الحب في المنفى
يتحدث بطل الحب في المنفى عن نفسه قائلا: كنت مراسلا لصحيفة لا يهمها أن أراسلها .. ومن قبل كان قد أصبح مستشارا في هذه الصحيفة بعد أن ركنه نظام السادات ، ولكنه المستشار الذي لا يستشيره أحد. وهكذا نشأت العلاقة بين بطلنا و"بريجيت " على خلفية من الانكسار الشخصي والعام فالبطل أيضا مطلق فشلت قصة حبه وتحطمت على صخرة التحول القاسي في المجتمع وهي أيضا مطلقة فقدت طفلها من زوجها الافريقي الأسود " البرت " - بضربة من الشباب العنصري المعادي للسود وللعالم الثالث .
"أنا مثلك مطلق وأسرتي تعيش هناك ".
والعلاقة قتناقضة من البداية، فهو كهل وهي صبية يمكن أن تكون ابنته "قد اشتهيتها اشتهاء عاجز كخوف الدنس بالمحارم ..".
ولقد تحابا في الخريف والتقيا لأول مرة في مؤتمر صحفي نظمته جمعية طبية لحقوق الإنسان تدافع عن الذين يتعرضون للتعذيب في العالم الثالث . . ونعرف فيما بعد انهما معا يتجذران في الثقافة التقدمية "خريف من هوإذن ؟"
"كيف غاب عن عيني هذا الخريف الجميل الذي بدأ هذا العام مبكرا عن موعده ..."
"كنت يومها أطفو فوق تلك الموجة سعيدا ومغرورا - اني أنا -هذا العجوز، قد أحبته هي تلك الصغيرة الجميلة ..."
وعلى المستوى الرمزي سيكون الراوي هو الشرق القديم العجوز مريض القلب ومقطوع اللسان لأنه ضحية الاستبداد في بلده . . "أ نتهى عمري ولكني أحبك وكأني أبدا هذا
العمر.. ".
وستكون "بريجيت " هي أوروبا الجديدة أوروبا المستقبل البعيد المتحررة من التمركز على ذاتها الخالية من العنصرية والتعصب .
ان لبريجيت قصة حب مجهضة مع مناضل افريقي ضد الديكتاتورية، عرفته وأحبته أيضا عن طريق الثقافة التقدمية .
"لم أعرف البرت في المرقص لكني عرفته في المكتبة كان يعد رسالة عن لوركا" .
وعلى امتداد الرواية لن تكون أوروبا شيئا واحدا ولا مختزلا تماما كما أن - الشرق أومصر ليسا شيئا واحدا أو كتلة متجانسة، كل أمة هي أمتان على طريقتها وان كانت الأمة المهيمنة أقوى بما لا يقاس هنا وهناك .
سوف نتعرف على "برنار" الصحفي التقدمي القادم من أصول عمالية الذي يملك الشجاعة لانتقاد اسرائيل والصهيونية رغم التحريم العام والحماية المفروضة ضمنيا عليهما حتى بعد أن تبينت الحقائق المرعبة حول مذبحة صبرا وشاتيلا "فهي الصحفية الوحيدة على ما أظن التي تشن حملة على استخدام اسرائيل للقنابل المحرمة دوليا ضد المدنيين في لبنان " .
وهناك "ماريان اريكسون " الممرضة النرويجية التي عملت مع الفلسطينيين في المخيمات وشهدت المذابح .
"مع المدفعية الثقيلة التي كانت تدك البيوت والأرض تحولت معظم هذه المخابيء الى مقابر لمن لجأوا إليها، وكانوا يتكدسون بالعشرات أطفالا ورجالا ونساء في هذه المخابيء ، رأيت واحدا منها وقد تحول الى بحيرة صغيرة تطفو فوقها رؤوس ، وسيقان وأذرع واستطعت أن أحمي الجثث الطافية..."
وحين يسالها الصحفيان لماذا ذهبت الى لبنان تقول :
"بعد أن سافرت كممرضة عادية أول مرة ذهبت بعد ذلك لأني لم أصدق ما رأيت لم أصدق أن شعبا بأكمله يمكن أن يكون مباحا للقتل ، وأن يكون دمه رخيصا الى هذا الحد. . مازلت حتى الآن لا أصدق أن كل هؤلاء الآلاف يموتون لأن ، هناك شخصا واحدا ضربه مجهول بالنار في لندن ..
أنا لم أنجب أطفالا وكانت في نفسي غصة لذلك ولكن عندما شاهدت عذاب كل الأمهات هناك وكل هؤلاء الأطفال ". . تجرى عملية استدعاء تاريخ الصراع بين أوروبا وذاتها لتبرز لنا أوروبا الأخرى فنجد " رالف " اليهودي الامريكي المعادي للصيونية الذي يشارك في مظاهرة العرب ضد المذبحة ويخطب فيها.
"كنت أول من دخل صبرا بعد المذبحة إن أبي أيضا قد قتله هتلر في أوشفيتز ولكن عندما رأيت ما حدث في صبرا وشاتيلا عرفت أنه مات مرتين ، لأن - من أبيدوا في صبرا وشاتيلا هم أيضا ستة ملايين . . ويحدث استدعاء آخر للصراع القائم في الزمن المضارع على أشده فنجد أنطوان النائب الاشراكي - والاستاذ الجامعي الذي ظل على مدى سنوات ينشر كتبا ومقالات عن استغلال الغرب وشركاته الكبيرة لبلاد العالم الثالث كان يقول دائما أن البلاد الفقيرة تدفع ثمن رفاهية البلاد الغنية ويثبت ذلك بالأرقام والاحصاءات وعقب كل كتاب له كانت الشركات ترفع عليه قضايا واعتدت ان أجد في صندوق البريد منشورات غير موقعة تطالبني بالحاح بألا أعيد انتخاب هذا النائب للبرلمان ..."
وعلى الجانب الآخر من الشرق أو في الوطن العربي سوف . تحكي لنا الممرضة النرويجية في الماضي القريب عن "غسان حمود" اللبناني صاحب المستشفى - الخاص في الجنوب اللبناني "قال لي هذا مستشفى خاص له سمعته ومرضاك قذرون للغاية . . لابد لي أن أحافظ على سمعة المكان . . ولم تنفع معه أية محاولة فعدت بمرضاي وتركتهم أمام باب المستشفى الحكومي . . " .
وزمن آخر للاندماج بين رؤوس الأموال فنجد الأمير النفطي "حامد" الذي يمتلك المليارات ويعيش في قصر منيف في هذه المدينة الأوروبية الساحرة ويشارك رؤوس الأموال اليهودية في تجارة الخيول العربية "في الواقع يا يوسف إن أميرك هو أكر شريك لدافيديان الرأسمالي الصهيوني المهاجر من مصر".
ولكل من الراوي وبريجيت طفولة تعيسة ولكن التعاسة نسبية فقد كان فقر الراوي ، الناصري ابن فراش المدرسة شأنه شأن غنى صديقه الشيوعي ابراهيم المحلاوي نقمة عليهما تركت ندوبها في روحيهما . ودفعتهما معا للبحث عن خيارات أخرى عن مستقبل آخر.
ولكن تعاسة "بريجيت" تعود لتعلقها بأبيها ومعرفتها بوجود عشيق لأمها، وعجزها عن بسط حمايتها على الأب من طغيان عشيق الأم" مولر" المفتون بذاته والمنغمس فيها والذي ينهض في هذا النص كمعادل لأ وروبا المزيفة التي تتباهى بحضارتها وانسانيتها.
تتحطم تجربة الحب على صخرة تواطؤ الرأسمالية العربية النفطية الشرسة مع الرأسمالية الأوروبية فتطرد بريجيت من عملها وتستدعي الجريدة الراوي الى مصر لأنها ستغلق المكتب من باب التقشف . . ويعود كل منهما الى بلده بعد أن عاشا معا تجربة حب للمستقبل تنحل فيها كل الثنائيات وتنشيء التناقضات واقعا جديدا.
وسوف نكتشف في مقارنتنا بين الروايتين العلاقة بين الحضارتين ان -الفارق بينهما ليس زمنيا فقط بين منتصف القرن ونهايته ، ولكنه أيضا فاسق فكري ورؤيوي ومعرفي وجمالي ينعكس على بنية الروايتين وموقف الكاتبين برؤيتيهما للعالم ، وعلى الأخص صورة امرأة الشرق وامرأة أوروبا.
يقع الزمن الروائي في قنديل أم هاشم في مصر معظم الوقت على العكس من الحب في المنفى وأوروبا عند " يحيى حقي " هي بلاد برة هي الأخرى بصورة مطلقة تتسق مع السرد الخطي الذي يتم على لسان الطفل الصغير ابن شقيق البطل الذي يحكي حكاية عمه من الطفولة حتى الموت .. ويتبادلان الحكى هو واسماعيل على العكس من " الحب في المنفى " التي تتعدد فيها الأصوات ، تعددا هائلا يغني الأفكار الجديدة التي تنطوي عليها الرواية حول علاقة الشرق بالغرب .
وبينما تتقدم مصر على طريقة السلحفاة فان الشمال الغني يقفز قفزة هائلة ان يكاد تساؤل الراوي في قنديل أم هاشم - " ما هذا الظلم الخفي الذي يشكون منه ، وما هذا العبي الذي يجثم على صدورهم جميعهم . ." - أن يتكرر بحذافيره وربما بنفس الألفاظ حين يقف الفتى للأ ابراهيم له بيى الأغنياء الريفيين وقفة مشابهة ويتساءل أيضا عن الظلم وامامه فلاحون يتعرضون لأنواع الاستعباد والقهر والنصب وهم مذعورون . جاءتنا "ماري" في قنديل ام هاشم مكتملة فردا حرا كامل الحرية جاءت نموذجا دقيقا لامرأة بل لانسان أوروبي أطلقت الرأسمالية والتنوير والعقلانية طاقاته وسلحته بالعلم والإرادة الحرة بينما بقيت فاطمة حتى بعد أن عالجها اسماعيل وتزوجها رحما للانجاب الكثير لايريد أن يرى وجه فاطمة لمه أو يسمع صوتها، فاطمة ضحيته ومع ذلك لم تثر، لم تشك لم تلمه أسلمت إليه نفسها عن رضا، تسبب لها في التلف فما قالت لذابحها تريث ، وتأتي "منار" التي تمردت على أرث فاطمة والقهر الذي تعرضت له ودافعت عن حرية المرأة وأحبت وتزوجت من اختاره قلبها لتعود في آخر رحلتها وتضع الحجاب متنكرة لكل ما دافعت عنه ، تحملها موجة النزوع السلفي والعودة الى الماضي شأنها شأن ابنها اللامع لملاخالد" الذي يمنع أخته من الذهاب الى النادي ويقول ان " الشطرنج " حرام في بلد تهيمن عليه التبعية والرأسمالية الطفيلية وترز فيه النزعات المحافظة والمعادية للعقل .
أما بريجيت حفيدة "ماري" التي حققت حريتها وتكاملها الانساني في اختباراتها الصعبة فانها. تنضج فاذا كانت الرأسمالية قد حررت "ماري" الى الأبد فانها قذفت بها الى ما يمكن أن يهدد انسانيتها من "فراغ الروح" ذلك الفراغ الذي تملؤه (بريجيت) بقصص حبها المجهضة لكن المفتوحة على المستقبل الآخر للبشرية الذي تتحطم فيه السدود بين الشعوب وتتحاور الحضارات ، حوارا نديا أساسه الحب والمساواة وتنحل ثنائية الشرق والغرب الروح الجسد المرأة الرجل ليبرز الانسان غنيا ومتنوعا متضامنا ومحبا حين يكون تجاوز هيمنة رأس المال والعنصرية والاستغلال امكانية ولو صغيرة لكنها مفتوحة للمستقبل ، في قنديل أم هاشم لا نجد سوى مصر واحدة متجانسة جاءت من الأزل سوف تبقى الى الأبد، ويبلغ هذا ا لتجانس المفعم بالحنان ان اسماعيل ينظر الى البشر في الميناء وهو عائد الى مصر بعد الغربة ليرى" خواننا المحتلين".
كذلك فان أوروبا هي واحدة متجانسة هي "ماري" وذلك على العكس من الحب في المنفى "حيث مصر هي اثنتان وكذلك أوروبا التي ينشأ فيها جنين الحب الجديد.
في العلاقة بين "اسماعيل" "وماري" تلعب ماري دور القائد اسبر الشجاع ولا يحدث العكس في علاقة راوي الحب في المنفى مع "بريجيت" بل إن في هذه العلاقة نسية وانسجاما بل وتجسيدا لشباب ذلك العجوز الذي يعشق فتاة له ضعف عمرها، وتنهل الحب في المنفى من النبع الثري للعلوم الحديثة من علم النفس للسياسة للاجتماع وتوظف هذه المعرفة توظيفا جماليا وتعليميا بينما تنصب المعرفة في قنديل ام هاشم على خبايا الروح المطلقة اتساقا مع رؤية كاتبها وفلسفته المثالية الرومانسية التي تقف على الطرف الآخر للرؤية الواقعية لـ"الحب في المنفى" وقد انعكست هذه المنطلقات على بنية اللغة واستراتيجية السرد والعلاقات الداخلية لكل من الروايتين وهذا موضوع آخر .
ويقع يحيى حقي في أسر الصورة التقليدية التي راجت في ظل ثقافة مليئة بالتحيزات ومديح الذات "العفيفة" في الشرق فيطلق الحكم المعمم التالي على لسان الكاتب لا البطل ولا الراوي : "نساء العصر الحديث! كم ذا يواجهن الاحتمالات بقلوب ثابتة شجرة الحياة أمامهن مثقلة بالثمر منوعة لهن شهية مفتوحة فلم اليأس والبكاء على ثمرة والشجرة مفعمة؟ وهو يجرد هذا الحكم من واقعيته وملموسيته حول تجربة إسماعيل مع ماري لتكون كل نساء العصر الحديث من وجهة نظره مقبلات وراغبات في اقامة علاقات جنسية متعددة في آن واحد بصرف النظر عن الحب ويصبح الجنس المجرد من المحتوى الانساني والعاطفي وكأنه هدف قائم بذاته .
بينما تدلنا التجربة الواقعية الملموسة "بريجيت " و"البرت" في رواية بهاء طاهر على العكس تماما ومن بعدها علاقتها بالراوي ان للجنس محتوى انسانيا وليس مجرد علاقة ميكانيكية عابرة ، هما روايتان علامتان دالتان كل بطريقتها تعالجان بتقنية عالية معضلة ما تزال قائمة وسوف تبقى لزمن قادم هي علاقة الشرق والغرب على مستويات متعددة.
http://www.nizwa.com/volume9/p103_107.html