" إننا نحيا زمانا عادت فيه اللاعقلانية لتصبح عصرية " . كارل بوبر

هل تنتكس العلمانية ؟.
( ا من 2 )

......................................................
مرحلة ما بعد الحداثة مصطلح من الصعب تعريفه ، و لكنه يستخدم للإشارة إلى نوع خاص من التفكير الثقافي الناقد للحداثة ، فهو يتشكك في حقيقة وجود القيم العليا التي قامت عليها الحداثة مثل التقدم و العقلانية ، هذا التعبير يستخدم للإشارة إلى الأفكار التي تناقش مرارا و التي تؤكد أن عصر الحداثة قد انتهى بالفعل ، و يتفق الجميع تقريبا أن أفكار ما بعد الحداثة كان لها تأثير كبير على الفلسفة و الفن و الأدب و تفسير التاريخ منذ نهابة القرن 20 ،ومن أبرز ملامحها : التشكك الدائم في قيم الحداثة مثل العقلانية و التقدمية –الاعتقاد أن الإتصالات قامت على الفوضى الثقافية و الأساطير و الأوهام – الإعتقاد بأن التجربة ذاتية ولا يمكن نقلها موضوعيا بواسطة الآخر – السخرية و الذاتية و البداهة – قبول التماثل و الإعلام الجماعي و افتقاد الفردية – العولمة و اللامركزية .
و منذ دخول العالم هذه المرحلة بدأ الخطاب الغربي يفقد كثيرا من عقلانيته (علمانيته) ، و بدأ الإنفتاح على الثقافات الأخرى بما في ذلك الثقافات الطرفية التاريخية ، و التي تنتمي فكريا لحقب سابقة موغلة في الخرافة ، وهذا يقود العقل الغربي إلى سلسلة من المساومات و التنازلات مع الأصوليات الطرفية كالأصولية الإسلامية و اليهودية ، و من التناقض المنطقي أن تلك التنازلات تتم باسم الحريات الليبرالية و التعددية الثقافية ، التي هي في أساسها منتجات علمانية !، وقد استغلّ ممثلو الثقافات التاريخية الطرفية روح عدم اليقين و التشكك التي تتسم بها مرحلة ما بعد الحداثة ، لتزكية أصوليات ثقافية متردية ، ووضعها على قدم المساواة مع حزمة الثقافات القائدة التي صنعت الحضارة المعاصرة ، أكثر من ذلك و نظرآ للثقة المفرطة التي تميز الأصوليات اللاعقلانية ، راحت تسعى بإلحاح إلى تكريس حضورها الثقافي في الفضاء الجدلي المعاصر ، و قد تنبه بعض الفلاسفة الليبراليين إلى خطورة تجاوز العقلانية للخروج من حالة التأزم الغربية ، و هذا ما فعله كارل بوبر في كتابه الشهير ( أسطورة الإطار ) الذي وضع له عنوانا فرعيا هو ( في دفاع عن العلم و العقلانية ) ، فهو يطالب بالنقد العقلاني ،و ليس الرفض السلبي ، ناهيك عن العويل الرومانتيكي و التشاؤم العبثي غير المسؤول على نهج الفلسفة الوجودية ، فهو يقول في كتاب آخر ( بحثا عن عالم أفضل ) : " إننا نحيا زمانا عادت فيه العقلانية لتصبح عصرية ، لذا أبدأ بالقول أنني أعتبر أن المعرفة العلمية هي أفضل و أهم ما نمتلك من معارف " .
هذا التأزم في الحضارة الغربية ليس عارضا و لكنه ناتج عن إنتهاء الحداثة كمرحلة تاريخية مصيرها إلى الزوال كغيرها من المراحل التاريخية ، إن نموذج العالم الذي صنعه الإنسان خلال القرون الثلاث الأخيرة تبخر معظمه خلال العقود الثلاث الأخيرة ، يمكننا بلا عناء رصد إنهيار اليسار بمعناه الواسع .. الماركسي و الإشتراكي الديمقراطي ، و سقوط وفشل الأنظمة التي أنتجتها حركات التحرر الوطني و تبخر أمل أو وهم الطريق الثالث ، بل حتى هناك شكوك قوية تحيط بمستقبل الليبرالية المنتصرة في الغرب ،و التي بشرنا فرانسيس فوكوياما يوما قريبا بأنها نهاية التاريخ ، بينما يدلل الآن مفكر كبير بحجم إيمانويل فاليرشتاين على سقوطها الوشيك أيضا .
هناك إجماع كبير بين أفضل العقليات الذين يتم إقتباسهم على نطاق واسع أن العالم الذي نعرفه في طريقه للإختفاء خلال الخمسين عاما الأولى من القرن 21 ، و ستكون تلك الحقبة الإنتقالية من أصعب حقب التاريخ و أبعدها عن الإستقرار ، نعم ربما يغادر العالم نظامه القديم إلى مستقبل مشكوك فيه و يكتنفه الغموض ، رغم هذا فالتغير حتمي والبقاء لا يكون أبدا في مكان .
إن النظام العالمي الحديث لم يكن نهاية التاريخ بل هو مجرد منظومة تاريخية مميزة كان لها بداية و تطور وهي الآن تدخل أزمة النهاية أو الإحتضار ، نحن نعاين بالفعل إرهاصات هذه التحولات الكبرى ، هناك تغيرات عديدة تطرأ على النظام العالمي على مختلف الأصعدة ، هذه التغيرات تفرض على الشعوب البت في خيارات متعددة و التنبؤ بتداعياتها ،وبهذا هي تطرح على البشرية تحديات غير مسبوقة ،و لن يكون مجديا تأطير الجدل حولها في نفس الصيغ العقلية القديمة ، فما بالك بمجتمعات تحولت عن العقلانية المحدودة التي عرفتها بالكاد إلى دوجما مضحكة من عينة ( الإسلام هو الحل ) ، هناك تعبير شهير أنه في اللحظات الفارقة من التاريخ فإن أي مدخلات صغيرة تكون لها مخرجات كبيرة ، و سوف يحصد المستقبل من يساهم بأكبر نصيب في إعادة تشكيل الحاضر ، إن الذي لا يساهم في صنع الكعكة لا يتوقع أن يأكل منها ، و لكننا للأسف لا نتوقف عن الهروب إلى الماضي كحالة غير مفهومة من التخلف العقلي الجماعي ، ولو ظللنا مختبئين في كهوفنا كما نفعل الآن فسوف يصنعون عالما لن يكون لنا مكانا فيه ،بل حتى التعفن داخل نفس الكهف لن يكون متاحا .
هنا لا بد أن نتوقف لنؤكد على حقيقة أنه لم يكن ممكنا الإنتقال من العصور الوسطى إلى الحداثة بدون المرور بالتنوير و ما أحدثه من قطيعة ابستمولوجية تامة مع المدرسة الإسكولارية و التفكير العرفاني الغيبي القائم على الكتاب المقدس ، و بالتالي فالعلمانية لا تعني ترشيد الخطاب الديني ، كما يعتقد بعض المسلمين حسني النية ، و لكنها رؤية عقلانية هيومانية مجردة للعالم ، ومن هنا لا يمكن حصر العلمانية في مجموعة من الإجراءات القانونية أو من المواقف السياسية أو من الأساليب الفكرية، و لكنها أبعد كثيرا من ذلك ، فالعلمانية تتفارق كلية عن الغيبيات و عن إحتكار الحقيقة المتعالي .
أي أن الإختلاف كما نكرر دائما هو في المقترب ، في رؤية العالم world view ، ولو حدث تشابه بين المنتجات العلمانية و المنتج الديني ( الإسلامي على سبيل المثال ) فسيكون ذلك شكليا و بالصدفة البحتة ، فوجود ترس ما في شادوف بدائي و آخر في صاروخ عملاق لا يعني أن الشادوف و الصروخ ينتميان لنفس الحضارة ،و لكن المشكلة هي في وجود حالة عقلية أصبحت لا تدرك تفوق الصاروخ على الشادوف ،و تراهما فقط مختلفين دون مفاضلة بينهما ، و بالتالي نجد أمامنا فوضى تامة من الأفكار التي تنتمي لمختلف الثافات و الحقب التاريخية ، و هناك من يطالبنا أن نعامل الجميع على قدم المساواة !.
إن واجب العقل المتحضر المبادر هو أن يعيد بناء العلمانية ، و لكن ما يحدث بالفعل أن عمليات تفكيك العلمانية تجري على قدم و ساق ، هذا النموذج من العلمانية المهترئة أصابها الزهايمر ، فصارت تفتقد لذاكرتها و رصيدها المجيد الذي حققته خلال عقود طوال ، إن العلمانية الحقيقية لن تقبل أن تتنازل عن إنجازاتها التاريخية بدعوى التسامح و سعة الأفق ،و لكنها تلك التي أنجبت نيتشه وهو يقول :
(حين نسمع دقّات الأجراس القديمة صباح الأحد نتساءل: أيُعقل كلّ هذا! من أجل يهوديّ تمّ صلبه منذ ألفي سنة وكان يدّعي أنّه ابن الله. إنّ الإثبات الذي يحظى به هذا الادّعاء ينقصه البرهان، - مؤكّد أنّ الديانة المسيحية قدم ينحدر من ليل العصور حتى قلب عصرنا، والإيمان الذي يحظى به هذا الإثبات المزعوم – والحال أننا عادة ما نكون صارمين في اختبار الادعاءات – هو لا شكّ أقدم جزء من هذا الإرث. إله تلد منه امرأة فانية؛ حكيم ينصح بعدم العمل، بعدم العدل وبمراقبة علامات الساعة الوشيكة؛ عدالة تقبل اعتبار البريء ضحية بالنيابة؛ واحد يأمر أتباعه بشرب دمه؛ صلوات من أجل حدوث المعجزة؛ خطايا ترتكب في حقّ إله ويكفّر عنها إله؛ الخوف من ماوراء بابه الموت؛ اتّخاذ الصليب كرمز، في عصر لا يعرف غاية الصليب ولا خزيه؛ - أية قشعريرة رعب يبعثها فينا كلّ هذا، كنفثة تنبعث من قبر ماض سحيق! من يصدّق أننا لا زلنا نؤمن بمثل هذه الأشياء ؟ ). (فريدريك نيتشه – إنسان مفرط في إنسانيته – كتاب العقول الحرة – ترجمة : محمد الناجي – أفريقيا الشرق –المغرب – 2002- ص. 79-80).