العلمانية تعني أنه يمكن أن نفهم هذا العالم ، و أن نحيا هذه الحياة بأخلاقيات قائمة على العقل ،


................................
الزملاء الأعزاء .
استردافا للمداخلة التأسيسية السابقة ، أود ان أضيف بعض المستتبعات التعريفية للعلمانية .
1- يختلف معنى مصطلح العلمانية من نسق إلى آخر ، و في هذا الصدد لدينا ثلاث مجالات أو أنساق مختلفة لممارسة العلمانية ، مع التأكيد على حقيقة أن الإنسان الذي يحبذ أحد صور العلمانية أو مجالاتها ، لا يعني أنه يكون علمانيا بشكل تلقائي في المجالات الأخرى ، و أتمنى أن يدقق الزملاء هذه الحقيقة ، فنظرا لحداثة تعامل العقلية الشرقية مع مفهوم عقلاني بارد كالعلمانية ، نجد أن معظم الساعين لممارسة التحضر و المعاصرة يسقطون في فخ العلمانية المجزأة ، قيحبذون بحماس جانبها الفلسفي مثلآ بينما يظلون محافظين بل و أصوليين إجتماعيا و سياسيا ! .
أ . على المستوى الفلسفي العلمانية تعني أنه يمكن أن نفهم هذا العالم ، و أن نحيا هذه الحياة بأخلاقيات قائمة على العقل ، بعيدآ عن الأدبيات التي تتحدث عن الآلهة أو غيرها من الغيبيات الأسطورية .
ب . على المستوى الإجتماعي فالعلمانية تعني طيف واسع من المواقف لا تشترك سوى أنها لا تقوم على المعتقدات الدينية ، و أنه لا يفترض فيها أن يكون الدين مجالا للمشاركة العامة الواجبة ، و أن الإنسان مكلف أخلاقيا وفقا لشرائع دينية بعينها ،و ان المجتمع يراقب الإلتزام بهذا التكليف و يعاقب أو يثيب أعضائه وفقا لعقيدة بعينها .
ج . سياسيا أو حكوميا تعني العلمانية أنها السياسة التي تتجنب الجمع بين الدين و الممارسات السياسية ، هذه القطيعة تنراوح بين تخفيض العلاقات بين المؤسسة الدينية و الدولة ، إلى قيام السلطة السياسية بتروييج قيم العلمانية بين المواطنين . كما تتفادى الحكومة التمييز بن الأديان المختلفة طالما تعترف تلك الأديان بتفاضل القانون العام على الإجتهادات الدينية ، كذلك تقوم الحكومة بالمساوة بين المواطنين بصرف النظر عن طوائفهم ،و في حالة تعارض مبدأ المواطنة مع القواعد الدينية ، تعطى الأولوية للمواطنة القائمة على حقوق الإنسان العالمية ( الإعلان العالمي لحقوق افنسان ) و المواثيق التابعة و الملحقة .
2- رغم أن العلمانية تنطلق من مبدأ أساسي واحد هو فصل الدين عن الممارسات الإجتماعية و السياسية ، إلا أن الجدل و الطروحات العلمانية تتفاوت من مجتمع إلى آخر ، ففي أوروبا حيث يستخدم المصطلح ذو الجذر الفرنسي laicism للتعبير عن العلمانية ، كان يتم النظر إلى العلمانية بمثابة حركة تهدف إلى التحديث بعيدا عن القيم الدينية التقليدية ، و بالتالي ففي أوروبا كانت العلمانية دائما حركة فلسفية و إجتماعية في مواجهة الدولة الكنسية القائمة في أوروبا وقتئذ ، أو الدولة المدعومة كنسيا ، وهو كما واضح الحال الآن في العالم الإسلامي ، أما في أمريكا حيث لم تظهر الدولة الكنسية أساسا ، فالعلمانية استخدمت على الوجه الآخر أي لحماية الأديان من تدخل الدولة ، أما على المستوى الإجتماعي و الفلسفي فلم تكن العلمانية بذات الوضوح أو الأثر .
3- العلمانية ليست منتجا مسيحيا على وجه اليقين ، و لكنها نمت على جذور ثقافية تعود إلى الفلاسفة الإغريق و الرومان مثل أبوقراط و ماركوس أوريليوس ، و الموسوعيين المسلمين polymaths من العصور الوسطى خاصة المعلم الثاني للبشرية ابن رشد ، و الذي مضى بلا إمتداد حقيقي بين المسلمين ،و لكن تأسست على أفكاره مدرسة تنويرية غربية ، كذلك نمت العلمانية على مفكري عصر التنوير مثل فولتير و جون لوك و دينيس ديتروت و توماس بين ، كذلك على اسهامات نافذة لمفكرين لا ادريين و ملحدين و أحرار مثل برتراند راسل و روبرت انجرسول .و لمزيد من التوسع في هذه الفرعية سيكون مفيدا العودة لشريط بهجت في نادي الفكر ( مستقبل الدين في عالم ليبرالي ).
هنا
4- كان جورج جاكوب هولي أوك ( George Jacob Holyoake)هو أول من أدخل مصطلح العلمانية Secularism في بداية الخمسينات من القرن 18 لوصف منظومة الأخلاقيات و الفعاليات الإجتماعية التي تتشكل كلية وفقا للإعتبارات الواقعية بعيدا عن المعتقدات الدينية ، وقد اشتق المصطلح من مصطلح آخر أبكر كثيرا هو مصطلح التعليم العلماني secular education ، الذي يستخدم لتمييز أنواع التعليم التي تنفصل كلية عن التعليم الديني .و تشكلت المجتمعات العلمانية المحلية في بريطانيا منذ منصف خمسينات القرن 18 لتشمل معادين للسلطة الدينية و راديكاليين ملاحدة من أنصار أنصار ريتشارد كارليل و روبرت أوين ، و في عام 1866 تم جمع هؤلاء جميعا في المجتمع الوطني العلماني بواسطة تشارز برادلاف ، ومما يدعوا للسخرية ان هذه الحركة العلمانية ضعفت منذ منتصف 1880 لسبب غريب و لكنه طبيعي هو طغيان مظاهر العلمانية على المجتمع بحيث أصبحت حملات الدعوة للعلمانية بلا قضية وبالتالي غير ضرورية .
5- طبقا لباري كوسمين Barry Kosminيمكن تقسيم العلمانية من حيث موقفها من الدين إلى نوعين محددين : النوع الأول هو العلمانية الصلبة hard و النوع الثاني العلمانية اللينة soft ، العلمانية الصلبة ترى أن السلمات الدينية غير مشروعة حيث لا تدعمها النجربة ولا العقل ، بينما تتساهل العلمانية اللينة و التي أصفها بالرخوة ، التي تتبنى فكرة أنه طالما كانت الحقيقة المطلقة مستحيلة ، فلابد من تبني مقتربا آخر في التعامل مع العلم و الدين هو مقترب التسامح و التشكك في الجميع ، هذا النوع من العلمانية المتساهلة و المربكة ظهرت كأحد منتجات عالم ما بعد الحداثة حيث عدم اليقين يسود كافة الأنساق الفكرية .