" تعتمد جميع الحركات الأصولية للأديان الإبراهيمية الثلاث على أساليب متماثلة في العنف و القسوة عندما تستشعر أي خسارة أو هزيمة مهما صغرت." كارولين فوريست .
....................................................
أيها العلمانيون .. اتحدوا!.
........................
من خصائص الأصولية الدينية إحتكار الحقيقة ، و انتحال صفة المتحدث الحصري عن المشيئة الإلهية ، و بالتالي فالأصولية بطبيعتها شمولية إستعلائية ،و هي أيضا إقصائية لا تقبل التعددية أو الفردية ، لهذا فالأصوليات محكومة بالصراع فيما بينها بدون أية إمكانية للتعايش القائم على التفاوض و المساومة ، فالمطلق لا يقبل بما دون الإذعان المطلق ، رغم هذا فمن الملاحظ عمليا أن الأصوليات تلجأ إلى التهادن المؤقت ، بل و كثيرا إلى التحالف في مواجهة العلمانية والديمقراطية لأنهما تأخذان بالقانون الوضعي الإنساني ، و بالتالي تنسفان الأساس القداسي الذي تقوم عليه الأصولية .
على النقيض من العلمانية لا تستطيع الأصوليات الدينية البقاء و الازدهار سوى في أجواء الصراع و التوتر ، و كما توضح الكاتبة الأمريكية كارولين فوريست ( تعتمد جميع الحركات الإيديولوجية واللاهوتية والسياسية التي تنتمي للأديان الإبراهيمية الثلاث على أساليب متماثلة في العنف و القسوة عندما تستشعر أي خسارة أو هزيمة مهما صغرت) . والتكتيك الذي تتبعه هذه الحركات جميعاً هو السعي إلى خلق أجواء من التوتر والفوضى في كل الساحات لإثارة الخوف والرهبة في نفوس الأفراد، إدراكاً منها أن الخوف يدفع دوما بالأفراد إلى التعصب وإقصاء العقلانية، هذا النفي للعقل يتيح لقادة الحركات الأصولية فرض إرادتهم ووصايتهم على جماهير واسعة ، و ترصد فوريست الحركات الأصولية في المشرق وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ، و توضح كيف تقدم الأصوليات الثلاث الخدمة لبعضها بعضاً سواء عن تخطيط متعمَّد أو بصورة تلقائية نتيجة لتلاقي مصالحها .
هذا لا يعني أن الأصوليات الثلاث تحظى بنفس الموقف النسبي في مواجهة العلمانية ، ففي حين لم يعد أمام الأصوليين اليهود والمسيحيين سوى خوض معاركهم في مواجهة العلمانية من موقع دفاعي ، فإن الأصولية الإسلامية، التي استفادت على مدى عقود من التمويل النفطي وتحولت إلى إيديولوجيا سائدة ، تتيه الآن إنتشاء و تزهو فخرآ بعد انكسار النهضة و تبخر التنوير في البلدان التي تدين بالإسلام خاصة العربية منها، وبعدما تمكنت الأصولية النفطية من شق الصف العلماني ليتشكل فريق جديد يأخذ بنوع من العلمانية المساومة الرخوة في محاولة للحصول على جزء من الغنيمة البترولية ، أو لتجنب الأذى الذي يلحقه الإسلاميون بمخالفيهم .
منذ زلزال الحادي عشر من سبتمبر بدأ يتكثف وعي كوني بخطورة الانتفاضة الأصولية الإسلامية ، و توالت الدراسات الأكاديمية و خططت السياسات الدولية الموجهة ضد الأصولية الإسلامية ، و ما تثيره من مخاطر ، كان وهج التفجيرات المرعبة قويا بحيث أنه أخفى الوجه الآخر من المشكلة ، عودة المقدس إلى الساحة الدولية بقوة ،و انبعاث الأصوليات اليهودية و المسيحية بزخم تراكمي ، إن الصراع الكوني المتفجر الآن بين الإسلام و العالم ، و الذي فسره البعض بصراع الحضارات لا يمكن فهمه بمعزل عن إنتفاضة الأرثوذكسية اليهودية العنصرية ، و قيام دولة إسرائيل . أما في الأزمنة المعاصرة فيمكننا أن نرصد غزوة دينية يشنها الأصوليون اليهود والمسيحيون والمسلمون منذ نهاية السبعينات، و هذه الغزوة تجعلنا نستحضر تعبير البروفسير جيليس كيبل ( (Gilles Kepel و عنوان كتابه البليغ "إنه ثأر الإله" ( La Revanche de Dieu ) .
1- في شهر مايو 1977، و نتيجة جهود الأحزاب الدينية الإسرائيلية شكل الليكود أول وزارة يمينية متطرفة في تاريخ إسرائيل ، مما أنهى إنفراد تكبل العمل بتشكيل الحكومة الإسرائيلية ،ووضع الأحزاب الدينية في موضع صانع الملوك ، بحيث أصبحت تستغل هامشها الإنتخابي في تحديد من يحكم إسرائيل ،و هكذا انتهت الصبغة العلمانية التي حاولت إسرائيل أن تجمل بها جوهر الصهيونية الديني .
2- في السنة التالية برز كارول ﭭوتيلا Wojtyla، وهو كاردينال بولوني معروف بتصلبه ، ليصبح البابا يوحنا بولس الثاني. وبدأ معه زمن تطرف مواقف الكنيسة الكاثوليكية، التي تُعزَى بشكل خاص إلى عودة الكاثوليكيين التقليديين إلى الكنيسة بعد أن كانوا وصلوا إلى حد الانشقاق عنها تعبيراً عن الاحتجاج ضد المجمع المسكوني المعروف باسم «فاتيكان الثاني».
3- شهد العام 1979 ذروة المد اليميني الأصولي المعادي للعلمانية ، ففي شهر فبراير يُعلن آية الله الخميني جمهورية إيران الإسلامية، و بذلك تأسست أول دولة ثيوقراطية خالصة في التاريخ الحديث . ، و في 3 مايو 1979 تسلمت مارجرت تاتشر السلطة في بريطانيا العظمى .
4- تبعها رونالد ريجان إلى البيت الأبيض عام 1980 ، و كان كلاهما ينتميان إلى اليمين المتشدد . جاء التحول إلى اليمين خشنا و متطرفا ، و ارتبط ذلك بولادة اليمين الديني الأمريكي رسمياً، بخاصة ولادة التحالفات الكبرى مثل الأكثرية الأخلاقية moral majority، وهذا يعني بداية استيلاء المحافظين البروتستانت على الحياة الداخلية وعلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
5- مرت سنوات بعد ذلك لم يشهد العالم فيها نكسات أصولية كبيرة ، حتى أصبح هناك أمل بأن تكون الإنتفضاة الأصولية محودة و مؤقتة ، حتى جاء الحادي عشر من أيلول سبتمبر ليطلق الكراهية الطائفية من عقالها ، حيث أصبح العمل الانتحاري (الكاميكازه) تجسيدا لهمجية يستمدها الإسلام من جوهره الذاتي، ليس هذا فحسب ولكن تجسيداً لهمجية ينبغي أن تُنسي العالم ما عداها كله.
6- تصاعدت الإتهامات المباشرة للإسلام ، ووصل الأمر ليعلن رئيس وزراء إيطاليا بيرلسكوني أن المسيحية أسمى من الإسلام و أرقي ،و هكذا تم كسر كل قواعد الديبلوماسية تحت شمس الأصولية الحارقة .
إن التزامن في انتعاش الأصوليات الدينية اليهودية و المسيحية و الإسلامية ، كذلك التشابه في أساليب التجيش الجماهيري و اعتماد العنف المطلق كأداة ، بالإضافة إلى الإشتراك في الموقف المعادي للعلمانية و الديمقراطية ، كل ذلك يجب أن يدفعنا إلى دراسة العلاقة و التفاعل المتبادل بين الأصوليات الثلاث .
خلال نظرة كاشفة سريعة سيبدوا أن الأصوليين المسيحيين واليهود والمسلمون يتقاسمون نظرة ثيوقراطية متشابهة إلى العالم ، هذه النظرة تتناقض كلية مع الرؤية العلمانية ، و لكن هذا لا يعني أن هناك توافق بين الأصوليين الإبراهيميين ، وذلك لأن النظرة الثيوقراطية المتشابهة للعالم ، ليس لها نفس التأثير على حياة أتباعها ، هذا الاختلاف في التأثير نتيجة الإختلاف في طبيعة الدين نفسه ، كذلك نتيجة السياق الذي يتحركون فيه والخاص بكل دين ، و بالتالي نجد أنفسنا في مواجهين تناقضين مختلفين في الطبيعة و الحجم ، الأول بين الأصوليين بعضهم البعض ، وهو ما يطلق عليه صراع الحضارات الذي هو في صميمه صراع الأديان ، و المفترض في حالتنا أن يكون بين الحضارة اليهودية المسيحية من جانب و الإسلام على الجانب الآخر ، و الثاني بين الأصوليات الدينية و بين العلمانية ، يبقى أن نحدد ما هو الصراع الأساسي الذي يحكم عالمنا المعاصر ، هل هو صراع الأديان ، أم صراع الأصوليات ضد العلمانية و الديمقراطية ؟. و بعبارة أكثر تفصيلآ : أَيَخوضُ الأصوليون حربا بعضهم ضد بعضهم الآخر، أم أنهم يعملون معاً لتدمير الديمقراطية والعلمانية وتخريبهما ، و بالتالي هل يمثل التأزم الحالي صدام حضارات أم على النقيض صدام أفكار بين الثيوقراطية والديمقراطية؟.
يميز البروفسير جيليس كيبل ( (Gilles Kepel الخبير في الإسلام السياسي بين أسلوبين للأصوليين المسلمين في محاولاتهم المستميتة لتدمير الدولة المدنية و الإستيلاء على السلطة ، الأول ما يطلق عليه (الفتح من الأعلى)، عندما يحاول الأصوليون الاستيلاء على مواقع السلطة في قمة الهرم السياسي، وبين (الفتح من الأسفل) عندما يُرَكزون جهودهم على التبشير ميدانيا ، و على العلمانيين التصدي للهجوم الأصولي على الجبهتين معا ، مع التأكيد بأن الهجوم الأصولي ليس هو فقط ما تقوم به الجماعات المتطرفة ، و لكن يجب أن نوجه إنتباهنا أيضا إلى تجليات الأصولية في مختلف صورها ، فرغم أن المؤسسات الدينية أصبحت مؤسساتية ، إلا أنها لا تخلو من تأثيرات أصولية في العديد من القضايا خاصة ما يتعلق بالحق بالإجهاض، وبالوقاية من وباء نقص المناعة المكتسب (الإيدز) أو بحقوق المثليين الجنسيين، الذين يشن عليهم اﻠﭭﺎتيكان حرباً «صليبية» نشطة ، كذلك لا ينبغي أبداً التقليل من أهمية الدور الذي تلعبه الجماعات التي تبدو هامشية، كما يجب على الأخص ألا يغيب عن النظر كون هذه الشبكات قادرة على تغذية مناخ أصولي متطرف تستفيد منه تنظيمات أخرى أشد قوة و تطرفا .
إن أي تقدير عقلاني للموقف الذي يواجهه العلمانيون و الحداثيون و الديمقراطيون ، ليس فقط داخل الوطن أو في المنطقة العربية و لكن على إمتداد العالم كله ، سيقودنا إلى ضرورة بناء حركة علمانية أممية جديدة ، هذه الحركة تكون عابرة للثقافات وقادرة على تفكيك الحلف الذي جمع في العقود الأخيرة بين الناشطين تحت لواء المقدس في عدائهم المشترك للعلمانية والعلمانيين.