعون على أن جرهم ومن ثم خزاعة هم أول من استوطن مكة ، فمن هي خزاعة ؟!!!
إنها قبيلة يمنية نزحت من بلادها وهاجرت بعد انهيار سد مأرب ( حيث تفرقت أيدي سبأ كما يقول المثل ) وهذا الانهيار هو حدث تاريخي موثق بالنقوش المسندية . ويبدو أنهم فضلوا مكة لأسباب عديدة
أولا لأنها على طريق القوافل التجارية بين شمال الجزيرة وجنوبها
ثانيا لوجود بئر غزير الماء ( بئر زمزم ) والماء كما هو معروف كان وما زال أهم عنصر لحياة الأفراد وخاصة أنهم تركوا بلادهم بسبب الماء
ثالثا أنهم يألفون هذه المنطقة من خبرتهم السابقة
وبما أن مكة غير مهيأة لتكون أرض زراعية وهي الحرفة التي كانوا يجيدونها في بلدهم الأصل في مأرب لذلك كان لهم أن بلجأوا إلى مهنة أخرى يجيدونها وهي التجارة ومن هنا بدأت مكة تأخذ دورا تجاريا خاصة بعد انهيار الدور التجاري لجنوب الجزيرة ( سبأ وحمير )
لكن هل نقل هؤلاء القوم ( خزاعة القبيلة العربية الجنوبية المنحدرة من حمير وسبأ ) هل نقلوا تجارتهم فقط إلى مكة أم نقلوا معهم أيضا عاداتهم وتقاليدهم والأهم ثقافتهم وأهم مكون للثقافة هو الدين .
إذا لقد صبغ هؤلاء القوم مكة بصبغتهم الخاصة ونقلوا ديانتهم وآلهتهم معهم ، فكانت مكة مشتقة من اسم إلههم " المقة " حسب ما يذكر سيد القمني في كتابه " الأسطورة والتراث " وحسب سيد القمني فأن المقة مكونة من إل ويعني اله و " مقة " والتي قد تعني المعبد ومكة يبدوا أنها أخذت اسمها من مقة حيث أن إبدال القاف كافا شائعا في تهامة وجنوب الجزيرة ويؤكد ذلك إبراهيم الجبين في دراسته " لغة محمد " حيث يقول : " يؤكد ابن خلدون في مقدمته أن قريشا كانت لا تنطق القاف كما نعرفها في زماننا هذا بل كانت قافهم بين الكاف والقاف
يؤكد ذلك وجود نقوش مسندية : تذكر ثريا منقوش في كتابها التوحيد يمان – نص قتباني قديم يشير إلى الذبائح يقول " مختن ملكي بمكى " وقد ترجمته على أنه الذبح الملكي بالموضع مكى
إذا من هو المقة ؟
المقه هو اله سبأ الأعظم وهو اله القمر وهو " أكبر الآلهة " في المجمع الإلهي الكون من اله القمر " المقه " واله الشمس " ذات حميم " والابن عثتر " كوكب الزهراء "
إذا لقد أنشأت خزاعة الكعبة لعبادة هذه الآلهة وان كانت الكعبة شكل مبسط لمعبد إلا أنهم أرادوه معوضا لمعبد " أوام " وهو أعظم معبد للإله المقة في سبأ وأعظم معبد في شبه الجزيرة العربية حسب ما تشير الدراسات الأثرية الحديثة التي ترشحه ليكون أعجوبة الدنيا الثامنة ، وهناك عامل مشترك بين كعبة مكة ومعبد " أوام " هو وجود بئر في حرم المعبد وحرم الكعبة
اذا لقد أخت مكة الدور الاقتصادي والديني الذي خسرته الدولة العربية الجنوبية وذلك في عهد خزاعة وأصبحت مكة مركزا لعبادة اله القمر والأجرام السماوية الأخرى التي كان يقدسها اليمنيون بل الأكثر من ذلك أن طقوس الحج وأدبياته قد ورثت من تلك الديانة السبئية
ويقدم لنا أحد النقوش التي عُثر عليها على صخرة في جبل ريام وصفاً مدهشاً لطقوس هذا الحج ، وهو النقش الموسوم بـ ( (RES.4176 حيث يذكر هذا النقش الأعمال المحظور القيام بها أثناء الحج والأعمال المشروعة ، وقد ظهر أول نوع من طقوس الحج ، في مأرب وكانت تقام للإله السبئي ( المقة ) في معبد ( أ و ا م ) محرم بلقيس في شهر محدد من السنة وهو شهر ( ذ أ ب هـ ي ) ، وكان يستمر أكثر من (تسعة أيام )، أما الأشخاص الذين كانوا يؤدون طقوس الحج فقد كان يطلب من الجميع أداء هذه الطقوس ، الرجال ، النساء ، الأطفال ، وكان يتميز طقس الحج أن له مشروعية ، وله حُكمه ووقته وكيفية أداء فروضه .
وطقوس حج ( تألب ريام ) حيث ذكر ذلك النقش الذي يحمل توجيه من الإله لعُباده قبيلة سُمعى ، يقول فيه : ( أمر تألب ريام ( يهرخم ) جلت إرادته بمرسوم في سنة ( أوس إل بن يهسحم ) يقتضي فيه على قبيلة سمعي أن لا يسهو عن الحج إلى معبد الإله ( المقة ) في مأرب بشهر أبهي في نفس الأيام المقدسة التي يحجون إليه ( أي إلى الإله تألب ) ، ثم حدد الأعمال المحظورة أثناء الحج إلى معبده ( ترعت ) في جبل ريام ، والأعمال المشروعة وهي كالتالي :-

الأعمال المحظورة :

- يحظر الإله ( تألب ) على الحجاج دفع الرسوم الضريبية ضمن نطاق أراضيه في أيام الحج .
- يحظر رعى الماشية تعمداً في أيام الحج إلى ( ترعت ) .
– يحظر صيد الوعول الحوامل والمرضعات في أيام الحج .
- يحظر على أتباعه إخراج ماشيتهم وخاصة الإبل وسوقها بطريقة تسبب لها الأذى ، ـ بمعنى تحريم ضرب الإبل أو إيذائها في أيام الإحرام ـ .
- يحظر على أفراد قبيلة سمعى نصب شباك صيد الحيوانات في أيام الإحرام ، أو عمل كمائن الاصطياد في تلك الأيام .
- يحظر في أيام الإحرام الجماع ـ ممارسة الجنس ـ ، وهناك نقش آخر وهو النقش الموسوم بـ ( CIH.533 ) يذكر أيضاً أن الجماع في الحج خطيئة يستوجب الاعتراف بها والتكفير عن ذنبها .
– يحظر على الأفراد أن يتباهوا بإبائهم في أيام الإحرام ، بمعنى أن الناس سواسية فـي تلك الأيام وأنه لا يفضل هذا أو ذلك من أجل منزلة أبائهم .
– تحظر النزاعات بين الأفراد في أيام الحــج .

الأعمال المشروعــة :
- يحل ذبح الماشية ، ولكن أن يكون الذبح في الوادي وليس في المعبد عند القمة ، وأن يكون الوادي مغلق ، وقد أمر ( تألب ) عن طريق الوحي أن تذبح ( سبعمائة من الماشية ) في اليوم الواحد ، والماشية التي تذبح لابد وأن تكون صحيحة وسليمة .
- يحل فرض ضريبة العشر فقط على الماشية .
- يتحمل الأقيال وسدنة وكهان المعبد في أيام الحج مراقبة أملاك معبد ( ترعت ) ، ويجوز لهم القيام بذلك على أساس صيانة أملاك الإله من الانتهاك .


إذا فخزاعة كانت سيدة مكة تلك التي أنشئت على غرار ما كان سائدا في جنوب الجزيرة العربية وتذكر الروايات إن سدانة الكعبة كانت بيدها وعندما برزت مكة كمركز ديني وتجاري بدأت تثور غرائز الأعراب المجاورين ولذلك تسللوا إليها مثلما تسلل بنو إسرائيل ( تلك القبائل البدوية ) إلى بلاد كنعان ولما قوت شوكتهم أنقضوا على السكان الأصليين وفتكوا بهم وهذا ما كان حيث تذكر الروايات أن مجموعة من أعراب شمال الجزيرة تم تجميعهم " تقريشهم " لذلك سموا قريشا وعندما أصبحوا قوة يعتد بها استولوا على مكة التي ظلت محتفظة باسمها السبئي ولم تسمى باسم قريش كما حافظت على طقوسها الدينية مع بعض التعديل حيث نقل الأعراب الشماليين تأثرهم بالميثولوجيا التوراتية مثل أسطورة إبراهيم وإسماعيل وكذلك بعض العبادات الوثنية التي كانت منتشرة في الشام وبلاد ما بين النهرين فظهر هبل " بعل " والعزى " الزهراء وأصبحت مكة تمثل
كوكتيل من الآلهة والعبادات مثل ما هو معلوم حيث اجتمعت ديانات الشمال والجنوب العربي وبعض الأثر لليهودية والنصرانية
كما أن العرب الشماليين بالإضافة إلى معتقداتهم الدينية نقلوا أيضا الحرف العربي الجديد وهو النسخة القرشية المعدلة للخط السرياني والذي يختلف عن الخط المسند العربي الجنوبي ( خط خزاعة ) والذي محي من التداول بعد سيطرة قريش على مكة لكنه ظل مخبوءا تحت رمال مأرب وقد تظهر الكشوف الأثرية مستقبلا أنه مخبوء في وديان مكة إن سمح بهكذا تنقيب
لقد امتلأت الكعبة بالأصنام التي كانت تمثل قرابين للآلهة وخاصة اله القمر المقه
فقد ذكر جواد العلي في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام أن رجال القبائل اليمنية كانوا يتقربون إلى الإله المقة بإهدائه تماثيل " أصنام " " صلمن " بلغة المسند . أي أن الأصنام كانت للتقرب إلى الآلهة وليست هي موضوع العبادة مثلما تحاول أن تصور لنا الروايات الإسلامية التي للأسف حاولت طمس التاريخ الحقيقي لمكة وصورت عرب ما قبل الإسلام بأنهم مجموعة من الجهلاء مع أن عرب جنوب وشمال الجزيرة قد أنشئوا حضارات عريقة وقد جاءت الكشوف الأثرية في القرنين السابقين لتفضح زيف ذلك التاريخ الذي صورته لنا تلك الروايات حيث يحق لنا أن نفخر بتلك الحضارات وتسامحها الديني وتعايش العبادات في مكة قبل الإسلام الذي نفتقد له للأسف في المجتمعات الإسلامية في القرن الواحد والعشرين