شكراً فارس، فلقد أرحتني من عناء الكثير مما كنت أود قوله أمام مقال كهذا. بقي لي بضع ملاحظات قليلة:
1) قول الكاتب بأن "الغرب" تدخل لإسقاط الخلافة العثمانية قد يشي للبعض بأن همّ "الغرب" في القرون الماضية كان إسقاط "خلافة بني عثمان"، أو ان الغرب كان "عدواً" لتلك "الخلافة التركية"، وهذا ليس صحيحاً!! فالغرب (متمثلاً بإنجلترا خاصة في مثالنا هذا) كان الحامي الأكبر لتلك "الخلافة" المشؤومة، التي تركت، أو كادت تترك، أرضنا، بعد "استعمار" 400 سنة، قاعاً صفصفاً. فالامبراطورية العثمانية، دون الدعم الغربي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ما كان لها أن تبقى ساعة واحدة في الشرق أمام الضغوط الروسية من الشمال، وحركات المقاومة الانفصالية في أقاليمها نفسها. بل ان حركة مثل حركة "محمد علي باشا" لم تكتف بملك مصر فقط، ولكنها امتدت إلى بلاد الشام ووجهت انظارها إلى تقويض ملك "بني عثمان" في "استانبول" (ولم يوقفها إلا تدخل الأسطول البريطاني المباشر في الحرب وإيقاف مشروع "محمد علي" التوسعي بعد معركة بحرية مشهورة – "نافارينو"-.)
2) مصطلح "الغرب" نفسه (والذي يقصد به "أوروبا الغربية" عامة) في كثير من الكتابات العربية عموماً والاسلامية خصوصاً يدعونا إلى الحذر وتوضيح أمر هام هو أن الغرب لم يكن يوماً "واحداً موحداً" في مواجهة المسلمين (حتى أيام الحروب الصليبية نفسها). فالنزاع بين الممالك والشعوب الغربية الكبرى لم يتوقف أبداً على مدار التاريخ. وما سفكه الغربيون من دماء بعضهم البعض يفوق بأضعاف مضاعفة ما سفكوه في نزاعاتهم مع العالم الخارجي. هذا الفهم المبني على الواقع والتاريخ (والنزاعات بين فرنسا وانجلترا والمانيا في القرون الماضية كثيرة عديدة) يبعدنا عن تبني نظرية "المؤامرة" التي تروق للإسلامويين كثيراً في أحاديثهم التي تنقطع عن "المؤامرات الغربية".
3) يقول الكاتب :
اقتباس: ولكن تدخل الغرب في إسقاط الخلافة العثمانية، واحتلاله للبلاد العربية والإسلامية إثر الحرب العالمية الأولى، فرض على الحركات الإسلامية الإصلاحية أن تتحول الى حركات تحرير ومقاومة للاستعمار، ومعها حركات تحرر وطنية وقومية كانت أقل شأناً من الحركات الإسلامية في مقارعة الاحتلال وتحرير البلاد منه. ولكن نتائج تلك الثورات التحريرية لم تكن عادلة سياسياً، فقد أعاق الاستعمار وصول الحركات الإسلامية الجهادية الى السلطة السياسية، مما مكّن الحركات والأحزاب الوطنية والقومية من الوصول الى سدة الحكم وحدها،
لا أعتقد بأن الكاتب جاد في ما يقوله بخصوص ما يسميه "بالحركات الاسلامية الجهادية" وأعتقد بأنه يتجنى على الحقيقة ويهذر كثيراً عندما يقول بأن "حركات التحرر الوطنية والقومية" كانت أقل شأناً من الحركات الإسلامية في مقارعة الاحتلال وتحرير البلاد منه. طبعاً، نحن نتفهم جيداً بأن الكاتب تركي، ولعله لم يقرأ جيداً تاريخ الدول الوطنية العربية في القرن الماضي وتحررها من الاستعمار. فرصيد ما يسميه "بالحركات الاسلامية الجهادية" صفر أو يكاد يقترب من الصفر في الشرق الأوسط عامة وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن ومصر على وجه الخصوص، طبعاً، هناك "الإخوان" في مصر (منذ 1928) ولكنهم حركة "مستجدة" على التاريخ الوطني المصري، بل ان "ثورة 1919"، وهي من أجمل تجليات الوعي المصري الوطني، انطلقت وحققت الكثير من أهدافها دون "حسن البنا" وغلمانه، فزخم الشارع المصري في النصف الأول من القرن العشرين كان يتمثل، أكثر ما يتمثل، في "حزب الوفد" (قبل انقسامه، ومع ما تفرع منه بعد انقسامه). طبعاً، نستطيع دائماً أن نزعم أن "سعد زغلول" كان تلميذاً "لمحمد عبده"، ولكن "سعد" لم يكن "إسلاموياً" ولم يكن من تلك "التيارات الاسلامية الجهادية" التي يتحدث عنها الكاتب؛ لا هو ولا "النحاس" بعده وبالطبع لن يكون "مكرم عبيد" إسلامياً جهاديا.
أين هي "الحركات الإسلاموية الجهادية" التي يتحدث عنها الكاتب في تاريخ التحرر من الاستعمار في البلاد العربية؟
نحن لا نجد شيئاً من هذا، وعندما نجد بعض "الإسلامويين الجهاديين"، فإن أمرهم وأمر حركتهم – على الغالب – لا يعدو كونه "فرقعة صغيرة" لا يؤبه لها. هذا مثلاً ما كان من حركة "الشيخ عز الدين القسام"، الحلبي الذي كان يحارب الإنجليز في غابات "معبد"، في فلسطين. ولو لم تنبش عن تاريخه "حركة حماس" وتسمي جناحها العسكري باسمه، فإن اسمه كان سيسقط حتماً من ذاكرة الأيام.
في سوريا، الوجهاء وكبار التجار هم المسيطرون على السلطة. ومن وقف في وجه الاستعمار الفرنسي عند مجيئه كان "الوطنيون السوريون خلف الملك فيصل". وعندما هُزم الهاشميون في سوريا وانتهى جيش "يوسف العظمة" في معركة "ميسلون"، خرج بعد فترة وجيزة "سلطان باشا الأطرش" (الدرزي) كي يعلن الحرب على الفرنسيين. من ناحية أخرى نجد حراكاً في جبال العلويين ينبيء بالثورة، ولكننا لا نجد تلك "الحركات الجهادية" ولا نعثر على مقارعة لها للاحتلال على الصعيد الوطني في الشرق. وعندما ظفرت "سوريا" بالاستقلال، تصدرت "الكتلة الوطنية" (شكري القوتلي وفارس الخوري ..إلخ) الدولة السورية الحديثة.
طبعاً، لسنا بحاجة للحديث عن "لبنان" الذي تحالفت فيه القوى المختلفة، وخصوصاً الموارنة (بشارة الخوري) والقيادات الوطنية للسنة (رياض الصلح) في الاستقلال بلبنان الكبير.
يعني باختصار، ما يحدثنا به عن بلاء "الحركات الجهادية الإسلاموية" في تاريخ الدول الوطنية وتحررها من الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين، ليس إلا محض أوهام أو حوادث صغيرة مبالغ بها.
وقد تكون لي عودة أكثر تأصيلاً إلى هذا الموضوع .....
واسلموا لي
العلماني