"لو نظرنا إلى كل الإنجازات العلمية و الأخلاقية الكبرى التي عرفها الجنس البشري سنجد أنها تمت بالرغم من رجال الدين الذين قاوموها بضراوة باسم الدين و الأخلاق القويمة " .
العلمنة و الإلحاد.
في لقاء للكاتب المصري أنيس منصور مع صحيفة القاهرة اليوم ، سألت الصحيفة أنيس منصور عن مشاكل مصر ، ورأيه أن يكون حل هذه المشاكل في العلمانية كما ينادي البعض ، فما كان من الصحفي الشهير الذي بنى مكانته الأدبية على ترويج الأفكار الوجودية ، إلا أن اعترض قائلآ أن مصر دولة إسلامية و لا يمكن أن تكون علمانية !، بالطبع يدرك أنيس منصور أنه يغالط ، وربما يفهم القارئ الأريب أن أنيس منصور بهذه الإجابة كانت عينه على صحيفة الشرق الأوسط السعودية التي ينشر فيها ،و ليس على الحقيقة الغائبة في الفضاء الثقافي المصري ، و لكن هل كان يجرؤ على مثل هذه المغالطات لولا علمه بأن تلك المقولات لن يستهجنها أحد في المجتمع الأصولي المتخبط ؟ ، بالطبع لم يكن يجرؤ ، و لكن لسوء الحظ أصبحت مثل هذه المغلطات مفاهيما طبيعية مسلما بها في كثير من أنحاء العالم الإسلامي .
هذه الواقعة و غيرها كثير تجعلنا نرى كيف يصر مرتزقي الأصولية و أعداء العلمانية و على أنها مجرد مصطلح مرادف للإلحاد ، هناك البعض يعزون ربط العلمانية بالإلحاد في العالم الإسلامي إلى العنف الذي مارسته العلمانية الأتاتوركية و السلطات البعثية ضد المتدينين و المظاهر الدينية ، و لكن هل كانت الأتاتوركية تحديدا هي المسؤولة عن هذا الإعتقاد ؟ ، ربما يكون هذا صحيحا بالنسبة للبعض ، و لكن غالبآ ما يكون الإبهام و الغموض حول إلحاد العلمانية مقصودآ و متعمدآ من أجل هدف محدد ، ألا وهو أن يتخلى المؤمنون عن العلمانية ، و أن يقتصر نشاطهم السياسي على دعم الحركات الدينية ، وهذا يحدث بشكل منهجي في المجتمعات الخاضعة لتيارات أصولية عنيفة مثل السعودية و مصر و إيران ، حيث تصبح العلمانية من المحرمات .
كالعادة عندما تلتقي الأضداد ، هناك أيضا علمانيون متشددون يشاركون أعداء العلمانية نفس الرؤية المتطرفة لها ، هؤلاء المتطرفون لا يكونون علمانيين بالأساس ، فهم دائما عقائديون يتبنون مذاهبا إلحادية ، و يهدفون من إدعاء العلمانية إلى حماية عقائدهم الخاصة ، و هم يوظفون العلمانية لتبرير استخدام سلطة الدولة للتنكيل بأعدائهم من المتدينين ، بل هم في ذلك قد يتجاوزون أحيانا إلى حد تصفية هؤلاء الأعداء ، هذا ما حدث بالفعل في مجتمعات مثل كمبوديا الخمير الحمر ، و أيضا في مناطق السلطة السوفيتية في بداية الثورة البلشفية ، و لكن هؤلاء جميعا لا يمكن وصفهم بالعلمانيين ، فالعلمانية بالتعريف و الممارسة ليست ضد الدين ، و لكنها محايدة تجاه كافة الأديان .
نشعر الآن أننا في مواجهة سؤال منطقي هو ؛ كيف نميز بين موقف العلماني و موقف الشمولي اللاديني ؟، لحسن الحظ هناك بالفعل معيار واضح للتفرقة بين الرؤية العلمانية و رؤية المستلبين بالدوجما الشمولية الدينية أو الإلحادية ، هذا المعيار هو مدى قبول حرية الضمير و تثمينة كقيمة أخلاقية أساسية ، فالعلماني يقبل بالحريات الدينية و يحميها ، طالما لا تتدخل في الشأن العام ، على النقيض كلية من الإلحاد الشمولي الذي يبشر بالإلحاد و يعادي الممارسات الدينية و يجرمها .
كثير من فلاسفة العلمانية و مفكريها يرفضون الإلحاد السلبي بشكل مفتوح ، هذا الإلحاد السلبي يسعى لمجرد القضاء على الأديان بدون أي أجندة إيجابية بديلة ، إن العلمانية كما يمكن تصورها في إطار ما بعد الحداثة ( أو ما يمكن أن نطلق عليه التنوير الجديد) تعني 3 أشياء محددة .
1- فصل الدين عن الدولة .
2- أنسنة القيم التي يجب أن تتجه نحو إشباع إحتياجات الإنسان و اهتماماته الأساسية العميقة .
3- تقليص الممارسات و الأنشطة الدينية التي تهدف لقيام مدينة الله City of God على الأرض أو ما يقابلها من دولة الإسلام ، و ما يعادلهما من المشروعات الدينية ، و استبدالها بتلك التي تسعى لقيام مدينة الإنسان Human City ، أو الدولة المدنية الهيومانية .
لقد ظهرت العلمانية و تكرست تلبية لاحتياجات عملية برجماتية ، و لم تكن مذهبا أو فلسفة أو عقيدة ، هذه البرجماتية تحديدا مصدر قوة العلمانية ، فمن أسس للعلمانية و تطور بها لم يكن الجماعات المعادية للدين ، و لكنهم أفراد مستنيرون ، يسعون لحماية الحياة البشرية ، و يصونون العلم و الفكر من اضطهاد رجال الدين و تدخلهم العنيد في شؤون لا يعلمون عنها شيئا ، لهذا ليس مستغربا أن نجد أعدادآ كبيرة من المؤمنين في الغرب تدعم النظام العلماني نتيجة ذكرياتها عن الحروب الدينية المريرة ، كذلك نتيجة الويلات و الفظاعات التي عانتها الجماعات الدينية على يد جماعات دينية أخرى تشاركها نفس الحماس و لكن لأديان و مذاهب منافسة !.
عرفت أوروبا الإضطهاد الديني و حروبه لفترات طويلة ، اضطهد الكاثوليك الرومان الأقليات البروتسانتية كما حدث مع الهوجونوت Huguenots في فرنسا ، بينما ردت الدول البروتسانتية الصاع صاعين فاضطهدت الأقليات الكاثوليكية كما حدث في إنجلترا في عصر اليزابيث الأولى ، و هكذا كان هناك ( حرب الجميع ضد الجميع ) كما عبر برشاقة توماس هوبز ( فيلسوف إنجليزي مبتكر نظرية العقد الإجتماعي ) ، لقد انقضت سنوات طويلة من الحروب ، و سال الكثير من الدماء ، حتى أمكن الوصول في النهاية إلى السلام بين الأديان المتنافسة في أوروبا خلال صيغة العلمانية ، هذه العلمانية كانت أيضا المرفأ الآمن لكل الأقليات الدينية ، و التي أدركت فضائل العلمانية بسبب المعاناة الطويلة التي مرت بها . عرف اليهود الإضطهاد في أوروبا فقد طردهم المسيحيون من بلد إثر آخر ، و أخيرا قام النازيون بإبادتهم جماعيا ، اشتبك المسلمون و الهندوس في صراعات دينية عنيفة ، كما تبادل الشيعة و السنة القتل على الهوية في أكثر من مكان ، كذلك عرف البوذيون و السيخ طعم القتل لأسباب دينية ، كل هؤلاء ممن عانوا ويلات الحروب الدينية أو الإضطهاد يثمنون قيم العلمانية عاليا ، و من أجلهم توصل العقل البشري لأهمية تلك القيمة ، هؤلاء جميعا ليسوا معاديين للدين ، بل معظمهم متدينون ، أكثر من ذلك هناك طوائف شديدة التدين تقبل مبدأ فصل الدولة عن الدين مثل المرمون و شهود يهواه و المعماديين و غيرهم من الطوائف الدينية في الولايات المتحدة .
الكثير من المؤمنين على امتداد العالم يتبنون العلمانية ، و كل دوافعهم هي مقاومة الأصوليين و منعهم من اعتراض التقدم و تجميد المجتمع ليلائم تصوراتهم المصمتة ، لم تهدف العلمانية يوما إلى إنزال المسيح من سمائه ، و لكنها كانت تهدف إلى حماية برونو و جاليلو وسبينوزا من شرطة الضمير و محاكم التفتيش ، هذه الروح العلمانية الفاضلة كانت في صميم الثورة الأمريكية عندما رفعت شعار ( الحياة ، الحرية ،و البحث عن السعادة ) ، كما كانت في الثورة الفرنسية وهي تهتف ( الحرية ، المساواة ، و الإخاء ) ، و أيضا كانت ملهما للبشرية و هي تقر و تصيغ ( حقوق الإنسان ) ، العلمانية كانت خلف الصراع من أجل تقدم العلم البيولوجي ،و مقاومة الهجوم المجحف ضد الدارونية ، ضد العلوم الطبية و الدوائية ، ضد كل العلوم النافعة للجنس البشري ، وهي الآن مازالت تقوم بدورها المجيد للدفاع عن إجراء أبحاث الخلايا الجزعية ، و رفض الهجوم المجحف عن نظرية التطور .
لو نظرنا إلى كل الإنجازات العلمية و الأخلاقية الكبرى التي عرفها الجنس البشري سنجد أنها تمت بالرغم من رجال الدين الذين قاوموها بضراوة باسم الدين و الأخلاق القويمة ،و لم يسلموا بها إلا مرغمين و على مضض ، كل الإنجازات الكبرى بلا استثناء ، تحرير الرقيق ، حقوق المرأة ، الحريات الجنسية ، نظرية التطور البيولوجي ، نظريات الفلك و الفيزياء الكونية ، حرية التفكير و التعبير ، حرية الضمير ، رفض الهويات الدينية المتسامية ... الخ .
لقد نشأت القوى العلمانية و نمت في جوف الثورات الديمقراطية و الإنسانية الكبرى ، و تغذت على مبادئ حقوق الإنسان و كرامته ، هذه الكرامة التي هي حق أساسي للجميع ، للفقير و الغني .. للنبيل و السوقي على السواء ، ،و لعلنا نتفق أن الإنسان الديمقراطي و الهيوماني ليس ملحدا بالضرورة .
من أجل علمنة المجتمع نحن في حاجة لتبني ما يمكن أن يطلق عليه multisecularism علمانية تعددية ، و هي نماذج متعددة من العلمانية تلائم الفروقات العميقة داخل المجتمعات و بينها ، تلك الفروقات الحضارية و الثقافية و العرقية و الدينية و اللغوية و ... ، كلها تؤثر على مدى تقبل تلك المجتمعات للقيم العلمانية و التجاوب معها ، نحن أيضا في حاجة لأجندة واسعة قادرة على استقطاب أكبر عدد من المؤمنين بالأديان ، بهدف دعم و توسيع و تطوير القيم الإنسانية . لا يمكننا أن نهدف إلى إلغاء الأديان أو منعها كلية ، فهذا هدف مستحيل و بلا معنى ، لأن كثيرآ من الأديان تضرب عميقا في ضمير الشعوب ، و بعضها يصبغ أتباعها بهوية عقائدية منعزلة ، حتى ولو كان أولئك الذين ينتمون إلى تلك الأديان يكون انتماؤهم شكليا و اسميا بلا عمق .
إن آخر ما أهدف إليه هو الدعوة لتحصين المعتقدات الدينية و عدم نقدها ، خاصة عندما تكون تلك الدعاوى الدينية معادية للحقوق الأساسية للإنسان ، أو معادية للعلم و النظرة الإنسانية للعالم ، أو تدعوا للحرب ( الجهاد ) ضد الشعوب و الأديان الأخرى ، أو تسعى لنشر الخرافات و الخزعبلات ،و لكني فقط أحذر أن يكون العداء للدين وحده خلف الجهود التي تمارس باسم العلمانية و تحت لوائها .
إن محاولة ربط العلمانية بالإلحاد يتنافى مع سعي المجتمعات العلمانية الحديثة إلى إقرار التعددية المجتمعية pluralistic societies ، التي تهدف إلى أن يحيا كل إنسان وفقا لخياراته الذاتية ،و أن يترك الشأن العام ليكون موضوعا للإنضباط الذاتي ، هذا بالطبع سيكون هدفا مستحيلآ لو كانت العلمانية في التحليل النهائي ستفرض الإلحاد على الجميع . هناك أيضا الوجه الآخر المقابل من الرواية ، فسوف أقر أيضا أنه ليس سهلآ بل سيكون مستحيلآ على الإنسان شديد التقوى أن يتخلى عن رؤيته الدينية الأصولية للعالم ،و أن يتنازل عن محاولته إقامة دولة الإسلام ، أو لا يعطي لفكرة المسيح و الخلاص الأولوية على ما عداها ، هو بالتالي سيكون آخر من يركز جهوده على تحقيق السعادة لنفسه و للآخرين على الأرض ، أو يكدح من أجل قضية العدالة الإجتماعية و حقوق الإنسان .
نعم كلما تضائل دور التدين في المجتمع كلما إزدادت فرص علمنة القيم ، نعم معظم المتحمسين للقيم العلمانية كثيرا ماكانوا متدينين في مراحل مبكرة من حياتهم ،و لكنهم فقدوا الحماس لأديانهم القديمة ، و معظمهم ينتظمون في مجتمهاتهم الدينية بصورة شكلية أو إسمية فقط ، و لكنهم أصبحوا يحبذون و بحماس القيم العلمانية مثل التسامح و الحرية ، هؤلاء عادة من المفكرين واسعي الأفق الذين يرفضون قبول الأفكار التقليدية و ينفرون من التعصب و العداء المجاني لمخالفيهم في الدين و العقيدة ، و هناك أيضا من ينتمون لطوائفهم الدينية بصدفة الميلاد أو ضغط الأسرة و لا يرتبون عن ذلك الإنتماء أي التزام فكري ، يمكنني أن أقرر أيضا و بأمانة أن الإنسان غير المتدين سيكون أكثر قدرة على ممارسة الحياة المثالية ،و أن يوظف ملكاته و يشبع تطلعاته و احتياجاته ، و لكن هذا لا يعني أن تكون العلمانية حكرآ فقط على غير المتدينين .