" ليس الدين هو الذي يؤسّس الأخلاق؛ فالأخلاق هي التي تؤسّس وتبرّر الدين " لندريه كونت-سبونفيل .
................................
في نقد العلمانية الرخوة
الأوان - الثلثاء 4 آب (أغسطس) 2009، بقلم إبراهيم أزروال
( 1 من 2 )
.....................................................
يعتقد بعض منظّري العلمانية في الغرب أنّ العلمانية هي مجرّد فصل إجرائيّ بين مجالات الدولة ومجالات الدين. ويذهب الكثيرون إلى حدّ المطالبة بمراجعة الحلّ العلمانيّ والدعوة إلى العلمانية المفتوحة وإلى الانفتاح على المقترحات العقدية لحلّ الاستعصاءات النظرية والعملية للحداثة وللدولة الحديثة. وقد صاحب هذا الاستشكال قبولٌ غير مشروط لمعتقدات وسلوكيات، صادرة عن جماعات دينية موغلة في التقليدانية والأصولانية ومجافاة منطق الحداثة الفكرية جملة وتفصيلا. وبدلا من أن يتعامل المفكرون الغربيون، على نحو رافض لهذه القدامة العقدية، اختاروا مناصرتها باسم احترام حقوق الإنسان والحقّ في الاختلاف .
لقد قادت الاختيارات النظرية لما بعد الحداثة والليبرالية الاقتصادية، إلى إساءة التقدير الثقافيّ للآخر وإلى الافتقاد إلى الوعي التاريخيّ وإلى الاستشراف المستقبلي .
من الضروري التأكيد على انتظام المفكرين الغربيين في رفض الظاهرة الدينية ونقد العقل اليهودي – المسيحي، و وضع اللبنات الابستمولوجية ( المعرفية ) للحداثة الفكرية، منذ القرن السادس عشر على الأقلّ. فإقرار الحداثة الفكرية والسياسية، استلزم خوض حروب قاصمة مع الفكرية المسيحية، المتغلغلة في عمق النسيج الفكري الأوروبي والغربي، ومراجعة عميقة للمصادر النصية للمسيحية. فالانتقال من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة تطلّب إحداث قطيعة منهجية وابستمولوجية مع المعرفيات العرفانية والمنهجيات اللاهوتية. كما تطلّبت تلك النقلة تناوُلَ الكتاب المقدّس وتاريخ الكاثوليكية الرومانية تناولا نقديا، بعيدا عن تقريبات وتوفيقات النسق التأويلي القروسطي. فالعالم الحديث هو نتاج قطيعة منهجية وسياسية مع العالم القديم المحكوم والمحتكم إلى مناهج اللاهوت وأنساقه. ليست العلمانية من هذا المنظور مجرّد عودة متعقّلة إلى روح الإنجيل وإلى بساطة خطاب يسوع والمسيحية البدائية كما تعتقد التيارات المسيحية الإصلاحية في سعيها إلى التلاؤم مع الحداثة الفكرية، بل هي تفعيل للتعقيل الجذريّ للخطاب الدينيّ وتنظير لرؤية عقلية تاريخية إنسانية للعالم. فالعلمانية، والحال هذه، موقف نقديّ موجّه إلى الخطاب العقديّ الناهض على المسلّمات اللاهوتية وعلى البديهيات العقدية، وإلى الاستذهان الدينيّ المبنيّ على الماورائيات والغيبيات والمتعاليات .
إلا أنّ الخطاب العلمانيّ الغربيّ، تخفّف من حمولته النقدية والاستشكالية، وانخرط في عقد تصالحات مع فكريات طرفية مضادّة للحداثة في الصميم. واستغلّ مفكرّو تلك الثقافات الطرفية ظروف المراجعة النقدية لأصول الحداثة الغربية والخطاب الأنواريّ والمركزية الثقافية الغربية، لتمجيد الكيانات الثقافية الطرفية، وتكريس خصوصيتها المنهجية والنظرية، وحضورها الثقافي في الفضاءات الثقافية الغربية المعلمنة نفسها. فلئن عملت الحداثة على التعامل النقدي مع المصادر اليهودية – المسيحية، فإنّ الخطاب الليبرالي الجديد لا يروم استشكال الأنساق الاعتقادية الطرفية، باسم احترام حقوق الإنسان والتعددية الثقافية وحرية الاعتقاد ! .
من المحقّق أنّ العلمانية الرخوة افتقدت إلى الوعي التاريخي في تعاملها مع الثقافات الطرفية، وبخاصة الثقافة الإسلامية الموغلة في الانعزالية وفي التقليدانية. والانعزالية ليست ظاهرة عابرة في الفضاء الثقافي الإسلامي، كما يعتقد بعض المتخصصين في السوسيولوجيا السياسية أو في العلوم السياسية، بل هي مظهر جوهريّ لديانة اصطفائية، رافضة لكلّ التعابير العقدية البشرية ولكلّ تجلّيات التقديس الخارجة عن مدارها الخاصّ. يقوم الاعتقاد الإسلاميّ على التشكيك الكلّي في شرعية العقائد الأخرى سواء أكانت توحيدية أم تعديدية ، كما أنه يرفض كلّ المقاربات العقلانية للقضايا الكونية أو للشؤون البشرية. ولا اعتبار في هذا السياق لمحاولات التحديث الذاهبة إلى إمكان بلورة تسوية تاريخية بين الإسلام والحداثة، أو للجمع بين نسقين متناقضين من حيث القواعد الابستيمية.
العلمانية الرخوة منشغلة بالقراءة التاريخية للوقائع وبالاعتبارات السياسية والسوسيولوجية المعزولة عن الاعتبارات الابستمولوجية والمنهجية. وعليه، فهي تستبعد أيّة مقاربة فلسفية لإشكالية العلمانية، وأية مناولة ابستمولوجية للنصّ المقدّس.
فالعلمانية حصيلة تحوّلات جوهرية في الفكر والمنهج ورؤية العالم؛ العلمانية تجاوز ابستمولوجي وتاريخيٌّ للمنظومة الفكرية والسياسية للتوحيديات، وتطلّع إلى ترسيخ الحقائق المحايثة# ودعم سريانها في ثنايا الجسم الاجتماعي. ومن هنا، لا يمكن حصر العلمانية في حزمة من الإجراءات القانونية أو من التمييزات السياسية أو من التقنينات الفكرية؛ فالعلمانية إذ تصاقب العلم ومع العالم، تعلن انفصالها عن الحقيقة المتعالية وعن الماوراء. إنّ التأكيد على الدهرية وعلى العلمية، إعلان عن قطيعة منهجية مع اللاهوت والماوراء واستشكال البناءات النظرية الناهضة على مقرراتهما .
فالإشكال هنا إشكالٌ ابستمولوجيٌّ في المقام الأوّل، وإشكالٌ سياسيّ في المقام الثاني. لولا استشكال المعرفة التوحيدية في غرارها اليهودي – المسيحي، لاستحال إقرار العلمانية في التجربة الأوروبية، رغم كلّ الحروب المذهبية والطائفية. فالمنظومات العقدية تبرع في تحويل تراجيديا الاقتتال الطائفي إلى دلائل ومسوغات إضافية لتعزيز الرصيد الأخلاقي والمعرفي للمنظومة نفسها. فاللاأرثوذكسية لا تزيد الأرثوذكسية إلا ثقة في نسق الذات وفي حتمية قهرها للنسق المضادّ. وعليه، فلا يمكن اجتراح تدبير إجرائي أو تقني أو وظيفي مخالف، من داخل النسق اللاهوتي. فاللاهوت لا يمتلك العدة المفهومية أو المنهجية للحفر في تضاريس النصوص والكشف عن تشكّلها التاريخي وعن بنائها النصي، كما أنه لا يملك الكفاءة التاريخية لإدراك مفاعيل الزمانية في النظريات والعمليات الدينية. فاللاهوت يقتات بالتراجيديات وبالدراما البشرية للبرهنة على صلاحية نظرياته، ولبناء هوية عقدية لا تؤدّي وظائفها إلا ببناء وعي وحشيّ مستعدّ لأبلسة العالم وتفسيق الأغيار. فالإبدال العقديّ مغلق بطبعه، ولا يمكنه إلا أن ينوس بين البدعة والهرطقة، بين النص والتاريخ، بين الأنا والآخر، بين التعالي والمحايثة، بطريقة آلية لا تسمح بأيّ انعتاق من إسار المسلكية الدورانية .
لا مناص إذن من توطين العلمانية في فضاء ثقافيّ موسوم بالخصائص التالية :
1- الانفتاح على المعقولية والجماليات اليونانية والرومانية.
2- فتوحات المنهج التجريبي.
3- بروز الحداثة القانونية والسياسية.
4- عقلنة الفعالية الاقتصادية.
5- رفض المرجعية المتعالية والابستيمية اليهودية – المسيحية – الإسلامية .
ليست العلمانية محض آلية إجرائية أو وظيفية لحلّ أزمة قانونية أو إشكالية سياسية كما يعتقد الكثيرون. فالعلمانية ليست استجابة لأزمة تقنية في الإبدال اللاهوتي، بل هي عنصر مركزي في إبدال جديد، ينهض على إحلال الهيومانية محل"اللاهوتية"، والتدهير محلّ التقديس، والتاريخية محلّ الماورائية، والعقلانية محل النصانية. فلا يمكن للإنسان المعتزّ بإنسيته وبعقله وبقدرته على قراءة كونه الطبيعيّ والتاريخي والرمزي قراءة متفحصة مبدعة، إلا أن ينأى عن المثالات النظرية وعن الاستشرافات الماورائية للإنسان اللاهوتي الغارق في النصانية والرمزانية المتعالية .
لقد مثّل الانتقال من الإبدال اللاهوتيّ إلى الإبدال الحداثيّ، نقلة جوهرية في بنية الفكر النظريّ والممارسة السياسية. فالعلمانية الآتية في ركاب الأنسنة والتعقيل والتدهير والتزمين والتنسيب، لا يمكن أن تنحصر في محض مجموعة إجراءات وقائية أو احترازية. إنها لا تنهض فقط على عقد اجتماعي أو على ما سماه اونفري بالعقد المحايث Contrat immanentبل على عقد معرفي وأخلاقي جديد. وعليه، فالعلمانية إذ تنشأ في فضاء سياسي معقلن وديمقراطي، فإنها تفترض فلسفة أخلاقية خاصة وكونا دلاليا ملائمين لإنسان منفصل عن الترميز الغيبي وعن الاستيهامات الألفية للعقائد، فلا مجال إذن، لعزل العلمانية عن إشكاليات الأخلاقيات والمعنى، كما لا مجال لتقسيم الأدوار المعرفية والسياسية بين العلمانية والخلقية الدينية، فالعلمانية غير ممكنة من غير تنسيب المعنى المفارق، ومن غير معارضة الأخلاق الدينية ومن غير تفنيد نظرية المعرفة اللاهوتية .
فمن الضروري التنصيص هنا، على استحالة تصور العلمانية في غياب أي تنسيب للأخلاق والمعنى العقديين. فالعلمانية إذ تقرّر الأسبقية الابستمولوجية والمنطقية للأخلاق على الدين، تحرّر الأخلاق من الاحتكار العقدي .
يقول لندريه كونت-سبونفيل :
)ليس الدين هو الذي يؤسّس الأخلاق؛ فالأخلاق هي التي تؤسّس وتبرّر الدين بالأحرى. لا أتصرّف جيّدا لمجرد أنّ الله موجود، فلأنني مطالب بالتصرّف جيدا يمكنني أن أحتاج - ليس لأكون فاضلا ولكن من أجل اجتناب اليأس - إلى الإيمان بالله( .
................................
# المحايثة immanence : يعد مفهوم " المحايثة " من المفاهيم التي أشاعتها البنيوية في بداية الستينات، ليصبح بعد ذلك مفهوما مركزيا استنادا إليه يفهم النص وتنجز قراءاته. وأصبح "التحليل المحايث" هو كلمة السر التي يتداولها البنيويون كبضاعة مهربة تشفي من كل الأدواء. ف" التحليل المحايث" هو وحده الذي يجيب عن كل الأسئلة ويدرك كل المعاني. والمقصود بالتحليل المحايث أن النص لا ينظر إليه إلا في ذاته مفصولا عن أي شيء يوجد خارجه. والمحايثة بهذا المعنى هي عزل النص والتخلص من كل السياقات المحيطة به. فالمعنى ينتجه نص مستقل بذاته ويمتلك دلالاته في انفصال عن أي شيء آخر.
...............................
قمت بإجراء بعض الإختصارات و إعادة صياغة بعض الفقرات لتكون أكثر وضوحا .